عبد العزيز صالح
تعبير الشرق الأدنى القديم تعبير اصطلاحي تأثر إلى حد ما بالتعبير الأوروبي " The Ancient Near East" وقد امتدت معالم الحضارات القديمة فيه امتدادا عميقا واسعا، على الرغم من غلبة الطابع الصحراوي على معظم أراضيه. فانتشرت خلال عصور ازدهارها من أعالي الشام وأعالي العراق شمالا حتى سواحل بحر العرب "أو المحيط الهندي" جنوبًا، ومن شمال إفريقيا وشمال السودان غربًا حتى الخليج العربي شرقًا، وشغلت ما يشغله الشرق العربي في حدوده الحالية.
وبعد أن سايرت الحضارات الأولية الدهور الحجرية في هذا الشرق الأدنى بقية حضارات العالم المسكون التي عاصرتها، تميزت عنها بالسبق الحضاري منذ فجر تاريخها، أي منذ الألف السادس ق. م فصاعدًا، حين تمايزت بين حضارات وديان أنهارها الكبرى حضارتان أصليتان توافر لهما أثر عميق على أغلب ما تعاقب بعدهما من حضارات، ونعني بهما حضارة مصر وحضارة العراق، اللتين بدأ فيهما الانقلاب الرئيسي الثاني في مجالات الحياة المادية للإنسان القديم، وهو بدء حرفة الزراعة "بعد معرفة سر إيقاد النار" كما بدأ فيهما التطور المعنوي الكبير الثاني لثقافات الشعوب القديمة وهو بدايات الكتابة "بعد معرفة بدايات الفنون".
ثم ظهرت في الشرق الأدنى مع نضج ثقافات القديمة تشريعات وضعية متكاملة، وعقائد أخروية واعية، وبذور الوحدانية، وأسس العلوم، كما أشرقت فيه ديانات سماوية ساهم بعض أهله في نشرها وكانت ولا تزال هدى للعالمين القديم والحديث.
وظلت آثار حضارات الشرق المادية والفنية أوفر عددا وأعظم ضخامة مما عداها من آثار بقية الحضارات القديمة. كما استمرت تطوراته أوسع وأوضح من تطوراتها حتى أواسط الألف الأول قبل ميلاد المسح، حين أدت ظروفه وظروفها إلى انتقال موازين القوى وزعامة الحضارة من بلاده إلى أمة الفرس في شرقه وإلى بلاد الإغريق ومن تلاهم في شماله الغربي، وإن لم يكن هذا قد حرم الشرق الأدنى من أن يظل رمزا باقيا للأصالة، برغم كل ما تعاقب عليه من نكبات وشدائد، كما لم يحرمه من النهوض بعد قرون طويلة عملاقًا قويًّا في ثوب حضاري جديد بعد ظهور الإسلام على أرضه وبين أهله.
وربطت بين مواطن العمران الأولى في الشرق الأدنى القديم عدة روابط طبيعية وجنسية وحيوية بقيت آثارها المحسوسة حتى الآن. ومعروف ما للعوامل المناخية والبيئية من تأثير في نفسيات الشعوب وملامحها ومعايشها وأخيلتها، لا سيما في عصورها التكوينية الأولى التي كان ارتباط الإنسان فيها ببيئته وخضوعه لإيحاءاتها أكبر مما هو عليه الآن بكثير، وظلت الظروف المناخية التي سادت العصور التاريخية للشرق الأدنى متشابهة المظاهرة ومتشابهة النتائج إلى حد واضح.
وكانت ولا تزال تميل إلى الجفاف في معظم أحوالها، فيما خلا مناطق قليلة اتصفت بمناخها الخاص على سواحل البحر المتوسط وإلى حد ما على سواحل البحر الأحمر وبحر العرب أو المحيط الهندي. وظلت معابر الشرق الأدنى البرية التي استخدمها أهله القدماء في تنقلاتهم واتصالاتهم مفتوحة مطروقة في غالب الأحيان إلى حيثما تطلبت المصالح الإقليمية زيادة تحصيناتها وتشديد الرقابة عليها في فترات الغزوات الخارجية والهجرات العنيفة. وترتب على هذين العاملين أن ظلت أغلب الجماعات ذات الأثر في عمران الشرق الأدنى وتحضره من السلالات التي عرفت اصطلاحا باسم السلالات السامية الحامية، وقد تحدرت في بداية نشأتها من عائلة جنسية واحدة ذات أرومة لغوية متقاربة، ثم انضافت إلى هوامشها من حين إلى آخر هجرات شعوبية دخيلة وفدت من أواسط آسيا ومرتفعاتها ومن جزر البحر المتوسط، ولكنها وفدت في أغلب حالاتها قليلة الأعداد وعلى فترات متباعدة، وذلك مما شجع اللبانة السامية الحامية على أن تتشربها وأن تصبغها بصبغاتها ثم تذيبها تدريجيًّا في كيانها الجنسي واللغوي والفكري الكبير وقد نتج عن ذلك أن استمرت مظاهر التشابه في لغات شرقنا الأدنى القديم واتجاهات عقائد شعوبه وأساطيرهم أكثر وأوضح من مظاهر الاختلافات الإقليمية بينها.
وقد استشهدنا على ذلك بنماذج عدة تخيرناها من صور التقارب اللغوي بين المصريين القدماء وبين جيرانهم من أصحاب اللغات السامية والحامية في كتابنا السابق عن "حضارة مصر القديمة وآثارها"، ولهذا نحيل القارئ إلى ما ذكرناه فيه عنها. وحسب هذا الفصل من صورة ذلك التقارب أنه أمكن التعرف على ما يقرب من مائتي كلمة مصرية قديمة لا تزال أمثالها حية في مفردات اللغة العربية الفصحى، وهي مجرد قلة من كثرة اندثر بعضها، وانزوى بعضها الآخر في بطون المعاجم نتيجة للتطور الزمني والحضاري لمفردات الكتابة والحديث.
ولعل الأكثر دلالة على صلة الرحم القديمة هو وجود صلات جوهرية بين قواعد النحو في كل من اللغة المصرية القديمة واللغة العربية بخاصة، على الرغم من اختلاف صور الكتابة بينهما، ومن ذلك وجود حروف الحاء والعين والقاف في اللغة المصرية القديمة، وشيوع المصدر الثلاثي بين أفعالها، وغلبة الفعل المعتل الآخر فيها، وما أخذت به من سبق الفعل للفاعل، وإلحاق الصفة بالموصوف، واستخدام صيغة المثنى، وإضافة تاء التأنيث في نهاية بعض أسمائها وصفاتها المؤنثة، واستخدام ياء النسبة، وتمييز البعض من الكل، واستخدام كاف المخاطب وميم المكان ونون الجمع، مثلها في ذلك مثل اللغة العربية، وذلك فضلًا عن كتابة الحروف الساكنة وشبه اللينة في كلماتها دون حروف الحركة، وتشابه عدد من ضمائرها مع ضمائر بعض لهجات اليمن ولهجات العراق ولهجات جنوب الشام في العصور القديمة، مع اختلاف في طريقة النطق بين كل واحدة والأخرى، ولا شك في أن التقارب في قواعد النحو بين اللغات لا يتأتى إلى عن طريق وحدة أصولها القديمة.
