أثارت عصابات "داعش" الإرهابية حالة من الهلع والاضطرابات النفسية لدى جميع مكونات الشعب العراقي ابتدأت من محافظة الأنبار ومن ثم نينوى وسيطرتها على مدينة الموصل وتوجهها إلى صلاح الدين ومحاصرتها لأهم المواقع الستراتيجية في المنطقة حاملة شعار (قادمون يا بغداد) .

إذ لم يدرك أحد خطورة العصابات التكفيرية، فالحكومة وصفتها في بادئ الأمر بـ(جرذان داعش) من غير ان يسألوا أنفسهم إن كانوا جرذاناً وفعلوا ما فعلو في البلاد فكيف لو لم يكونوا جرذانا !!! ، بينما وصف الأهالي تلك العصابات بـ(الثوار) ،إلا انهم لم يدركوا فعلتهم الخبيثة تجاه نسائهم وأطفالهم وشبانهم ، لاسيما سياستهم التي اختلفت 180 درجة بعد سيطرتهم على مدينة الموصل .

فأجبرت تلك الهجمات التكفيرية وسياستها الخارجة عن اطار الدين الإسلامي الكثير من العائلات السنية والمسيحية في شمال غرب الموصل، والشيعية بمنطقة تلعفر، على ترك منازلهم متجهين إلى إقليم كردستان أو نحو جنوب البلاد بحثا عن ملاذ آمن لهم ولأولادهم.

حرب وشيكة تسبق النزوح

يبدو أنّ كل ما يحدث مجرد بداية لـ(حرب وشيكة) وبالرغم من الجهود المبذولة لتخفيف هذه المعاناة يبقى الوضع الإنساني مرشّحا للتأزم أكثر.

يروي أحد النازحين تفاصيل الرحلة المضنية، ويقول " كان هناك قصف عشوائي على الأحياء من القوات الأمنية ومن العصابات الإجرامية (داعش)، فأصابنا الهلع ونزحنا من الموصل إلى الخازر"، موضحا " جئنا مشيا، بدأنا الرحلة من الساعة الثانية ليلا وحتى الساعة السادسة صباحا، وتركنا أغراضنا التي نهبتها عصابات تدعي انتماءها للدين الإسلامي! ".

ويضيف ان " ظروف المخيم صعبة تزداد بارتفاع درجات الحرارة والزوابع الرملية التي تحدث من حين إلى آخر"، مبينا ان " لا وجود هنا لأي شيء لا ماء ولا كهرباء ولا أكل، فقط خيمة وبعض الأشياء ".

ويستدرك : نحن بانتظار المساعدات التي خصصت من المنظمات الحكومية وغير الحكومية بالإضافة إلى المنح التي أقرها مجلس الوزراء لنا "، مؤكدا انه " رغم قلة هذه المساعدات إلا أنها تسد بعض حاجاتنا الضرورية ".

مخاوفنا زالت بعد وجبة غداء

شعور غريب خوفا من مصير مجهول راود أبو محمد (47) عاما طوال رحلة نزوحه مع عائلته إلى ناحية عين التمر التابعة لمحافظة كربلاء، بعد سيطرة عصابات "داعش" الإرهابية على مدينته وبدء مدفعيات الجيش قصفها لتلك المدينة، رحلة شاقة في عجلة حمل متجهة إلى أطراف الأنبار من الجنوب حيث ناحية عين التمر المحاذية لمحافظته .

يشير أبو محمد من أهالي الفلوجة إلى انه " لم تكن عائلته الوحيدة التي اختارت التوجه إلى عين التمر "، موضحا ان " العديد من العائلات فضلت الناحية لكونها الأقرب عليهم من جهة ولعدم تمكنهم من النزوح إلى العاصمة بغداد من جهة أخرى لانقطاع الطرق الرابطة بينهم ومحاصرتها من القوات الأمنية ".

ويوضح ، انه "وقف مستغربا عند نزوله في الناحية اذ وجد الأهالي وقائممقام الناحية باستقبالهم "، مؤكدا : شعرت وعائلتي بانسجام تام في بيت الكربلائي أبو جعفر، ومخاوفنا زالت بعد وجبة الغداء ".

ولم يستغرب قائممقام ناحية عين التمر في محافظة كربلاء رائد المشهداني، من نزوح عائلات مدينة الفلوجة إلى ناحيته اذ طالب جميع أهالي الناحية بفتح أبوابهم للنازحين لحين التنسيق مع العتبتين المقدستين العباسية والحسينية، في مركز مدينة كربلاء .

