إعداد الدكتور حسين الركابي - المانيا

هناك عدة تعريفات لمفهوم التربية، تتفق جميعها على أن التربية تعني السلوك الأنساني وتنميته وتطويره وتغييره. فهي تهدف الى تزويد أفراد الجيل بالمهارات والمعتقدات والاتجاهات وأنماط السلوك المختلفة التي تجعل منهم مواطنين صالحين في مجتمعهم متكيفين مع الجماعة التي يعيشون بينها. وهكذا يظهر أن السلوك الانساني مكتسب وليس موروث وأنه بالامكان احداث تغييرات في سلوكيات الانسان بما يساعده في التكيف للعيش والابقاء على حياته.
أما التربية البيئية فقد جاءت نتيجة للأخطار المتزايدة والمتفاقمة التي واجهها الانسان في عصره الحديث، ونتيجة لممارسات السلوكية الخاطئة ونقص الوعي البيئي. فقد تم تحديد مفهوم التربية البيئية على أنها عملية بناء المدركات والمهارات والاتجاهات والقيم اللازمة لفهم وتقدير العلاقات المعقدة التي تربط الانسان وحضارته بمحيطه الحيوي الطبيعي، وتوضح حتمية المحافظة على مصادر البيئة وضرورة حسن إستغلالها لصالح الانسان وحفاظا على حياته الكريمة ورفع مستويات المعيشة.


ومن هنا أصبحت التربية البيئية هي الوسيلة المستخدمة في أعداد الاجيال للتعامل السوي والسليم مع البيئة. فالتربية لم تعد مجرد تعليم الانسان كيفية التعامل أو التكيف مع مجتمعه بل تعدى مفهومها الى أن أصبحت تعنى بتكيفه مع بيئته المادية الطبيعية التي من خلالها يستطيع الحفاظ على وجوده. وهكذا برز مفهوم الوعي البيئي الذي يعنى بزيادة فهم الانسان لمحيطه الدقيق ولعناصر البيئة المختلفة وأهمية ذلك بالنسبة لحياته.

ومن هذا المنطلق بدأت المؤتمرات والندوات التي تنادي بضرورة الحفاظ على البيئة، وبدأت البرامج والنشرات والمجلات الداعية الى المحافظة عليها. فإنعقد مؤتمر استوكهولم عام 1972 الذي اعترف بدور التربية البيئية واعتبرها ركنا من أركان المحافظة على البيئة، ثم الورشة الدولية للتربية البيئية عام 1975 في بلغراد حيث صدر ميثاق شامل حدد اسس العمل في مجال التربية البيئية، مؤكدا على أن هذا المجال يهدف الى تطوير عالم يكون سكانه أكثر وعيا واهتماما بالبيئة ومشكلاتها، ويمتلكون من المعارف والمهارات والاتجاهات والدوافع والالتزام بالعمل على مستوى فردي وجماعي.
وأعطى مؤتمر تبليسي عام 1977 معنى متسع للبيئة، بحيث أصبحت تشمل الجوانب الطبيعية والتقنية والاجتماعية والاقتصادية، كما خرج بمجموعة من التوصيات والمباديء الداعية الى ضرورة نشر مفهوم التربية البيئية، ومن ضمن هذه التوصيات:
1- وجوب تدريس البيئة من وجوهها المختلفة: الطبيعة، التقنية، الاقتصادية، السياسية، الثقافية، التاريخية، والاخلاقية، والجمالية.
2- تكون التربية البيئية عملية مستمرة مدى الحياة، تبدأ قبل السن المدرسية، ثم تستمر خلال مرحلتي التعليم النظامي والتعليم غير النظامي.
3- ألا تقتصر التربية البيئية على فرع واحد من فروع العلوم، بل تستفيد من المحتوى الخاص لكل علم من العلوم في تكوين نظرة شاملة ومتوازنة.
4- تبحث التربية البيئية المسائل البيئية الكبرى من النواحي المحلية والقومية والاقليمية والدولية.