غير أنه كان من البديهي أن يترتب على شدة انفساح رقعة الشرق الأدنى القديم، وتباعد المواقع الجغرافية لأطرافه، وتباين التكوينات التضاريسية لأجزائه، بعض التنوع الإقليمي في الأوضاع المعيشية والاجتماعية والسياسية لشعوبه ومجتمعاته.
وتتضح بعض صور هذا التنوع فيما ستتناوله الصفحات التالية من اختلاف ظروف البيئات النهرية والصحراوية والساحلية، ومدى توافر فرص الاختلاط والاتصالات، على تكوين القوميات القديمة وخصائص الشعوب هنا وهناك.
في وادي النيل:
إذا بدأنا بمصر، فلعل أقرب ما يتبادر إلى الخاطر من نصيبها في التمايز الإقليمي عن جيرانها، هو أن جريان نهر النيل في أرضها قد خفف نتائج جفافها المناخي إلى حد كبير، على الرغم من دخولها في النطاق الصحراوي العظيم الذي يمتد في أغلب بقاع الشرق الأدنى من الخليج إلى المحيط. ثم استطاع أن يطبعها بطابع خاص من الكفاية والاستقرار، وأن يوجه معايش أهلها وجهة زراعية غالبة مترابطة منذ أن أنس أجدادهم إلى ضفافه وزاد استقرارهم عليها في فجر تاريخهم القديم، ومنذ أصبحوا يستغلونه ويقدرون جوانب نفعه أكثر ما يتهيبون مظاهر جبروته وطغيان فيضاناته.
وأدت خاصية الامتداد الرأسي الطويل لنهر النيل من الجنوب إلى الشمال مع ندرة فروعه الطبيعية الجانبية في مصر، إلى توزيع مواطن العمران فيها على جانبيه توزيعا رأسيا أكثر منه أفقيًّا، وهي ظاهرة أدت فيما هو معروف إلى تكاثف سكانها في مناطق محدودة المساحات نسبيًّا، وإن سمحت في مقابل ذلك بتيسير الاتصالات المكانية ووسائل النقل المائية بينهم. وترتب على هذه الاتصالات البشرية والمكانية المتاحة بعض الأثر في الإيحاء إلى الحكام والمفكرين المصريين القدماء بواقع الترابط الطبيعي بين أجزاء أرضهم ومدى اتصال مصالحها ومقومات حياتها وقوميتها. وأفضى هذا الأثر أو هذا الإيحاء، مع غيره من مجريات الأحداث القديمة في مصر، إلى التبكير فيها بظهور أول وحدة سياسية كبيرة مستقرة معروفة في تاريخ البشرية كلها.
ولم تخل البيئة المصرية من مشكلات تطلبت أن يوجهها سكانها بالتحدي العملي والفكري حتى يتغلبوا عليها أو ييسروها ويقللوا من أخطارها. وغالبًا ما كانت التحديات ولا تزال من أهم الحوافز إلى الرقي والإبداع الحضاري.
والواقع أن أمور النيل والزراعة لم تكن هينة دائمًا في أوائل عصور التحضر المصري القديم، وإنما تخللتها مصاعب وظواهر ظلت تتطلب من أهلها كثيرًا من الصبر والجهد المتصل، وإن يكن جهدا منتجا في حد ذاته. ففيضانات النهر كانت ولا تزال، على الرغم من جودها وانتظام مواسمها، تستدعي اليقظة الجماعية لمواجهتها، وتتطلب التعاون لتقليل أخطارها، وتحتاج إلى كثير من بذل الجهد وتطوير المهارة لتيسير الانتفاع بها وتوصيلها إلى الأراضي المرتفعة عن مستوياتها. وبقيت بعض ضفاف النيل ومناطق دلتاه بخاصة، على الرغم من خصوبتها الفطرية، موطنا للأحراج النباتية والمناقع المائية طوال دهور ما قبل التاريخ وخلال أوائل العصور التاريخية ذاتها، وبهذا ظلت هي الأخرى تحتاج إلى تكاتف بشري وجهد متصل في سبيل استصلاحها وتهذيبها واستغلالها. وأدت جهود المصريين في الحالين إلى تزكية إحساسهم الجماعي بضرورة الارتباط بحكم مركزي مستقر يشرف على جهودهم العامة وينسقها وينظم الانتفاع بنتائجها.
وإذا كانت الصحراوات المصرية الواسعة قد شابهت غيرها من صحراوات الشرق الأدنى، في مظاهر فقرها الطبيعي، وفي أن هذا الفقر كثيرًا ما دفع بدوها المحليين إلى تعكير أمن حواف المناطق الزراعية وطرق التجارة البرية، وظلت نتيجة لذلك تستدعي اليقظة الدائمة من الحكومات المصرية القائمة لكسر شرة بدوها وإلزامهم حدود الطاعة قدر المستطاع، إلا أنه بقي لهذه الصحراوات من الخصائص ما تميزت به إلى حد ما عن غيرها.
فعلى نحو ما ظل النيل أبًا حانيًا لحضارة المصريين القدماء، على الرغم من الجبروت الظاهر لفيضاناته كانت صحراواتهم الجافة الموحشة أمًّا لحضاراتهم من حيث لم يحتسبوا. فقد أدى اتساع فيافيها الداخلية الخطرة إلى التقليل من إمكانية استخدامها سبيلًا للغزوات الشعوبية الخارجية التي كان يمكن أن تهدد استقرار وادي النيل الأخضر، وبذلك تحقق للمصريين نصيب كبير من الوحدة الجنسية النسبية ومن الأمن الدولي القديم. وكفلت لهم صحاراهم ومرتفعاتها، على الرغم من وحشتها، بعض مقومات مدنيتهم المادية، نتيجة لوفرة معادنها وفرة نسبية، وكثرة أحجارها مع تعدد أنواع هذه الأحجار وألوانها وضخامة بحورها مما سمح لهم بأن يقيموا على مر الزمن أضخم وأروع عمائر حجرية عرفها العالم القديم قبل نهضة الإغريق. بل إن رمال الصحراء القريبة من وادي النيل لم تكن بدورها بغير أثر في تزكية آمال المصريين في الخلود حيت استغلوا جفافها لصيانة رفات موتاهم ومقتنيات مقابرهم سليمة لآماد طويلة.
وما من بأس في أن يضاف إلى كل ذلك أن ما لقيه المصريون الأوائل من متاعب بيئتهم يقل كثيرًا عما عاناه بعض جيرانهم الشرقيين من مشكلات بيئاتهم، لا سيما إذا قدرنا أن البيئة المناخية في مصر كانت ولا تزال غير ذات تأثير معاكس على وجدان أهلها على الرغم من جفافها وقلة أمطارها، فهي إذا قورنت بكثير غيرها بيئة مأمونة العواقب هينة الحدة قليلة التقلب، ليس فيها من صراع الظواهر الطبيعية أو مظاهر الرهبة والصخب العنيف ما يوجه أهلها إلى اعتياد الصخب والعنف أو يطبعهم بطبعهم بطابع التمرد والقلق وتقلب الأهواء والمشاعر والعادات. ولهذا لم يكن من الغريب، أن يترتب على ما ألفه المصريون القدماء من غلبة الخير على الشر في أحوال نيلهم وواديهم وصحراواتهم ومناخهم بعض الأثر في صبغ حضاراتهم الطويلة بصبغة غالبة من مظاهر الاستقرار والاتصال، وصبغ حياتهم السياسية بطابع الهدوء والاستمرار، ثم الإيحاء إليهم بنوع من الشعور التلقائي بالكفاية، كفاية الجهد المنتج في الأرض، وكفاية الموارد النسبية بها، فضلًا عن كفاية مقومات الحضارة في بلدهم بوجه عام وبغير حاجة إلى مدد خارجي كبير.