ويضيف، المشهداني انه " بالرغم من ان إمكانات القضاء محدودة في تقديم المساعدة، وعدم وجود دور سكنية حكومية، إلا ان القضاء آوى اكثر من 35 عائلة نازحة في بيوت المواطنين الذين رحبوا بعائلات الأنبار ".

إجراءات أمنية تسبق دخول النازحين

يقول المواطن حيدر الحلفي من محافظة البصرة انه " في بادئ الأمر كان هناك تردد من استقبال نازحي سنجار والموصل في البصرة خوفا من ان يكون بينهم جماعات إرهابية تعود لعصابات "داعش" ، مبينا انه " بالرغم من ان مجلس محافظة البصرة هيّأ جميع الأمور لاستقبال تلك العائلات النازحة في ربوع البصرة، إلا انه سبق ذلك الإجراء إجراء أمني مشدد على تلك الأسر لحين الانتهاء من تفتيشهم وفحص بطاقاتهم الوثوقية ".

ويضيف ، " بعد ذلك تم إجراء مسح بين النازحين لمعرفة كفاءاتهم لتشغيلهم في المحافظة، فضلا عن مزاولة الموظفين منهم عملهم في دوائر المحافظة "، لافتا إلى ان " المساعدات تصل اليهم بالتساوي ولا يتم التفريق في ما بينهم ".

ويوضح، الحلفي ان " لجنة الهلال الأحمر رصدت أعداد النازحين في محافظة البصرة، اذ بلغت أعدادهم ما يقارب 1500 أسرة نازحة "، لافتا إلى ان " النازحين في البصرة لا تنقصهم سوى العودة إلى ديارهم ،غير انهم هنا يعاملون من أهالي البصرة وكأنهم أصحاب وجيران وأهل".

فرص عمل

يؤكد النازح من تلعفر إلى بغداد قاسم جواد (25 عاما ) " على الرغم من المساعدات المرصودة للنازحين من قبل مجلس الوزراء والمواد الغذائية الموفرة من وزارة التجارة والمساعدات التي تقدمها بعض الجهات الرسمية وغير الرسمية، إلا ان هذه المعونات لا تسد الحاجة اليومية للأسر النازحة من مسكن ومأكل ومشرب وتنقل "، مبينا انه " يعمل حاليا في احد المطاعم السياحية الواقعة في منطقة الجادرية ".

ويلفت، جواد إلى ان " إدارة المطعم تعاطفت معه بشكل سريع ووفرت له عملا مسائيا إضافة إلى سكن "، مشيرا إلى ان " أسرته المتكونة من والدته وثلاثة إخوه تتواجد في احدى الحسينيات الواقعة بالقرب من الباب الشرقي ".

ولم يكن محمد الوحيد الذي تمكن من إيجاد فرص العمل، إذ أفاد صاحب محل أسواق حيدر للتسوق في حي القاهرة حيدر عبد الجبار بان " العديد من الشباب النازحين من المحافظات الساخنة يسعون للحصول على فرصة عمل "، موضحا ان " عددا من أصحاب المحال التجارية اتفقوا على توفير فرص عمل لتشغيل عدد كبير منهم بمختلف الأعمار وبمهن مختلفة ".

ويضيف، عبد الجبار ان " ابسط ما يمكن تقديمه للنازحين هو توفير عمل يتقاضى من خلاله راتبا رمزيا يسد جزءا من متطلبات العيش الصعبة نتيجة الأعمال الإرهابية التي نفذها تكفيريو "داعش" التي أدت إلى هروب آلاف الأسر من محافظات نينوى وصلاح والدين وأجزاء من كركوك وديالى "، منوها ان " العشرات منها رغم تسلمها منحة المليون دينار التي وزعتها وزارة الهجرة والمهجرين لم تؤمن ما تحتاجه من طعام وشراب وملابس إضافة إلى وسائل الراحة الأخرى ".

ويبين ان " أهالي صلاح الدين ونينوى، لا سيما قضاء تلعفر المتوزعين بين مختلف مناطق العاصمة يجب ان تكون لهم الأولوية في توفير فرص العمل نتيجة للحالة المأساوية التي مروا بها ".

