شارك في التأليف: الأستاذ الدكتور فتحي محمد الزغبي.
لقد أوجد الإسلام حضارة ربانية في مدة قياسية لم يشهد تاريخ الإنسانية لها مثيلاً على مستوى البشرية، من حيث: المفاهيم، والمبادئ، فأحلت مقاييس وموازين ربانية محل المقاييس الجاهلية.

ومن تلك المبادئ أن التفاضل بين البشر ليس بالعرق أو العنصر أو بالغنى والمال وإنما بالتقوى، قال عز من قائل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم واحد، وأن أباكم واحد ولا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى"[1].

وفجر الإسلام الطاقات البشرية؛ فحول أناساً أميين من رعاة الإبل والغنم إلى رعاة للأمم، وصاغ منهم أمة استطاعت أن تأخذ قيادة البشرية من أمم عريقة تبوأت قمة الحضارة البشرية مئات السنين.

وأضافت إلى رصيد الحضارة البشرية أبعاداً جديدة، سواءً في مجالات العلوم والفنون أم في مجالات السوابق التشريعية والقضائية، ورسخت مفاهيم العلاقات الدولية المبنية على الوفاء بالعهود والمواثيق، وإقامة العدل والالتزام بالحق.

لقد كانت حضارة الإسلام منفتحة على الحضارات الأخرى؛ لأن الإسلام دعاهم إلى ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها"[2].

وعندما بدأت حركة الترجمة للعلوم والفنون من الحضارة اليونانية والفارسية و الهندية، أخذ المسلمون منها ما لا يعارض عقائدهم، ومبادئهم، وطوروها وأضافوا عليها، أما ما كان يتعلق بالوثنيات والخرافات، وتقوم على امتهان الإنسان وتحقير كرامته أو إذلال النفس بتعذيبها، أو إطلاق شهواتها البهيمية.. فقد أبعدوها، وفي كثير من الأحيان ردوا عليها، وبينوا تفاهتها، ومناقضتها للعقل، والفطرة الإنسانية.

إن التاريخ الإسلامي الذي بدأ من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفائه الراشدين، ومروراً بقادة الأمة وعلمائها في مختلف العصور الإسلامية منبع ثر للثقافة الإسلامية لا ينضب، ومعرفة هذا التاريخ جزء من تكوين الشخصية الإسلامية، وعلى ضوء ماضي الأمة يتشكل حاضرها ويرسم لمستقبلها، وشجرة لا جذور لها لن يكون لها أغصان وثمار.

لقد أولى القرآن الكريم عناية خاصة بقصص الغابرين؛ لأخذ العبرة والعظة من سيرهم، يقول الله: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111].

وقد ساق القرآن الكريم النماذج البشرية المختلفة: فمنها من تمثلت فيهم معاني الوفاء والبذل والتضحية والصبر كإبراهيم وإسماعيل ويعقوب وأيوب عليهم السلام، ومنها نماذج تمثلت فيهم معاني الطغيان والجبروت والظلم والإفساد من أمثال نمرود وفرعون وهامان وقارون.

ومن خلال الأحداث التاريخية يبرز القرآن الكريم سنن الله في المجتمعات، وتقدمها وقوتها، وسعادتها، وكذلك يبرز سنن الله في انحرافها وانحطاطها ودمارها يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ﴾ [الإسراء: 16].

إن سنن الله سبحانه وتعالى التاريخية والحضارية والاجتماعية سنن ثابتة مطردة لا تتغير ولا تتبدل، مثلها في ذلك مثل سنن الله الكونية، وسنن الله في الطبيعة، إلا أن الفرق في سنن الله الاجتماعية، والحضارية، أنها بطيئة لا تظهر إلا من خلال أجيال وقرون، ولا يطلع عليها ويستوعبها إلا الراصدون من أهل البصائر، أما سنن الله في الكون والطبيعة، فإنها سريعة الوقوع، ويدركها العقلاء وأهل الخبرة من الناس.

لقد كان علماء السلف يعلمون أبناء المسلمين المغازي والسير (أي التاريخ الإسلامي) كما يعلمونهم السورة من القرآن؛ لشعورهم بأهميتها في تكوين الثقافة الفردية وأثرها في التربية السلوكية للجيل الصاعد.

إننا نجد في سير علمائنا وقادة الفكر في أمتنا، وفي أساليب الدعاة إلى الله والمربين الربانيين زاداً ثقافياً تربى عليها الأجيال، ومن يطلع على ما دونه أبو نعيم الأصفهاني في كتابه (حلية الأولياء)، وما سطره ابن خلكان في كتابه (وفيات الأعيان)، وما كتبه الذهبي في كتابه (سير أعلام النبلاء) وغيرهم، يجد العجب العجاب من رواد الفكر والإبداع، وقادة المعارك، وأرباب الصناعات والمخترعات، وفي كل مجالات الحياة يجد رواداً لا يشق لهم غبار، ويشعر المسلم المعاصر بالأسى والألم، كيف نغفل عن سيرة هؤلاء العظماء والاقتداء بهم، ونتطفل على موائد الغرب والشرق في مناهجنا وأساليبنا التربوية وتكويننا الثقافي.

إننا بحاجة إلى استيعاب الدروس والعبر من حضارتنا وتاريخ أمتنا لصياغة شخصيتنا المستقلة المعتزة بالله، ولتخطيط مستقبلنا الواعد المشرق، لاستلام قيادة البشرية من جديد؛ لانتشالها من حمأة الشهوات والشبهات وظلمات الجهل والضياع، والسير بها إلى بر الأمان إلى خالقها وبارئها، وإنه لآتٍ بإذن الله.. وما ذلك على الله بعزيز.

[1] رواه أحمد في مسنده رقم (23536) 5/411، ورواه الطبراني في الأوسط رقم (4749) 5/86.
[2] رواه ابن ماجه رقم (4199) باب الحكمة 2/1395، ورواه الترمذي وقال حديث غريب 5/51.


منقول