ولم يكن انطباع المصريين بيسر البيئة واستقرارها ووضوح معالمها بغير أثر مرة أخرى في ثبات تقاليدهم الاجتماعية والثقافية، وصبغ إنتاجهم الفني القديم بصبغة غالبة من بساطة الخطوط ووضوح التعبير وسماحة الهيئة والطابع إذا قورن بغيره من الفنون القديمة، وذلك فضلًا عن ثبات عقائدهم الدينية التي استوحوها من بيئتهم، وبعدهم عن مظاهر التعصب المذهبي وتغليبهم طابع الرحمة في أربابهم على طابع العنف والنقمة. بل ولم يكن بغير أثر كذلك في تزكية آمالهم في عالم أخروي مستقر يجدون فيه أحسن ما استحبوه من الطمأنينة والكفاية والاستقرار في دنياهم.
وعلى أية حال، فليس في كل هذا ما يؤدي بالضرورة إلى تفضيل بيئة مصر على بيئة غيرها أو تفضيل حضارة شرقية على أختها، وإنما يكفي الاستشهاد به على ما يمكن أن يتأتى من تبادل التأثر والتأثير بين البيئة وبين أهلها، هنا وهناك، وما قد يترتب على ذلك من اصطباغ حياة الشعوب بخصائص معينة تحتسب لها أحيانًا أو تحتسب عليها أحيانًا أخرى.
في بلاد النهرين:
تشابهت تأثيرات الأنهار الكبيرة والصحراوات الواسعة في العراق القديم مع تأثيرات أمثالها في مصر في بعض أمورها واختلفت عنها في بعض آخر. فقد كفل نهرا دجلة والفرات لأهل العراق الأقدمين خصبًا وكفاية، ووفرا لهم نصيبًا كبيرًا من الاستقرار في المعيشة والسكن، الأمر الذي ساعد حضاراتهم الأولى على أن تنضج في عصور مبكرة لا تبعد كثيرًا عن العصور التي نضجت فيها الحضارة المصرية الأولى.
وعمل النهران وفروعهما على تيسير الاتصالات المكانية والمواصلات المائية وإتاحة فرص الارتقاء بصناعة السفن منذ فجر التاريخ العراقي القديم أو في أواخر الألف الرابع ق. م. ولكن الملاحة في النهرين لم تكن على الرغم من ذلك مأمونة دائمًا، وذلك نتيجة لشدة انحدارهما وسرعة جريان تياراتهما في أجزائهما العليا بعامة، وبطء جريانها وكثرة مناقعهما في أجزائهما الدنيا بخاصة، وذلك بحيث ظلت عملية عبور النهرين في بعض أجزائهما تحتسب من الأمور الشاقة التي رددت النصوص العراقية القديمة مخاطرها حتى في العصور الآشورية المتأخرة ذاتها (1) . يضاف إلى هذا أن فيضانات النهرين مع ما حملته للعراق من خصب ورخاء واستقرار ظلت قبل أن تخفف الجسور ومشاريع الري والصرف من وطأتها وحدتها، عنيفة مخشية الجانب في غالب أمرها، لعدم انتظام مواسمها ولشدة اندفاعاتها، وذلك إلى حد أن أصبحت عبارة "زوبعة الفيضان" مثلًا استخدمه أدباء العراق القدماء للتعبير عن كل أمر كاسح مدمر.
وقد تشتد هذه الفيضانات في غير فترات الحاجة الملحة إليها، بحيث قد تعنف خلال مواسم الحصاد، أو تعنف في أوائل الصيف حيث تؤدي شدة الحر والبخر إلى سرعة تسرب ماء الري وجفافه من الأرض.
وأفضت خاصية الامتداد العرضي الكبير للأراضي التي تتوسط النهرين والأراضي الواقعة على جانبيهما والمترامية على روافدهما وفروعهما "مثل الزاب الأكبر والزاب الأصغر وديالي والكرخة وبالخ والخابور .. "، فضلًا عن ظاهرة الامتداد الطولي الكبير للمناطق العراقية الواقعة بين الخليج العربي وبين جبال أرمينيا وزاجوراس، إلى إمكانية قيام وحدات سياسية وحضارية كثيرة متفرقة مستقلة بعضها عن بعض، نعمت كل منها بأسلوب حكمها الخاص في ظل دويلات المدن لفترات طويلة، ولكن تفرقها هذا أدى من ناحية أخرى إلى قلة إحساس أهلها بالضرورة الملحة إلى التكاتف السياسي والترابط القومي فيما بينها، إلا بوحي المطامع الإقليمية الطارئة التي تمثلت في أغلب أحوالها في رغبة بعض دويلات المدن في تعويض شح مواردها على حساب جيرانها، وتأمين طرق تجارتها إذا سلكت سبلها في أقاليم أخرى قريبة منها. وعملت هذه الأوضاع مع غيرها، على ما شهد به تاريخ العراق القديم من أن سياسته العالمة لم تتطور من الإقليمية إلى مرحلة الوحدة السياسية الكاملة والقومية الشاملة والاتساع الخارجي إلا في عصور متأخرة نسبيًّا "منذ عصر الأكديين" وبغير استقرار سليم طويل، ثم ما شهد به من استمرار المشاحنات الداخلية بين أمثال البابليين وجيرانهم الآشوريين على الرغم مما كان بينهما من صلة الجنس وقرب الجوار ووحدة الديار.
واتصلت ببلاد النهرين من الغرب والجنوب صحراوات وبوادي واسعة لم تخل من نفع كبير ومن متاعب كثيرة في الوقت نفسه. فكان من وجوه الخير فيها أن قامت على أطرافها أسواق تجارية رائجة، وخرجت منها هجرات سامية كبيرة نزلت أراضي العراق القريبة منها على فترات متقطعة، وكانت تشتد على أهلها الزراع في بداية اندفاعها ثم لا تلبث أن تطمئن بعد ذلك إلى أسلوب معايشهم وتكفل التجديد في دمائهم وتؤدي إلى التنويع في حضاراتهم، بل ونجحت أحيانًا في ضم شملهم وتوسيع حدودهم تحت راية زعمائها، كما فعل الأكديون الساميون الذين حققوا وحدة معظم العراق لأول مرة في القرن الرابع والعشرين ق. م، ثم اتسعوا بنفوذه الخارجي لأول مرة في تاريخه. وقلدهم بعد ذلك البابليون الساميون. كما أن بعض من عاشوا في واحات البوادي المتناثرة بين العراق وبين الشام ظلوا من أدوات الاتصال التجاري والتبادل الحضاري بين بلاد النهرين وبين ما أحاط بها من مواطن الحضارات القديمة الأخرى. ومعنى ذلك كله أن انكشاف حدود العراق للهجرات السامية الصحراوية لم يكن شرًّا كله "على خلاف ما تصفه به عادة أغلب المؤلفات التاريخية الحديثة".