5- تركز التربية البيئية على المواقف الراهنة والمنتظرة مع مراعاة البعد التاريخي.
6- تؤكد التربية البيئية أهمية التعاون المحلي والقومي والدولي في منع مشاكل البيئة وحلها.
7- تراعي التربية البيئية البعد البيئي في خطط التنمية.
8- تمكن التربية البيئية المتعلمين من أن يكون لهم دور في إستغلال خبراتهم التعليمية، وإتاحة الفرصة لإتخاذ القرارات وقبول نتائجها.
9- تعلم التربية البيئية الدارسين في كل سن كيفية التعامل مع البيئة، والعلم بها وحل مشاكلها.
10- تؤكد التربية البيئية على مبدأ التفكير الدقيق والمهارة في حل المشكلات البيئية المعقدة.
11- تساعد التربية البيئية على إكتشاف المشكلات البيئية وأسبابها الحقيقية.
12- تستخدم التربية البيئية بيئات تعليمية مختلفة، وعددا كبيرا من الطرق التعليمية لمعرفة البيئة وتعليمها مع العناية بالأنشطة العملية والمشاهدة المباشرة.
ثم توالت المؤتمرات البيئية حتى إنعقد مؤتمر ريودي جانيرو في البرازيل (1992) حيث مثلت الاجندة (21) الصادرة عن المؤتمر برنامج عمل لمستقبل مستديم للبشرية واعتبر هذا المؤتمر الخطوة الاولى نحو التأكيد بأن العالم سوف يكون موطنا أكثر عدلا وأمنا ورفاها لكل بني البشر وضرورة توجيه التعليم نحو التنمية المستديمة، وتطوير البرامج التدريبية وتنشيطها، وزيادة الوعي العام لمختلف قطاعات الجمهور نحو البيئة وقضاياها.
وحاليا وبعد خمس سنوات من مؤتمر الأرض (مؤتمر ريودي جانيرو) ، ازدادت الانتقادات التي توجه الى سلوك الانسان محلياً وعالميا، وإزدادت أهمية دراسة علوم البيئة حتى تتحقق أهداف التربية البيئية حيث لا بد من تضمين المناهج المدرسية لتلك الاهداف، كما أنه لا بد من إيلاء النواحي المعرفية في التعليم البيئي أهمية خاصة.
وتقوم التربية البيئية على اعداد الانسان للتفاعل الناجح مع بيئته بعناصرها المختلفة، ويتطلب هذا الاعداد إكسابه المعارف البيئية التي تساعد على فهم العلاقات المتبادلة بين الانسان، وهذه العناصر من جهة وبين العناصر المختلفة للبيئة من جهة أخرى. كما يتطلب تنمية مهارات الانسان التي تمكنه من المساهمة في تطوير هذه البيئة على نحو أفضل، وتستلزم التربية البيئية أيضا تنمية الاتجاهات والقيم التي تحكم سلوك الانسان إزاء بيئته، وإثارة إهتمامه نحو هذه البيئة، وإكسابه أوجه التقدير لأهمية العمل على صيانتها والمحافظة عليها وتنمية مواردها.
من كل ما سبق يتضح أن التربية البيئية هي إتجاه وفكر وفلسفة تهدف الى تنمية الخلق البيئي لدى الانسان بحيث توجه سلوكه في تعامله مع البيئة بمؤثراتها البشرية ممثلة في تباين أنماط استغلال الاراضي، ومؤثراتها الطبيعية ممثلة في الاختلافات في كمية المطر والعواصف الترابية والرملية، وما يصاحب ذلك من ردود أفعال من والى البيئة.
وأما الخلق أو الضمير البيئي الذي تهدف التربية البيئية الى إيجاده، أو تنميته عند كل إنسان في المجتمع العالمي فيعني التكيف من أجل البيئة، ويستمر في تكييف البيئة من أجله. وبذلك تسهم التربية البيئية في حماية النظام البيئي بمفهومه الشامل.