النازحون والصحة

أثارت المخاطر الصحية الفورية والحرجة بين النازحين قلق منظمة الصحة العالمية في العراق وتخوفها من انتشار تلك الأمراض التي قد تسفر عن عواقب صحية جسيمة، ما دفع وزارة الصحة وكوادرها لبذل جهود كبيرة للوصول إلى أماكن النازحين رغم الصعوبات والمخاطر الأمنية التي لاحقتهم، اذ شكلت لجان طوارئ تضم عدداً من الأطباء بمختلف اختصاصهم الطبي لمتابعة النازحين المصابين بأمراض مختلفة كالحصبة، التدرن الرئوي، شلل الأطفال، وغيرها من الأمراض الأخرى .

وباشرت وزارة الصحة العراقية تنفيذ حملة لمساعدة الأسر النازحة جراء عنف تنظيم ما يسمى (داعش) من خلال تقديم خدمات صحية لهم وإجراء العمليات الجراحية اللازمة، شملت قيام فرق صحية جوالة بزيارات دورية لأماكن تواجد النازحين لإجراء فحوصات طبية لهم وتلقيحهم ضد الأمراض المعدية ومتابعة أوضاع المرضى ومعالجتهم وتوفير خدمة الإسعاف الفوري للحالات الطارئة.

يذكر مدير إعلام وزارة الصحة الدكتور عبد الغني سعدون أن " شحنات كبيرة من الأدوية والمستلزمات الصحية والإغاثية ترسل على شكل دفعات لإسناد دوائر الصحة في المحافظات التي تحتضن آلاف النازحين، بينها كربلاء والنجف وذي قار والناصرية .

يضيف " نعمل بشكل حثيث على دعم كل دوائرنا الصحية في المحافظات لتعزيز قدراتها على تلبية الاحتياجات الصحية للأسر النازحة وتمكينها من توفير خدمات طبية وعلاجية متميزة "، مشيرا إلى ان " الوزارة أنشأت غرفة عمليات تتولى مهام تأمين الأدوية ومواد إنسانية لإغاثة النازحين ".

ويتابع، سعدون " لدينا فرق طبية تقوم حاليا بفحص العائلات النازحة ومتابعتها دوريا وتقييم وضعها الصحي العام، إضافة إلى إجلاء الحالات المرضية الصعبة والطارئة إلى المستشفيات القريبة ".

ويؤكد أن " الوزارة باشرت بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية بتلقيح نحو أربعة ملايين طفل تحت سن الخامسة في مختلف أنحاء البلاد ضد مرض شلل الأطفال "

، لافتا إلى ان " اللجنة كثفت جهود التحصين من المرض في مقرات وتجمعات النازحين ".

الوضع الاقتصادي

يقول عضو اللجنة المالية النيابية عبد الحسين الياسري ان " اللجنة المؤقتة التي شكلها البرلمان لبحث ملف الموازنة وضعت أولى مهامها بحث التخصيصات المالية للفقراء والنازحين من المناطق الساخنة ".

ويضيف ان " إقرار قانون طوارئ استثنائي سيقدم الدعم المالي للنازحين, لكون اغلب النازحين هم اسر كاملة لا تمتلك أموالا لازمة لتغطية نفقاتها "، مشددا على " ضرورة تكاتف الشعب العراقي والوقوف كصف واحد لمواجهة هذه الهجمة التي تستهدف المواطن العراقي من دون تمييز عرقي أو طائفي أو قومي ".

في المقابل يرى الخبير الاقتصادي عباس إن " الوضع الاستثنائي الذي يمر به البلد خلط الأوراق وجعل القرارات الآنية هي المسيطرة على واقع الاقتصاد المحلي "، مبينا ان " التخبط الحاصل في توزيع الأموال على متضرري الأوضاع الأمنية يدل على عدم وجود خطط بديلة للحكومة تساعدها على مواجهة الكوارث المتوقع حصولها في المستقبل القريب".

ويوضح ، ان " القوى السياسية ونتيجة اختلافها المتواصل على المكاسب الشخصية والفئوية أخرت اهم القوانين في الدولة ومن ضمنها موازنة البلد التي يعتاش عليها ما يقارب 60% من الشعب "،لافتا إلى ان " السنة المالية الحالية شكلت منعطفا خطرا نتيجة تصرف الجهات التنفيذية بالأموال العامة دون رقابة تشريعية تذكر بسبب الأوضاع الأمنية المربكة والمفاجئة ".

ويشير، البهادلي إلى ان " توفير الظروف الملائمة لآلاف النازحين يتطلب جهودا مؤسساتية كبيرة وموازية لحجم المأساة التي يعيشونها "، مؤكدا ان " أية مبالغ تصرف لهم غير كافية إلا بالحد الأدنى "



منقول من بغداد-المدى