ولكن صحراوات العراق وبواديه ظلت من وجه آخر شحيحة في مواردها الطبيعية من المعادن والأحجار، ولم تجد بما جادت به الصحراوات المصرية منهما. كما ظلت حوافها المطلة على أرض الزراعة تتطلب جهدًا عسكريًّا متصلًا لمراقبة تحركات وتحرشات قبائلها البدوية الرعوية التي لم تكن تنقطع.
وجاور بلاد العراق من الشرق شعب كبير قوي لا يقل عن شعبها قدمًا وحضارة وطموحًا، ألا وهو شعب عيلام في هضبة إيران. وكان من منطق الحوادث ألا ينقطع التنافس بينهما لاتصال الحدود واختلاف الجنس وتضارب المصالح وشهوة الغلبة, وبلاد العراق بلاد قارية داخلية ليست لها سواحل بحرية غير سواحل الخليج العربي في مناطقها الجنوبية، وأدى هذا بها إلى أن تتطلع دائمًا إلى مخرج غربي على ساحل البحر المتوسط يخدم مصالحها، سلمًا أو حربًا.
وعوضت المرتفعات الشمالية والشمالية الشرقية سهول العراق القريبة منها ببعض ما أعوز غيرها من المواد الأولية لا سيما الأحجار، لولا أن شعابها كثيرًا ما اجتازتها هي الأخرى هجرات آرية رعوية كاسحة، وكثيرًا ما جاست في وديانها أقليات متفرقة خشنة عز على أفرادها أن ينسجموا في معايشهم وعاداتهم مع الزراعين العراقيين المستقرين على السهول، وعز عليهم التوطن بسهولة معهم. وترتب على ذلك أنه كثيرًا ما فاجأت هذه الأقليات وتلك الهجرات دويلات العراق المتحضرة المعاصرة لها بين كل حين وآخر وقطعت عليها نضجها السياسي وحرمتها نعمة الاستقرار الطويل. وينطبق ذلك على ما فعلته هجرات الجوتين والكاسيين والحوريين والميتانيين فصلًا عن غزوات العيلاميين والخاتيين "الحيثيين" على التوالي.
ومرة أخرى لم تكن الهجرات الآرية التي نزلت أرض العراق شرًّا كلها، فقد توفرت لها جوانب أخرى نافعة، وقد لا يكون من قبيل المصادقة أن أقدم تشريعات آشورية معروفة حتى
الآن يغلب على الظن أنها ظهرت في عصر امتداد هجرات الحوريين الآريين إلى أرض آشور(2) .
ولعله كان لتعدد الجنسيات والهجرات التي نزلت العراق في عصوره القديمة بعض الأثر في ظهور تشريعات عراقية متعددة تنظم العلاقات بين الطوائف المختلفة من السكان، وظهور فكرة معاجم المفردات المقارنة باللغات القائمة في حينها لتيسير انتفاع الجماعات المتنوعة بها.
وأخيرًا قد لا يكون من المستبعد أنه ترتب على ما تعوده أهل العراق القديم من الظواهر الغالبة لفيضاناتهم وصحراواتهم وجبالهم من حيث غلبة المشكلات فيها إزاء المنافع، فضلًا عن تقلبات المناخ وحدة الفوارق فيه، بعض الأثر في صبغ حياتهم القديمة بغير قليل من الحدة والتوتر، وهي صبغة توفرت لها مزاياها أحيانًا، كما توفرت لها عثراتها أحيانًا أخرى. بل وتوفر لها بعض الأثر كذلك فيما رددته أساطيرهم عن شدة عداء بعض أرباب بيئتهم لبعض ومنافسة بعضهم بعضا، وبعض الأثر أيضًا في توجيه فنون النحت والتصوير، في عصورها الأولى بخاصة، إلى إيثار المبالغة والميل إلى إشاعة الرهبة، ثم صرف معظم جهودهم الفكرية القديمة إلى توفية مطالب دنياهم والتشريع لمعاملاتها دون اهتمام صريح عميق بأمور الآخرة وفلسفات الحساب والثواب المعنوية، على خلاف المصريين القدماء، وذلك رغم ما تدل عليه بعض الآداب العراقية من رغبة حكمائهم الملحة في تحصيل الخلود الدنيوي ودفع الموت والفناء بكل سبيل "في مثل قصص جلجميش وغيرها" (3) ، ومع ما تدل عليه نصوصهم الدينية من حرصهم على إرضاء أربابهم في دنياهم وطمعهم في أن يدع هؤلاء الأرباب أرواح موتاهم آمنة في عوالمها البعيدة الغامضة (4) .
في بلاد الشام:
خضعت بلاد الشام في تاريخها القديم لإيحاءات بيئتها وخصائص موقعها، شأنها في ذلك شأن غيرها من مواطن الحضارات القديمة. وكان أوضح هذه المظاهر والخصائص تأثيرًا فيها هو وضوح التنوع في تضاريسها وتعاقب الفواصل الجبلية فيها، وتباعد مناطقها الخصبة بعضها عن بعض. فقد ترتب على تنوع تضاريسها كثرة التباين بين ميول أهلها، أهل الجبال، وأهل السواحل، وأهل السهول والوديان، وأهل البوادي والصحاري، وصعوبة اتحادهم في وحدة قومية صريحة خلال الغالبية العظمى من عصورهم القديمة. وأفضى قيام الفواصل الجبلية في بلاد الشام وتباعد مناطقها الخصبة بعضها عن بعض إلى النتيجة نفسها، فتوزعت الوحدات السياسية والاقتصادية في طول البلاد وعرضها على هيئة دويلات صغيرة أسهمت كل منها بدورها المجيد في ركب الحضارة، ولكنها ظلت متفرقة الإمكانيات، محدودة المساحات، محدودة وسائل الهجوم والدفاع، ولم يلتئم شملها في وحدة سياسية كبيرة طوال عصورها القديمة.
وتوسطت بلاد الشام بين حضارة النيل وبين حضارة النهرين، فكانت من أدوات الوصل بينهما واستفادت منهما. وظلت مناطقها الشرقية والشمالية الشرقية أكثر تجاوبًا مع حضارات بلاد النهرين، بينما ظلت مناطقها الساحلية الغربية ومناطقها الجنوبية أكثر تجاوبًا مع حضارة النيل منذ مراحلها العتيقة الأولى. وأفضى هذا إلى نتيجة أخرى، وهي أن مناطق الاحتكاك في بلاد الشام كثيرًا ما غدت ميدانًا للتنافس السياسي بين جارتيها القويتين مصر والعراق. ووقعت أعالي سوريا في الوقت ذاته بين الكتلة السامية في الشرق الأدنى وبين المجموعة الآرية التي تحف بها في آسيا الصغرى وأعالي النهرين، فكانت ميدانًا للاتصال الحضري بينهما واستفادت بذلك منهما، ولكنها بقيت في الوقت نفسه ميدانا للتنافس المسلح بينهما، فشقيت بذلك بهما.
