في قاعة كبيرة وسط بغداد، بالمركز الثقافي النفطي، توافد مثقفون وصحافيون وناشطون عراقيون لحضور الحفلة الخيرية لجماعة «آمارجي» للفنون الإبداعية وحملة «غوث» الإنسانية، والتي يعود ريعها لمساعدة النازحين العراقيين الذين تركوا منازلهم بحثاً عن الأمان، بعدما سيطر مسلحو «الدولة الإسلامية» على مساحات كبيرة شمال العراق وغربه. وتقدر الأمم المتحدة عدد النازحين بأكثر من مليون و600 ألف.

ويقول منسق منظمة الهجرة الدولية براين كيلي، ان «معظم النازحين اضطروا للسير أياماً عدة للوصول إلى أماكن آمنة، فالعديد من أقربائهم قتلوا أو خطفوا على أيدي التنظيمات المسلحة، فيما أجبر آخرون على القفز من أعلى الجبال».

وكانت الحفلة مزدحمة بالفقرات الموسيقية. وربما لم تعرف العاصمة بغداد حدثاً ترفيهياً منذ أشهر طويلة، إذ طوت الأزمات السياسية والأمنية فعاليات ثقافية عراقية، بسبب القلق، وسيادة مشاعر الخوف من أن البلاد على وشك السقوط في الهاوية، ولأمد طويل.

وكسرت الأنغام التي أطلقها كريم وصفي، قائد الفرقة السمفونية، وسامي نسيم، قائد فرقة بغداد للعود، وعازفين عراقيين آخرين، صمتاً طويلاً ومرعباً.

امتلأت القاعة، وغصت الطاولات بوجوه من النخبة العراقية. وحرص المنظمون على أن يحققوا غاية الحفلة، حين جمعوا مبالغ رمزية لصالح صندوق مخصص للنازحين، لكنهم أيضاً ساهموا في إعادة الحياة إلى صالات خائفة.

ناشطون من حملة «غوث»، التي برز اسمها كأهم الحملات المدنية التي قصدت النازحين في مناطق بعيدة لتقديم المساعدة الممكنة، وكان آخرها سنجار، تداولوا في الحفلة قصصاً عن المحاصرين الإيزيديين. ويقول العضو في الحملة أحمد آغا: «رأيت أطفالاً فارقوا الحياة من العطش، بينما الأحياء يُبقون قنينة الماء ليومين قبل أن تنفد».

واكتسبت الحفلة الخيرية أهميتها من فرادة النشاط الذي لجأت إليه النخبة العراقية، في أن تحاول أن تفعل شيئاً إزاء المشكلات الإنسانية التي تعصف بآلاف العراقيين.

لقد وضِعَ المثقفون العراقيون في زاوية النقد والتكهم طوال سنوات، لتقاعسهم أمام متغيرات المجتمع وأزماته، لكنهم أخيراً وجدوا سبيلاً ليكذبوا هذا الاتهام.

يقول الشاعر والصحافي العراقي أحمد عبد الحسين إن «الحفلة من اجل النازحين كانت تظاهرة محبة (…). وعوضاً عن استصغار دور المثقف العراقي علينا انتقاد الطوائف والأحزاب والمؤسسات، لذا اتركوا نغمة انتقاد الأعزل الذي يقوم بما ينبغي لمؤسسات الدولة القيام به».

وفي الحفلة، صعد الروائي العراقي أحمد سعدواي، الفائز أخيراً بجائزة بوكر العربية، إلى المنصة وقدم اعتذاره للأطفال النازحين وقال: «أنا آسف لأنك تبولت على ملابسك أكثر من مرة في الطريق الطويل خلال الليل نحو المجهول. يظللك الخوف مع عائلتك، (…) ها أنذا أشم رائحة ملابسك المضمخة بالخوف والبول، وأنا هنا، أشعل سيجارة جديدة، أو انتقد طعم الشاي في المقهى (…). تضحكين أيتها الطفلة من أسفي، فهو مفيد لي وليس لك، هو وسيلتي لهضم هذه الكارثة التي تقفين في وسطها. وسيلتي لإخراج نفسي من دائرة المتهمين. وسيلتي لغسل ثوبي جيداً من رائحة بولك ورائحة الدم المسفوك المجهول الهوية في الموصل وسنجار والقوش وآمرلي والفلوجة وتكريت وكل القرى والبلدات المتناثرة من شمال البلاد الى وسطها وجنوبها».