صهيب محمد أفقير
تقع مكـة المكرمـة مكان مولد نبي الإسلام وموطن الدعوة في إقليم الحجاز، شرق مدينة جدة، وترتبط نشـأتهـا بقصـة إبراهيم الخـليـل وابنه إسمـاعيـل عـليهمـا السلام، حيث أمر الله تعالى نبيَّه إبراهيم أن يذهب بـابنه إسمـاعيـل وزوجه هـاجر إلى الوادي الذي في مكـة؛ وأن يـسكـنهما فـيه، فـامتثـل إبراهيم لأمر الله، وهاجر بزوجته هاجر وابنهما إسماعيل إلى ذلك الوادي الجاف، بالمكان القفر الذي لم يكن فيه دولة ولا سكان ولا نشاط زراعي أو اقتصادي. وتركهما هناك، وفى هذا يقول الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ" .
وفي ذلك حكمة إلهية بالغة، وإكرامًا للطفل إسمـاعيـل فجَّر الله بئر زمزم، بعد أن يئست أمه هــاجـر مـن العثور على المـاء، وهـى تسعـى بـاحثـة عنه بين صخرتي الصفا و المروة لسد الرمق وضمان البقاء، وقد بلغ منهما العطش مبلغه، ولقد أصبح السعي بينهما ركنًا من أركان الحج، وكان لهذا الحادث بعد تاريخي لازالت آثاره جلية إلى اليوم؛ شكل ماء زمزم عصب الحياة العمرانية والاجتماعية والاقتصادية في الحجاز كلها. فكيف ذاك؟ أوجد الله المـاء في هذا الإقليم الفقير، البعيد عن الحضارة والخالي من التجمعات السكانية، وهو العنصر الحيوي في الحياة الذي يقوم عليه النشاط الفلاحي، وكل الأنشطة البشرية، مما خلق حياة جديدة وحيوية بمكة، وحركة سكانية مهمة، فقد جذب الرحل والقبـائـل التي كانت تـسكـن بــالقرب من المنطقة، ومنها جُرهم وقَطُوراءُ، هؤلاء طـلبوا من هاجر أم إسماعيل عليه السلام السمـاح لهم بـأن ينتفعوا من ماء زمزم، فأذنت لهم ورحَّبت بهم.
يذكر الطبري(ت310هـ/ 923م) أن "جُرهُمُ كانت يومئذ بواد قريب من مكة... فجاءوا إلى هاجر، فقالوا: إن شئت كنا معك وآنسناك والماء ماؤك، قالت: نعم. فكانوا معها حتى شبّ إسماعيل، وماتت هاجر فتزوّج إسماعيل امرأة منهم؛ آنسوا وحدتهـا هي وابنهـا، وأخذوا يشيدون بيوتهم حول بئر زمـزم، ومـن هـنــا كــانت نشـأة قرية مكـة المكرمـة، المجمع العمراني والمركز التجاري العربي الشهير، آنذاك، وفيهـا عـاشت هــاجر وابنهـا إسمـاعيـل بين قبـائـل جرهم وفيهم بعث نبيا، لمـا اشتد عود إسماعيل عليه السلام تزوج من جرهم، وأنجب أولاده الذين هم أجداد العرب المستعربة. واتسع المجال الحيوي لمكـة مع مرور الزمن، وزحف إليهـا السكان وزاد العمران، وذاعت شهرة القرية بـين الأقطار والحواضر أكثر فأكثر، بعد أن أمر الله نبيه إبراهيم عـليه السـلام في إحدى زيـاراته التفقدية لأحوال أسرته ببناء الكعبة المشرفة، فأصبحت مكة مكانًا مقدسًا مقصودا بالزيارة والتجارة، وزادها الله تشريفًا وشهرة في الآفاق بهذا البناء إلى اليوم.
اكتسبت الكعبـة المشرفة رمزية دينية تاريخية، وشهرة بشكلها المعماري المتميز؛ فهي بناء مستطيل الشـكــل تقريبًا، يبـلغ ارتفـاعه نحو 15 مترًا، وعرضه من جهة الشمـال والجنوب نحو 10 (عشرة) أمتـار، ومن جهة الشرق والغرب 12 مترًا. ويقع بـاب الكعبـة في الجدار الشرقى، في الاتجاه المقابل لمقام إبراهيم عليه السلام، وفى الجدار الجنوبي منها يقع الحجر الأسود، وهـي منذ بنـائهـا مثابة للناس وأمن، كما أخبر بـذلك الله في القرآن الكريم: "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود" وقد ظـلت ساكنة مكة من قبـائـل جُرهُم، تقوم عـلى خدمة الكعبة المشرفة ورعاية حجاجها، لما في ذلك من فوائد اجتماعية واقتصادية للساكنة، إلى أن ضعفت، فحلَّ محلها في تـلك المسؤولية قبائل خزاعة، التي ضعفت هي الأخرى بعد مدة، فخـلفتهـا قبيـلة قريش بزعـامة قصي بن كلاب، وهو الأب الخامس في سلسلة النسب النبوي، أي الجد الرابع للنبي ، الذي ينسب إليه جمع شمل القبائل وتوحيدها.