وظلت بوادي الشام من أهم مناطق الجذب والدفع البشريين في الشرق الأدنى، ولم تهدأ الحركة فيهما في أغلب عصورها القديمة. وقد اكتسبت خاصية الجذب نتيجة لتميزها عن صحراوات شبه الجزيرة العربية المتصلة بها في جنوبها، بوفرة عشبها الطبيعي وفرة نسبية وصلاحية بعض واحاتها للإقامة والتكاثر صلاحية نسبية، فترتب على ذلك أن أصبحت منطقة إغراء بالنسبة لقبائل هذه الصحاري كلما ازدادت كثافتهم عن طاقة مواردهم المحدودة، وكلما طالت موجات الجفاف واشتدت على مراعيهم، وكلما مزقت الخلافات الداخلية شمل قبائلهم وبطونهم وأجبرتهم على ترك مواطنهم. واكتسبت هذه البوادي خاصية الدفع، من ناحية أخرى، نتيجة لوقوعها بين منطقتين غنيتين تمتازان عنها من مناطق الهلال الخصيب، وهما ضفاف الفرات شرقًا والسهول المطلقة على سواحل البحر المتوسط غربًا، وذلك مما جعل هاتين المنطقتين مطمحا دائمًا لأهلها، فتسربوا إلى دولهما في تحركات بطيئة صغيرة عديدة خلال عهود تماسكها السياسي وقوتها العسكرية، كما اندفعوا إليها في هجرات كبيرة غالبة في عهود تخلخلها السياسي وضعفها الحربي.
ولم تقم البادية وحدها بعمليتي الجذب والدفع البشريين في تاريخ الشام، وإنما شابهتها في ذلك إلى حد ما بعض المناطق الجبلية الساحلية، مثل مرتفعات لبنان. فقد حفلت هذه المرتفعات بغابات متسعة من أشجار الأرز والصنوبر استغلها السكان في تنشيط الملاحة البحرية وضمنوا بها موردًا تجاريًّا ضخمًا في تعاملهم مع كل من مصر وبلاد النهرين، ولكن غناها النسبي هذا بمواردها الطبيعية جعلها مناطق إغراء في الوقت ذاته لطمع الهجرات والغزوات الهندوآرية ذات الصلة بأمثال الحوريين والميتانيين، الذين اندفعوا عليها على فترات مختلفة عن طريق ثغرة حلب وجنوبي الأناضول، وذلك فضلًا عن إغراء السيطرة الاقتصادية أو السياسية عليها من الدول القوية المحيطة بها.
واكتسبت نفس المناطق المرتفعة خاصية الدفع من جهة أخرى، نتيجة لأن غناها النسبي ليس من شأنه أن يوفر الحياة الرغدة لغير الأعداد المحدودة من السكان، بينما هو يعجز عن توفيرها بكفاية كلما تكاثفت أعدادهم وتضخمت فوق طاقة مواردها الطبيعية، فلا يكون أمام بعضهم حينذاك إذا شاءوا أن يستعيدوا رغد الحياة إلا أن يلتمسوا أسباب الرزق الواسع بالهجرة إلى أرض أخرى تستوعب طموحهم وترضيه.
وامتدت سواحل الشام امتدادًا طويلًا على البحر المتوسط، ومثلت جزءًا كبيرًا من النهاية الغربية لمنطقة غرب آسيا. وأدى هذا الوضع الطبيعي إلى عدة نتائج حيوية، فكان له أثره في ازدهار عدة مواني طبقت شهرتها آفاق العالم القديم وأصبحت عصبًا لدويلات مدن مستقلة ثرية. وكان له أثره في توجيه نشاط أهلها وجهة بحرية وتجارية غالبة وقيامهم بدور الوسيط الاقتصادي والثقافي بين المناطق الداخلية في غرب آسيا وبين جزر الحوض الشرقي للبحر المتوسط من ناحية، وبين سواحل إفريقيا الشمالية من ناحية أخرى، كما كان له أثره في تشجيع بعض طوائفهم على الهجرة إلى الخارج عن طريق البحر المفتوح. ثم كان له أثره في استقبالهم هجرات كثيرة وفدت عليهم عن طريق البحر وكانت لها منافعها كما كانت لها أخطارها. وقد أدت هذه العوامل كلها إلى وضوح الاختلاط الجنسي بين أهل السواحل وتزويدهم بنصيب كبير من المهارة التجارية مع المرونة في التعامل وقدرة ملحوظة على التأقلم السريع بخصائص المجتمعات التي عاشروها أو التي اضطرتهم الظروف إلى الانتقال إليها والتماس الإقامة القصيرة أو الإقامة الطويلة فيها.
في شبه الجزيرة العربية:
حمت ضخامة الكتلة الصحراوية الكبيرة في شبه الجزيرة العربية أهلها من أخطار الغزوات الكثيفة، فكفلت لهم نعمة الاستقلال آمادًا طويلة، وساعدت على نقائهم الجنسي واللغوي إلى حد مناسب، وجعلتهم وسطاء لا غنى عن الاستعانة بهم في عمليات الوصل التجاري البري بين سواحل المحيط الهندي وسواحل شرق إفريقيا من ناحية، وبين ضفاف الفرات في العراق وسواحل البحر المتوسط في الشام وحدود مصر الشمالية الشرقية من ناحية أخرى. وربما أسبغت عليهم طبيعتهم الطلقة الرحبة القاسية في الوقت نفسه شيئًا من صفاء الذهن وتوقد القريحة، وإن لم يصلنا للأسف من آثارها الحضارية الأولى حتى الآن غير قليل مما أثر عن عشية ميلاد المسيح وصبحه بالنسبة لمناطقهم الجنوبية، وقليل مما أثر عن عشيرة الإسلام وصبحه بالنسبة لمناطقهم الشمالية.
ولكن ضخامة الكتلة الصحراوية الجافة في شبه الجزيرة عملت في الوقت ذاته على تضييق آفاق الاستثمار القديمة أمام أهلها فيما أقامت شعوب الهلال الخصيب القريبة منها حضاراتها المادية عليه، سواء من حيث وفرة الإنتاج الزراعي ورواج الصناعة، أم من حيث اتصال العمران وكثرة السكان. كما قللت تفاعلهم مع هذه الحضارات تفاعلًا إيجابيًّا عميقًا، وإن لم تحرمهم تمامًا من الاحتكاك بها والاستفادة منها استفادة متقطعة عن طريق مناطق الحواف الحدودية وعن طريق الاتصالات التجارية.
وفرضت الظروف الطبيعية لشبه الجزيرة على حياة أهلها نصيبًا من التنوع. وترتب هذا التنوع على ضخامة مساحتها وتباين تضاريسها واختلاف مواقع أطرافها وبطء الاتصالات بينها ثم تفاوت نوعية فرص الاستفادة التي تهيأت لكل جماعة من جماعاتها. فشبه الجزيرة العربية من أكبر أشباه الجزر القارية مساحة كما هو معروف، وقد توزعت فيها تلال عادية الارتفاع وجبال شاهقة الارتفاع. وامتدت حولها سواحل صخرية يصعب الانتفاع بها وسواحل أخرى سهلية يتيسر استغلالها. وانتشرت في بعض أماكنها حرار وبراكين صغيرة ظلت ترمي بالحمم ويصدر عنها نيران ودخان حتى ظهور الإسلام، وشغلت أواسطها صحراويات شاسعة مترامية تنوعت هيئات كثبانها وأشكال رمالها.
