مقدمة
لحضرة الأستاذ الكبير والنقادة الشهير الدكتور طه حسين


تاريخ اليهود في بلاد العرب yahod-history.jpgالدكتور إسرائيل ولفنسون عالم شاب يسرنى أن أكون أنا مقدمه إلى جمهور المستنيرين من الذين يكلفون بالبحث عن الأدب والتاريخ . أقبل إلى مصر وأن له لثقافة متينة منوّعة ، قد أتقن من اللغات الأوروبية الحية أرقاها وأمسها بالبحث العلمى التاريخى ولاسيما فيما يتصل بالمسائل الشرقية العربية ، وأتقن من اللغات السامية أغناها بالآثار القيمة فى الدين والأدب والعلم ، ولم تقف ثقافته عند إتقان هذه اللغات بل درس من آدابها حظاً موفوراً فكان له مزاج معتدل من هذا القديم السامى والجديد الأوروبى يعدّه أحسن إعداد لتناول المسائل التاريخية والأدبية الرقيقة إذا تهيأت له مناهج البحث كما ألفها علماء أوروبا فى هذا العصر الحديث . وما هى إلا أن أنتسب إلى الجامعة المصرية القديمة واختلف إلى أساتذتها يسمع دروسهم ويعمل معهم حتى تهيأ له من ذلك ما كان يحب . ولقد كان يختلف إلى دروسى فى التاريخ القديم فكان يعجبنى منه ميل ظاهر إلى البحث وحرص شديد على الإجادة والإتقان ونشاط غريب إلى القراءة والإطلاع . وكنت أرى فيه عناية خاصة بكل ما يتصل باليهود فى عصور السيطرة اليونانية والرومانية على العالم القديم . فرأيت أن أوجه بحثه هذه الوجهة وأشجعه على المضى فيها . ولست أنسى محاضرات تمرينية ألقاها فى مثل هذه الموضوعات تركت فى نفسى أحسن ما تترك أعمال التلميذ المجدّ فى نفس أستاذه من الأثر .
ثم ظفر بشهادة الليسانس فى الآداب من الجامعة القديمة وأخذ يستعدّ لشهادة الدكتوراه فلم يرقه من المباحث التى كانت تثار فى الجامعة على كثرتها إلا هذا المبحث الذى يتصل دائماً باليهود وهو تاريخ اليهود فى بلاد العرب قبل الإسلام وأبان ظهوره .
والموضوع فى نفسه قيم جليل الخطر بعيد الأثر جداً فى التاريخ الأدبى السياسى والدينى للأمة العربية . فليس من شك فى أن هذه المستعمرات اليهودية قد أثرت تأثيراً قوياً فى الحياة العقلية والأدبية للجاهلين من أهل الحجاز . وليس من شك فى أن الخصومة كانت عنيفة أشد العنف بين الإسلام ويهودية هؤلاء اليهود وفى أنها قد استحالت من المحاجة والمجادلة إلى حرب بالسيف انتهت بإجلاء اليهود عن البلاد العربية . ولم يكن تاريخ هؤلاء اليهود فى بلاد العرب قبل الإسلام معروفاً على وجهه ، إنما هى طائفة من الأخبار والأحاديث يرويها القصاص فى غير تحفظ ولا عناية بالدقة والتحقيق وتكثر فيها المبالغات من الناحية اليهودية والإسلامية لإغراض مختلفة معروفة . وكان المستشرقون قد عرضوا لهذا الموضوع من نواحى مختلفة فوفّقوا بعض التوفيق ولكن أخطأتهم الأصابة فى كثير من الأحيان لأن حظهم من الثقافة العربية السامية لم يكن يعدل حظهم من القدرة على استثمار مناهج البحث الحديث ، فاضطروا إلى طائفة من الأغلاط لم يكن منها بد . على أن مباحثهم هذه القيمة كانت ومازالت مجهولة فى الشرق العربى لا يلمّ بها إلا الذين يتخذون هذا النحو من العلم غرضاً يسعون إليه ويقفون عليه جهودهم .
فإذا كان عالمنا الشاب قد وفق إلى الخير فى هذا الكتاب الذى قدَّمه إلى الجامعة المصرية ونال به شهادة الدكتوراه والذى أقدمه أنا الآن إلى القرّاء سعيداً مغتبطاً فتوفيقه مضاعف ، ذلك لأنه وفق إلى تحقيق أشياء كثيرة لم تكن قد حققت من قبل ، ووفق إلى عرض مباحث المستشرقين حول هذا الموضوع فى اللغة العربية ولم تكن قد عرضت من قبل . ووفق بعبارة موجزة إلى أن يبسط تاريخ اليهود فى البلاد العربية قبل الإسلام وأبان ظهوره بسطاً علمياً أدبياً لذيذاً ممتعاً فى كتاب كانت اللغة العربية فى حاجة إليه فأظفرها بهذه الحاجة .
وإذا كان لى أن أتمنى للدكتور إسرائيل ولفنسون شيئاً فإنما أتمنى له مخلصاً أن يمضى فى عنايته بهذه الناحية من حياة اليهود والصلة بينهم وبين الأمة العربية بعد الإسلام كما عنى بها قبل الإسلام مهتدياً بهدى العلم الصحيح الذى لا يعرف ممالأة ولا مشايعة ولا يرى للعالم إلا غرضاً واحداً مقدساً هو السعى إلى الحق والجد فى الوصول إليه .

20 يونيو سنة 1927
طه حسين
منقوول