وإن التأكيد على الجوانب والمفاهيم البيئية يعد أحد الركائز التي يجب أن يستند إليها القائمون على التخطيط وتطوير المناهج التعليمية، حيث تشهد البيئة تغيرات من صنع الانسان تؤدي الى دمار البيئة في كثير من الاحيان، ومن أمثلة هذه التغيرات المياه العادمة التي يتم التخلص منها دون معالجة سواء في الانهار أو البحار أو على اليابسة ، كذلك إلقاء النفايات الصلبة المنزلية والصناعية دون الاهتمام بما قد تحدثه هذه النفايات من تلوث للتربة والمياه الجوفية، كما أن مشكلات نقص الغذاء واستخدام المبيدات كثيرة في العالم، وإنتشار الأوبئة والأمراض ومشكلة الطاقة واستنزاف الموارد وتلوث الهواء والضوضاء وتغير المناخ وارتفاع درجة حرارة الارض ما هي إلا أمثلة على ما يحدث من دمار في هذه الكون والسبب الرئيسي في كل هذا هو الانسان.
وهكذا فإنه يمكن الوصول الى أن التربية البيئية بمفهومها العام تهدف الى:
1. معرفة الافراد والجماعات لبيئتهم الطبيعية وما بها من أنظمة بيئية وكذلك المعرفة التامة للعلاقة بين مكونات البيئة الحية وغير الحية واعتماد كل منهما على الآخر.
2. مساعدة الافراد والجماعات على إكتساب وعي بالبيئة الكلية، عن طريق توضيح المفاهيم البيئية وفهم العلاقة المتبادلة بين الانسان وبيئته الطبيعية مع تنمية فهمنا لمكونات البيئة وطرق صيانتها وحسن استغلالها عن طريق اكتساب المهارات في كيفية التعامل مع البيئة بشكل ايجابي.
3. إبراز الاهمية الكبيرة للمصادر الطبيعية وإعتماد كافة النشاطات البشرية عليها منذ أن وجدالانسان على سطح الارض وحتى الوقت الحاضر لتوفير متطلبات حياته.
4. إبراز الآثار السيئة لسوء استغلال المصادر الطبيعية وما يترتب على هذه النتائج من آثار اقتصادية واجتماعية تؤخذ بعين الاعتبار للعمل على تفاديها.
5. تصحيح الاعتقاد السائد بأن المصادر الطبيعية دائمة، لا تنضب علما بأن المصادر الطبيعية منها الدائم والمتجدد والناضب. واستبعاد فكرة أن العلم وحده يمكن أن يحل المشكلة مع أن المشكلة في حد ذاتها تكمن في الانسان نفسه واستنزافه لهذه المصادر بكل قسوة.
6. توضيح ضرورة بل حتمية التعاون بين الافراد والمجتمعات عن طريق إيجاد وعي وطني بأهمية البيئة وبناء فلسفة متكاملة عند الافراد تتحكم في تصرفاتهم في مجال علاقتهم بمقومات البيئة والمحافظة عليها بالتعاون مع المجتمع الدولي عن طريق المنظمات العالمية والمؤتمرات الاقليمية والمحلية لحماية البيئة للإهتداء الى حلول دائمة وعملية لمشكلات البيئة الراهنة.
7. التحليل العلمي الدقيق للتصرفات التي أدت الى الاخلال بالتوازن البيئي من خلال المشاكل البيئية المتعددة التي خلقها الانسان بتصرفاته، والتي تصدر دون وعي كالصيد المفرط للحيوانات البرية مما أدى الى إنقراض بعضها، وتعرية التربة عن طريق قطع الاشجار وحرق الغابات أو إزالتها.
8. هذا الإخلال بالإتزان البيئي لا بدله من التعاون الدولي ووضع حد سريع له، وإلا استفحل الامر وأصبح من الخطورة بمكان على الحياة فوق سطح الارض.
منقول