واسم قريش له دلالة لغوية وتاريخية تؤكد هذا المعنى فهو يوحي بالاجتماع بعد التفرق. قال ابن كثير(ت774هـ/ 1373م): "وأما اشتقاق قريش فقيل من التقرش وهو التجمع بعد التفرق، وذلك في زمن قصي بن كلاب فإنهم كانوا متفرقين فجمعهم بالحرم". أما ابن هشام(ت213هـ/ 828م) فقد ذهب إلى معنى آخر هو التجارة وكسب الأموال، وذكر أن اسم "قريش من التقرش وهو التكسب والتجارة، وبه سميت قريش وهي قبيلة تنسب إلى النضر بن كنانة وهو أبوهم، فكل من كان من ولده فهو قرشي دون ولد كنانة فما فوقه، لأنهم كانوا أصحاب أنشطة تجارية مع الشمال والجنوب مع الشام واليمن، وإلى هذا المعنى الآخر ذهب الجوهري(ت247هـ/ 861م)، والفراء(ت352هـ/ 963م) والمعنيان متقاربان ومتكاملان من الناحية الواقعية، فقد ثبت تاريخيا أن قصي بن كلاب جمع أبناء عمومته في مكة، وابتكر مجموعة من الإجراءات السياسية لخلق اللحمة الاجتماعية بين أفراد القبيلة، وضمان المكانة الاجتماعية والدينية بين القبائل، كما أنه قد ثبت تاريخيا أن قريشا كانت تشكل أضخم تجمع سكاني بشبه الجزيرة العربية، وأن نشاطهم الاقتصادي الرئيسي هو التجارة. فقد كانت مكة مركزا تجاريا عالميا يربط الشرق بالغرب، حينذاك، وممرا رئيسيا للقوافل التجارية.
أبرز تلك الإجراءات السياسية التي قام بها قصي هي إحداث دار الندوة في مكة، وهى أشبه ما يـكون بـمجلس شورى يتشـاور فيه زعمـاء قريش حول شؤون البلاد، لإصلاح الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وتحقيق الأمن الداخلي. قال ابن سعد(ت230هـ) "جعل بابها إلى البيت (الكعبة). ففيها كان يكون أمر قريش كله، وما أرادوا من نكاح أو حرب، ولا يعقدون لواء حرب لهم ولا من قوم غيرهم إلا في دار الندوة. وللإشارة، فقد لقب قصي بلقب "المجمع" ولا أستبعد أن يكون سبب تسميته بذلك اللقب هو سعيه نحو الإصلاح والتوحيد، ولم الشمل، ولتأسيسه دار الندوة. وفيه قال الشاعر:
أبوكم قصي كان يدعى مجمعا *** به جمع الله القبائل من فهر
والملاحظ، أن قصيا حين تزعم مكة كان قد ورث منطقة منهكة ماليا واجتماعيا، بسبب النقص الشديد في المياه، التي ترتبط بها الحياة الاقتصادية. فإن بئر زمزم التي كانت مصدر توفير حاجيات السكان من المادة الحيوية، كانت قد ردمـتها قـبــائـل جُرهُم عندمـا غـلبتهـا خزاعـة عـلى أمرهـا، لتفسد عليها أمر سقاية الحجيج ولا شك، لتؤثر على أنشطتها الاقتصادية فتنهار. وقيل "إن السيول التي كانت تتعرض لها مكة (هي السبب) فكثيرًا ما كانت تترك كميات عظيمة من الطمي فردمت زمزم مرة وطال اختفاؤها عدة أجيال"وقال العصامي(ت1111هـ/ 1699م) "نضب مَاؤُهَا لما استحلت جرهم حُرْمَة الْبَيْت"( )، ويذكر أن لأهل الأخبار تفاسير عديدة حول سبب انحصار مياه بئر زمزم، وتعددها يدل على تضارب الآراء حول المسألة. عموما، لقد تركت مكـة على هذا الحال من العوز إلى الماء، الشيء الذي سيؤثر على موسم الحج، وسيؤدي لا محالة إلى تراجع أعداد السياح والحجيج والتجار.
والملاحظ أن قصيا بن كلاب تنبه إلى هذا الأمر، وإلى أوضاع مكة المتدهورة، فأحدث نظاما اجتماعيا دينيا ودفاعيا متكاملا للنهوض بشؤونها، وبمتطلبات زوار الكعبة المشرفة من الحجاج والتجار، لرد الاعتبار للموسم السنوي التجاري والرفع من الموارد الاقتصادية. يشمل هذا النظام السِّقـايـة، وهـو جلب الماء للحجاج من آبار بـعيـدة، والسِّدانـة والرِّفادة وهي إطعام الحجاج، والحِجابة وهـى خدمـة الكعبـة وتولي مفاتيحها، واللِّواء وهو راية الحرب، وكان ذلك كله في يد قصي في حياته .
بكلمة، استطاع قصي بهذه الإجراءات أن يصنع الحدث التاريخي بمكة، وأن يعزز مكانتها الدينية والتجارية في المنطقة، واستطاعت تنظيماته التقليدية تلك أن تستمر بعده لمئات السنين، نظرا لنجاعتها وتمكنها في النفوس والمجتمع، غير أن تلك السلطات لم تعد تتركز في يد واحدة من بعد وفاته، إنما قُسمت هذه المناصب والمسؤوليات بين أحفاده "رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ "..
موقع التاريخ