بعد تسع سنوات من سقوط النظام العراقي السابق, لايعرف إلى الآن إن كان العراق دولة دينية أم ديمقراطية! فالدستور العراقي يشير إلى أن العراق دولة إتحادية يحكمها نظام برلماني ديمقراطي, هذا في المادة الأولى من الدستور. أما المادة الثانية ففيها فقرتين تتناقضان في جوهرهما إلى حد كبير, وتكون الغلبة لفقرة ما على الأخرى حسب تفسير تلك المواد, إي حسب الظروف الموضوعية التي تحكمها مراكز القوى المتنفذة. فالفقرة الأولى تشير إلى أنه لايجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت الإسلام, وهو يشر ضمنا ً إلى أن العراق دولة دينية. أما الفقرة الثانية فتشير إلى أنه لايجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية, وهو يشير إلى أن العراق بلد ديمقراطي. السؤال هو, هل العراق دولة دينية أم ديمقراطية؟

يتداول في البرلمان العراقي هذه الأيام صيغة مشروع تعيين أعضاء المحكمة الإتحادية العليا والتي تمتلك صلاحيات واسعة في تمرير بعض القوانين أو نقضها, فواحدة من مهامها هي الفصل في المنازعات المتعلقة بشرعية القوانين والقرارات والأنظمة والتعليمات والأوامر الصادرة من اية جهة تملك حق إصدارها. أن هناك الكثير من البرلمانيين الذين يصرون على إعطاء حق النقض, الفيتو, لفقهاء الشريعة أو مايسمى بفقهاء الفقه الإسلامي للبت فيما لو عارضت بعض القوانين أو التشريعات المادة المتعلقة بثوابت الإسلام الواردة في الدستور, بالرغم من أن قانون تشكيل المحكمة الإتحادية لعام 2005 لاينص على ذلك بل يشير لتسعة قضاة من بينهم رئيس المحكمة. لكن الذي يبدو بأن هناك من يريد زج فقهاء الشريعة بصفتهم أعضاء أصلاء في المحكمة ليضفي على المؤسسة القانونية صبغة دينية تتلائم مع معتقداته الدينية لأسباب معروفة. ولايعلم أحد إن كان ذلك صادر عن جهل بمعنى الديمقراطية أم إنه جزء من الوفاء لتاريخ طويل من النضال لأحزاب دينية هدفها الأخير هو إقامة الدولة الدينية وتطبيق الشريعة الإسلامية فيها, وأن الديمقراطية ماهي إلا وسيلة للوصول للسلطة كحال كل الأحزاب الإسلامية في العالم.

لابد من طرح بعض الأسئلة إن أعطي لبعض فقهاء الشريعة أو الفقه الإسلامي حق النقض بتمرير بعض القوانين والتشريعات من عدمه. ماذا لو تعارض قانون معين مع ثوابت الإسلام, وفي نفس الوقت أتفق مع مبادئ الديمقراطية؟ والسؤال الأهم, ماهي ثوابت الأسلام المتفق عليها بين جميع الطوائف والمذاهب الإسلامية؟ هل هناك نصوص واضحة يتفق عليها الجميع بحيث لاتخضع لتفسيرات وتأويلات أو حتى أمزجة الفقهاء؟ من يعين هؤلاء الفقهاء ومن أي طائفة؟ هل هم مستقلون أم ينتمون للمؤسسة الدينية أو أحزاب معينة؟ وهل تمثل المؤسسة الدينية, الشيعية منها والسنية, جميع أبناء الشعب, أي تتفق مع الفقهاء المخالفين وتمثل العلمانيين أيضا ً من نفس الطائفة؟ ماذا عن باقي الأقليات الدينية وحقوقها المكفولة بالدستور والتي تضمنها الدولة المدنية؟ ويوجد هناك أسئلة كثيرة لامجال لحشرها كلها في هذا المقال, ولكني سأسوق مثالا ً واحدا ً في ذلك.

أن من مبادئ الديمقراطية أن المرأة والرجل متساوون في الحقوق والواجبات كأفراد يكفل حقهم الدستور, ولكن, ماذا سيقول فقهاء الشريعة لو صارت أمرة رئيسة للدولة أو رئيسة للوزراء, أو حتى من أحد القضاة في تلك المحكمة الإتحادية, وكلنا يعلم رأي المشرع والفقية بعمل المرأة كقاضية, أو سيخرج لك أحد الفقهاء بفيتو ويقول لايفلح قوم ولوا أمرهم أمرأة. فأين المساواة التي كفلها الدستور وضمنتها مبادئ الديمقراطية؟

لابد أن يعلم البرلمانيون العراقيون بأن الديمقراطية ليست ألية للوصول للسلطة فحسب وذلك عن طريق صناديق الإقتراع, بل هي ثقافة يتساوى فيها الرجل والمرأة, وهي تربية في طريقة التعبير عن الرأي وقبول الرأي الآخر, وهي الحرية في ممارسة طقوس وشعائر يمكن أن لاتعجب الكثير تحت بند حرية التعبد, وهي الإعتراف بالآخر وبحق المواطنة الذي لايفهمه إلى الآن الكثير من الفقهاء والمتديين وهم لازالوا يفكرون بالمجتمع الإسلامي والإقتصاد الإسلامي ويعبرون عن الناس بمصطلح الأمة. أن الديمقراطية هي حكم الشعب ولايعلوا أحد على حكم الشعب, وأن أي مصادرة لحكم الشعب بأسم مخالفة ثوابت الإسلام ماهي إلا محاولة لمصادرة حرية الأختيار وحق التشريع بإسم الشعب.

هل يفهم من كلامي بأن مبادئ الديمقراطية تتنافى مع الثقافة الإسلامية وعلينا الأختيار بينهما؟ بالتأكيد لا! فأنا أقصد بأن مبادئ الديمقراطية لاتعارض الكثير من مبادئ الثقافة الإسلامية في جوهرها والتي تدعو للحرية والمساواة, لكنها تعارض صيغة الإسلام السياسي الذي هو منطلق لكل الأحزاب الدينية الآن, إنها تعارض الفكر الديني المؤسساتي الذي يفرض علينا صيغة تعبدية واحدة في قوالب جاهزة ويخرجنا من الدين أن لم ننسجم معها. فهناك الكثير من المسلمين ممن يعيش في دول غربية مدنية ديمقراطية ولايتعارض ذلك مع كونه مسلم, بل يستطيع المسلم التعبير عن نفسه بحرية أكبر في تلك البلاد الديمقراطية حيث لايجد ذلك في بلاده التي تحكمها أحزاب إسلامية. أن الإسلام السياسي لم ينضج إلى الآن لإيجاد صيغة توافقية بين المبادئ أو ثوابت الإسلام ومبادئ الديمقراطية وهو مازال يدور في فلك فرض الحلول المرحلية المؤقته من خلال سياسة ذراعية تفتقد لإستراتيجية واضحة تتلائم وروح العصر. أن هذا ينطبق حتى على الدول الإسلامية التي لها باع طويل في تجربة الإسلام السياسي كإيران وتركيا, فهم إلى الآن يجدون تناقضا ً في موائمة الإسلام السياسي مع مبادئ الديمقراطية الحديثة. لابد أن نفهم بأن الديمقراطية التي نتبجح بها لايمكن أن تنسجم إلا مع نظام علماني وهذا مايرفضه المتدينون السياسيون, فهل يريدون تحويل العراق لدولة الدينية من خلال الوصاية الإلهية بإعطائهم حق الفيتو؟





عماد رسن

Imad_...@hotmail.com