كما توزعت فيها مناطق تنزلها السيول العنيفة، وأخرى خصبة تصلح للاستغلال، وثالثة قاحلة تعز عليها موارد الماء من الأرض ومن السماء على السواء، وأدى هذا التباين الإقليمي والتنوع البيئي في شبه الجزيرة إلى اختلافات ضمنية في معايش واتجاهات سكانها القدامى، البدو منهم والحضر، والجبليين والمزارعين، والشرقيين والغربيين والشماليين والجنوبيين، مع اتساع المسافات الفاصلة بينهم، وكان لذلك بعض الأثر أيضًا في حرمان شبه الجزيرة من الوحدة السياسية الكاملة إلا حين وحد الإسلام بين جماعاتها وأطرافها، ثم حين ظهرت الوحدات والدول الكبيرة في العصر الحديث.
وكان أهم ما تداولته المناقشات التاريخية عن توجيهات بيئة شبه الجزيرة العربية لأهلها، هو دفعها لأغلب قبائلهم القديمة إلى التحركات الداخلية من منطقة إلى أخرى بين كل حين قصير وآخر، ثم دفعها لبعضهم في هجرات كبيرة إلى ما يجاورهم من مناطق الهلال الخصيب بين كل حين طويل وآخر.
وتمثلت دوافع التحركات الداخلية القديمة، فيما هو معروف، تفرق موارد الماء، وتغير مناطق العشب والرعي، وتسابق القبائل، والعشائر إلى استغلال هذه الموارد، والمناطق ومحاولة التحكم فيها كلما استطاعت سبيلًا إلى ذلك، فضلًا عن كثرة المنازعات والحروب الداخلية التي تغذيها الطبيعة البدوية والروح القبلية، واضطرار الجماعات المستضعفة إلى النزوح خلالها عن مواطنها المحلية إلى حيث تبحث عن الأمن والاستقرار ولو بعيدًا عنها. وترتبت على هذه التحركات الداخلية مزايا وعيوب. وتمثلت مزاياها في اعتياد البدوي القديم على حرية السعي والانتقال، وتجدد رغبته في أن تظل مسالك الأرض العربية مسالكه يسعى فيها أنى شاء ويتلمس رزقه فيها حيثما شاء، طالما توفرت له الوسيلة والجرأة وطالما اطمأن إلى مساندة عشيرته وكثرتها. وذلك على حين تمثلت عيوبها في أنها كثيرًا ما شلت أيدي رؤساء القبائل الكبيرة القديمة عن توحيد كلمتهم داخل وحدات سياسية مستقرة واسعة تستطيع أن ترسي مقومات الحضارة الثابتة وتطورها وتنميها، إلا لمرات معدودة ولفترات محدودة، وذلك نتيجة لتباعد مواطن بعض هذه القبائل عن بعض، واختلاف مصالحها الخاصة، وتضارب الحريات التي افترضتها لأنفسها، ثم حرص أوفرها عددًا وبأسًا على توسيع مجالات نفوذها وحرياتها وأرزاقها على حساب غيرها، دون كبير اعتبار منها لفكرة الصالح القومي العام ودون التزام كبير منها بحقوق بقية القبائل الغريبة عنها أو العشائر المستضعفة إزاءها، على الرغم من وحدة الجنس واللغة والديار بين الجميع.
ولم تقتصر مظاهر التحركات الداخلية على المناطق الصحراوية الشمالية في شبه الجزيرة، وإنما امتدت مسبباتها ونتائجها كذلك إلى بعض المناطق الصالحة للاستقرار الطويل في الجنوب العربي، فكثيرًا ما أفضت منازعات أمراء القبائل الجنوبية هناك، وأطماع الدول الجنوبية فيما بينها، بل ومنافسات أقاليم الدولة الواحدة منها، كمنافسات الهمدانيين والريدانيين والسبأيين بعضه لبعض، إلى استهلاك قوى دولهم ودويلاتهم وإمارتهم وتقصير أمدها وتشتيت بعض أهلها. وكثيرًا ما دفعت هذه المنافسات بطونا إلى ترك أمهاتها إلى أطراف الجنوب والرحيل عنها إلى مواطن أخرى شمالية بالحجاز وما وراءه، بل وإلى نجد أحيانًا على الرغم من فقر بيئتها الداخلية عن بيئة الجنوب.
وانشعبت الآراء في تعليل دفع شبه الجزيرة العربية لبعض سكانها في هجرات خارجية كبيرة إلى مناطق الهلال الخصيب في العراق والشام ومصر، إلى ثلاثة: رأي تصور أصحابه "ومنهم كايناتي" أن شبه الجزيرة كانت أشبه بمستودع بشري كبير للساميين، وأن نوبات الجفاف الشديدة الطويلة التي تعاقبت عليها في دورات مناخية ثابتة ظلت عاملًا أساسيًّا في ضيقها بسكانها الزائدين عن طاقة مواردها الطبيعية وظلت سببًا في دفعها إياهم إلى الهجرة الكثيفة منها على حقب متباعدة يفصل بين الواحدة منها والأخرى نحو ألف عام (5) .
ورأي آخر عارض تعليل الرأي الأول، وهون أصحابه "ومنهم موزيل" من أهمية تأثير نوبات الجفاف في عملية الدفع الكثيف إلى الخارج. ورأوا أن تحديد الدورة المناخية وما بين فترات الهجرة بألف عام ليس له ما يزكيه. وقدروا من ناحيتهم أن أسباب الهجرات العربية الكبيرة القديمة انحصرت أساسًا في عاملين بشريين وهما: تعاقب الضعف السياسي على إمارات شبه الجزيرة العربية من حين إلى آخر، ثم تحول الطرق التجارية عن مسالكها الداخلية لسبب أو لآخر. وأقام هذا الرأي حجته عن أساس أن الإمارات المستقرة القوية تستطيع أن تذود عن ديارها وأن تحمي مواردها الطبيعية وتنميها، وتستطيع أن تحسن استغلالها وتنظم الانتفاع بها، وتستطيع أن ترعى أسباب العمران في أرضها، وتستطيع أن توفر السلام لأهلها وتيسر الرزق لأعدادهم المتزايدة، طالما احتفظت بقوتها، فإذا ما اعتراها التمزق السياسي أدى إلى عجزها عن حماية أرضها ومواصلة مشاريع التنمية والاستغلال ومسايرة العمران فيها، والعجز عن حفظ الأمن والسلام الداخلي، حتى ينتهي الأمر إلى شيوع الفتن والفرقة في أقاليمها، وإلى بوار أرضها وإهمال موارد الري فيها والعجز عن تنظيم استغلالها، والعجز بالتالي عن توفية مطالب سكانها.
ولم يقل أثر تحول الطرق التجارية الرئيسية، في نظر أصحاب هذا الرأي، عن أثر ضعف الإمارات في عمليات الهجرة الكثيفة على أساس أنه كان من شأنه كلما حدث أن يفضي إلى كساد التعامل وبوار الأرزاق وانتشار الفقر والمجاعات على امتداد الطرق التجارية الداخلية وفي محاط القوافل التي يقل نشاطها، ثم يؤدي في نهاية أمره إلى ضيق أهلها بأرضهم وضيق مواردها بهم.
وهكذا إذا اشتد تأثير أحد العاملين، تمزق الإمارات، أو تحول طرق التجارة ومواردها، أو ازدوج هذان العاملان، لم يكن هناك مناص من أن تترك جماعات كثيرة من السكان مواطنها وتهاجر منها إلى مواطن خارجية أخرى تطمع أن تأمن فيها على أهلها وتطمع أن تضمن فيها معاشها (6) .
ويبدو أن هذا الرأي كان أكثر التفاتًا إلى ظروف الجنوب العربي حيث قامت دول وانهارت، وحيث اشتدت المنافسات الداخلية والخارجية على تحويل طرق التجارة من مسار إلى مسار بين كل حين وآخر.
وجمع رأي ثالث بين وجهتي النظر السابقتين، واعتقد أصحابه "ومنهم حزين" أن العوامل السياسية التي تمثلت في ضعف الإمارات وعجز الحكام عن رعاية مصالح أرضهم، كما تمثلت في نشوب الفتن والمنازعات، هي عوامل يشتد أثرها في دفع الهجرات فعلا، ولكنها غالبًا ما تكون عوامل مباشرة وليست عوامل أصيلة. أما العوامل الأصيلة فتتمثل في الجفاف الطبيعي نفسه، وذلك بمعنى أن منازعات القبائل على الماء والمرعى تشتد عادة بعد ظهور الجدب البيئي فعلًا، وأن ضعف الإمارات يشتد بدوره بعد بوار مواردها وبعد حدوث القحط فعلًا، لا سيما وأن نزوح الهجرات كان يبدأ عادة من المناطق المعرضة للجفاف الشديد أكثر مما يبدأ من غيرها (7) .
ونرى تزكية آراء هذا الاتجاه الأخير، مع إضافة ملاحظة رئيسية عليه، وهي أنه مع منطقية اعتبار شبه الجزيرة العربية مصدرًا أوليًّا لكثير من العناصر السامية القديمة التي انتشرت في الشرق الأدنى القديم، إلا أنه ليس ثمة ما يؤكد اتجاه هجراتهم الكثيفة منها إلى الأراضي الزراعية في بلاد الهلال الخصيب رأسًا وفي دفعات كبيرة أو فترات قصيرة، وذلك لأمرين: أولهما أن نزوح هجرات كثيفة متماسكة من أرض ما يتطلب عاملًا أساسيًّا وهو أن تسمح موارد هذه الأرض في أحوالها العادية بشدة تكاثف سكانها، حتى إذا نزل القحط بها واشتد وطال أمده ونضبت معه مواردها، اضطرت أعداد كبيرة من سكانها الكثيرين إلى أن تنشد لنفسها حياة أفضل من حياة أرضها، وذلك على نحو ما حدث في مناطق الإستبس الأورو آسيوية أكثر من مرة في تاريخها القديم وتاريخها الوسيط.
أما موارد شبه الجزيرة العربية في عصورها القديمة، فلم تكن تسمح بالتكاثف السكاني الكبير، في حدود المعلومات المعروفة عنها حتى الآن وبغض النظر عن الدهور الحجرية المطيرة التي سبقت عصور الهجرات التاريخية بعشرات الآلاف من السنين. وإنما الأقرب إلى الظن فيما يبدو هو أن الهجرات السامية الكبيرة لم تكن تصل من شبه الجزيرة إلى مناطق الهلال الخصيب دون أن تمر ببضع مراحل تمهيدية.
وذلك بمعنى أن عوامل القحط والجفاف الشديد وضعف الإمارات ونشوب الخصومات وتغير مسالك التجارة كان من شأنها أن تدفع جماعات قبلية صغيرة أو كبيرة إلى التحرك في هجرات بطيئة متقطعة من شبه الجزيرة إلى بوادي الشام وبوادي العراق حيث المعيشة أنسب وآثار القحط أخف وحيث البيئة أقرب إلى بيتها الأصيلة، وحيث هي معتادة عليها في هجراتها الفصلية. فإذا نجحت أمثال هذه الهجرات القبلية المتقطعة في الإقامة بمواطنها الجديدة مع سكانها الأصليين بناء على تراض واتصالات سابقة، أو بناء على القسر والغلبة، تشجعت جماعات قبلية أخرى من جاراتها وألحقت بها، أو مرت جماعات أخرى بنفس ظروفها وكررت فعلتها ..
وتبدأ مرحلة تالية إذا طال توطن هذه الجماعات في بيئتها الجديدة، وساعدتها ظروفها على التكاثر الجنسي والتكاثف المعيشي النسبي، واقترب أهلها شيئًا فشيئًا من أطراف الهلال الخصيب بعد أن سمعوا بخيراتها أو دفعتهم ظروفهم إليها، ثم تعاملوا معها ونهلوا بعض الشيء من أرزاقها ولمسوا رخاءها وطمعوا في أن ينعموا بنصيب منه. وترتبط هذه المرحلة بالأمر الآخر الذي بنينا عليه ما أضفناه على المذهب الثالث في تعليل الهجرات العربية الكبيرة، وهو أنه لم يكن من اليسير على أصحاب هذه الهجرات وأغلبهم من البدو الرعاة أن يسارعوا بتغيير حياتهم إلى مزارعين مستقرين في الهلال الخصيب بعد وقت قصير من نزوحهم عن صحراواتهم. وجدير بالذكر، على سبيل التشبيه الضيق، أن طغيان العوامل البيئية على مقومات الحياة البشرية في بعض مناطق شبه الجزيرة وعمله على تقليل فرص الاستقرار والاستثمار الطبيعي أمام سكانها بقيت بعض آثاره حتى العصر الحديث فيما قبل استغلال النفط. فإقليم الأحساء على سبيل المثال، وهو إقليم ساحلي سبخة كثير المياه والزروع في أحواله العادية، كثيرًا ما تعرضت أرضه المحيطة بالعقير والقطيف، وهي من مناطق الاتصال الرئيسية بين المنطقة الشرقية لشبه الجزيرة العربية وبين جيرانها على الخليج العربي وفي جنوب العراق، لزحف الكثبان الرملية الكثيفة التي قد تغطي مزارعها أحيانًا وتطويها، بل إنها لتكسو حين شدتها أشجار الأثل والنخيل النامية في المنخفضات بحيث لا تظهر منها غير أطرافها (8) . وتكرار مثل هذه الظاهرة أو اشتدادها في عهود ما قبل الثراء البترولي الحديث، كان من شأنه أن يضيق مجالات الزرق أمام أهل المنطقة ويدفع بعضهم إلى الهجرة منها. ولما كانوا أصحاب مزارع ومياه، فإن العراق الجنوبي الزراعي هو أنسب لهجراتهم من غيره. ولكن يغلب الظن أن أمثالهم ما كانوا يتركون أرضهم في شكل هجرة جماعية كبيرة بسهولة، فأرض الوطن عزيزة على أهلها مهما بلغ من فقرها الطارئ. ولنا أن نفترض أن جماعاتهم الصغيرة كانت تتسرب ببطء تدريجي إلى الشمال مدفوعة بقسوة الظروف. وما كانت مثل هذه الجماعات مهما بلغ عددها لتسمح بتشكيل هجرة تاريخية تجتاز العراق مثلًا وتستقر فيه دفعة واحدة، أو تؤثر فيه تأثيرًا جذريًّا، وإنما كان أهلها يتلاحقون وراء بعضهم البعض على فترات، أسرًا وعشائر، ثم يتفرقون على أطراف العراق أو بالقرب منها، إلى أن تكتمل لهم مقومات مرحلة جديدة يمكن أن تجعل منهم أصحاب هجرة فعلية مؤثرة.
وتبدأ مرحلة ثالثة للهجرات الكبيرة حين يتعرف المهاجرون الطامحون على مواطن الضعف في حدود دويلات الهلال الخصيب المستقرة المجاورين لها، فيبدءوا من ثم يترقبون الفرص، حتى إذا تفككت وحدتها وضعفت قوتها وخفت قبضتها عن حماية ذمارها، لأسباب داخلية أو لأسباب خارجية، تسربوا إليها أسرًا وعشائر وشاركوا أهلها معايشهم، أو اندفعوا إليها قبائل وجيوشًا إذا توافرت لهم الزعامات القوية، ثم تغلبوا على أهلها وسيطروا على أرضهم وحكمهم.
ويمكن افتراض ما يشبه هذه المراحل المتتالية بالنسبة للهجرات الأكد: والبابلية والآرامية حتى نزولها أرض الزراعة بالعراق، وبالنسبة كذلك لهجرات الأموريين "والساتو والأخلامو والخابيرو والعابيرو" والكنعانيين والآراميين حتى نزولهم مناطق الخصب في بلاد الشام.
هذا ولم تخل طبيعة شبه الجزيرة من تأثير في عقائد سكانها الأوائل، فقد ترتب على صفاء سمائها في أغلب أحوالها، وتطلع أهلها إلى طيب السماء وأمطارها، واعتماد قوافلهم السارية بالليل على هادية القمر والنجوم، أن اتجه تدينهم إلى السماء أكثر من غيرها، وحاولوا أن يتقربوا من القوى المتحكمة فيها، وجعلوا القمر والشمس والشعرى على رأس أربابهم العديدين، أو هم بمعنى آخر قدسوا أربابًا تخيلوهم يتحكمون في هذه الكواكب الثلاثة وأطلقوا عليهم ما شاءوا من الأسماء والصفات. وظلت ديانتهم في جوهرها ديانة قمرية أكثر منها شمسية (9) ، ربما لشدة هجير الشمس وقلة نفعها بالنسبة لأهل الصحاري بخاصة، وإن لم يصرفهم هذا عن إجلال ربتها ورهبتها.
وأخيرا فليس من شك في أن التنوع البيئي والمعيشي والوجداني والسياسي الذي أوجزناه لأجزاء شرقنا الأدنى القديم داخل وحدته الجنسية واللغوية القديمة الكبيرة، كان مسئولًا إلى حد كبير عن مظاهر التنافس السياسي والحربي التي نشبت بين شعوبه من حين إلى آخر وقطعت عليها سلامها واطمئنانها لفترات، وكان مسئولًا كذلك عن سوء فهم فريق منها للفريق الآخر أحيانًا، ليس على مستوى الشعوب وحدها بل وبين طوائف الشعب الواحد أيضًا في بعض الأحوال، لا سيما في مناطق العراق وبلاد الشام.
ولكن ليس من ريب كذلك في أن ذلك التنوع لم يكن في الوقت نفسه بغير قيم وفوائد حيوية لشعوبه. فقد كان من شأنه أن يحفظ لكل شعب منها شخصيته الإقليمية واضحة، وأن يكفل لكل شعب منها خبراته الخاصة التي اعتز بها واشتهر بها، وأن يطلق العنان لخيال أصحابه كي يشيدوا بعراقتهم وأصالة موطنهم كيفما شاءوا، أن يؤدي إلى ثراء فنون المنطقة في مجملها، وإلى تعدد صناعاتها، باختلاف مقوماتها واختلاف أذواق أصحابها، وإلى فتح مجالات المنافسات الاقتصادية والفنية المشروعة بينها في الأسواق الداخلية والخارجية وكان من شأنه كذلك أن يفتح مجالات الاتصال الحيوية بين حضارات أهله، حين كان يلزم أصحاب كل حضارة بأن يستكملوا ما ينقص بيئتهم من المواد الأولية والكمالية ومن الخبرات الصناعية والفنية من أصحاب الحضارة الأخرى.
ولا زال مدى تأثير كل حضارة من الحضارات الشرقية في أختها، موضعا لمجادلات تاريخية وأثرية طويلة ولكنها مجادلات لا تنفي إطلاقًا عمق صلات هذه الحضارات بعضها ببعض منذ فجر تاريخها البعيد (10) . وذلك ما سوف تناقشه الفصول التالية في سياق بحثها لمراحل التطور في كل حضارة من حضارات الشرق الأدنى القديم على حدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
1ـ See, D.D. Luckenbill, Ancient Records Of Assyria And Babylonia, I, 287, 475, 558, 633, Etc.; A. Leo Oppenheim, "Babylonian And Assyrian Historical Texts", In Ancient Near Eastern Texts "Ed. By J. B. Pritchard", Princeton, 1955, 275 F.
2 ـ Th. J. Meek, "The Middle Assyrian Laws", In Ancient Near Eastern Texts, 1955, 180.
3 ـ S.N. Kramer, "Sumerian Myths And Epic Tales", Ibid. 44, 48 F,; E.A. Speiser, "Akkadian Myths And Epica", Ibid., 79 F., 90, 95, 96.
4 ـ S.N. Kramer, Op. Cit., 50 F., 52 F,; Speiser, Op. Cit., 87 F., 107, 109.
5 ـ Caetani, "L'arabia Preistorica E L'essi Camento Della Terra…", Studi Di Storia Orientale. L, Milan, 1911, 51 F. And 289 F. "After Alois Mum, Northern Negd, Appendix X".
6 ـ Alois Musil, Northern Negd, A Topographical Itinera "The Oriental Expleraien And Studies, V", New York, 1928, 304 F. And 311 F.
7 ـ S.A. Hazayyin, Arabia And The Far East, Cairo, 1942, 3 F.
8 ـ See, P. B. Corawall, "Explorations In Hasa", The Geographical Journal, Jan-Feb., 1946, 3 F.
9 ـ ديتلف نيلسن: "الديانة القديمة" "فصل من التاريخ العربي القديم - تعريب فؤاد حسنين" - القاهرة 1958 - ص172.
10 ـ See, V. G. Cailde New Light On The Most Ancient East, 1952, 111 F.; H. Frankfort, Ajsl. 1941, 23" F.; The Birth Of Civilization, 1951, 110 F.; Scharff-Moortegat, Die Frukhulturcn A Egyotens Und Mesopotamiens, 1941; H. Kantor, Jnes, 1942, 174 F.; 1952, 239 F.; R. Weill, Recherches Sur La Lre Dynastie Et Les Temps Prepharaoniques, 2 Partie, Paris, 1961, 279 F.
المصدر : كتاب " الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق "