أحمد عبد العال


أهل القرم أتراك مسلمون يتحدثون اللغة التركية بلهجتها القرمية، والقرم (معناها: القلعة) شبه جزيرة تقع في شمال البحر الأسود، وهي اليوم مجرد إقليم عاصمته (آق مسجد)، أي المسجد الأبيض، والروس غيروا اسمها إلى سيمفروبول، وبقرار مجلس السوفيت الأعلى في 20/6/1946 ضمت القرم إلى جمهورية أوكرانيا السوفيتية الاشتراكية، مساحة القرم 26.140 كم، وهي منطقة غنية بالموارد الطبيعية. ومواردها تكفي حاجة أهلها، وتصدر إلى البلدان والأقاليم الأخرى، حيث يوجد فيها البترول والفحم الحجري واللينيت والغاز الطبيعي والحديد والمنجنيز والرصاص والنحاس والقمح والقرمي المشهور باسم (قريمكا) جيد ووفير، والفواكه كثيرة ومتعددة الأنواع"- في القرم 450 نوعًا من العنب، و550 نوعًا من الكمثرى والأمثلة كثيرة"- والغابات الكثيفة، والملح والمرمر والتبغ من الشواهد على غنى القرم.

كانت القرم ولاية في دولة التون أوردو (الجيش الذهبي) التي أسسها أحد أحفاد جنكيز خان، وهو أبا طوخان 1218م، وعندما دمَّر تيمور لنك هذه الدولة تفرقت إلى ثلاثة خانيات، كانت القرم واحدة منها، تولَّى الحكم في خانية القرم عائلة كيراي- منذ 1427 إلى 1783م- التي فطنت إلى خطورة روسيا على القرم، فوقفوا ضد توسعها، حيث حاصر محمد كيراي موسكو عام 1521م، وأخضع حاكمها واسيلي، وأجبره على دفع الجزية، ثم فتح دولة كيراي موسكو عام 1571م.

عندما أصاب الضعف خانية القرم بدأت اعتداءات الروس عليها، وفي عام 1771م قتلت الجيوش الروسية 350.000 قرمي.
تاريخ المسلمين في القرم يعود إلى ما بعد غارات التتار على العالم الإسلامي، فبعد هجماتهم الشهيرة على بلاد المسلمين، والتي نتج عنها إشهار إحدى قبائل التتار إسلامهم عام 740هـ ، وانتشر الإسلام بواسطة هذه القبيلة- القبيلة الذهبية- على طول نهر الفولجا الذي أصبح نهرًا إسلاميًا من منبعه إلى مصبَّه، كما انتشر في منطقة جبال الأورال، ونشأت إمارة القبشاق إحدى ممالك المغول الكبرى، والتي سيطرت على أجزاء واسعة من روسيا وسيبيريا، واتخذت من مدينة سراي في الفولجا عاصمةً لها، وأصبحت شبه جزيرة القرم التي استوطنتها القبائل التتارية كلها إسلامية، وظهر في هذه المنطقة الكثير من المدن والحواضر الإسلامية، وأصبحت أغلب المناطق التي عرفت فيما بعد بالاتحاد السوفيتي خاضعةً لحكم التتار المسلمين، وامتد حكمهم لهذه المناطق ثلاثة قرون تقريبًا، وكانت خلالها موسكو إمارة صغيرة تخضع لحكم أمير قازاق المسلم، وكان أمير موسكو لا يعيّن إلا بعد استشارة أمير قازاق المسلم، وظلت إمارة موسكو تدفع الجزية للإمارات التترية المسلمة حتى عام 918هـ.

مذابح إيفان الرهيب:
استطاع قيصر روسيا "إيفان الرهيب" سنة 1552م أن يقضي على الإمارات الإسلامية، وأن يسيطر على جزيرة القرم الإسلامية بعد أن أدَّت الخلافات بين الأمراء المسلمين إلى إضعافهم، وتمكين عدوهم منهم، وتحولت الإمارة الكبرى إلى ثلاث إدارات هي:
استراخان، وقازان، والقرم، وقام بطرس الأول عام 1678م بمحاصرة القرم التي أُسقطت في عهد الإمبراطورة "انا أوانوفنا" عام 1736م، واحتلت الجيوش الروسية عاصمة القرم بخشراي، وأحرقت الوثائق التي كانت تعدّ ذخيرة علمية لا تقدر بثمن، وكانت رمزًا تاريخيًا للشعب التتري.
عندما سيطر الروس على شبه جزيرة القرم قاموا بقتل 350 ألف مسلم تتري، كما قاموا بنفي نحو 500 ألف مسلم بعيدًا عن بلادهم، وإحلال الروس مكانهم، ومع زيادة عملية التهجير الإجباري أصبح مسلمو القرم أقلية في بلادهم مقابل أكثرية الروس، ولقد مارست الجيوش الروسية المذابح ضد السكان الآمنين إلى درجة أن الجثث لم تجد من يدفنها، وانتشرت الأوبئة التي أودت بحياة القتلة الروس أنفسهم، إلا أن أبشع المذابح وقعت عام 1771م عندما طبقت الجيوش الروسية المعتدية شعار: (من غير انتظار ولا عودة يجب محو التتار من هذه الأرض).

المسلمون والثورة الشيوعية:
في 13/12/1917م تم إعلان استقلال جمهورية القرم الشعبية في ظل الثورة البلشفية، يقوم على إدارتها حكومة وطنية، لكن البلاشفة- الشيوعيين- لم يكونوا جادين في إعطاء القرم الاستقلال؛ لأن 30 ألف من بلاشفة مدينة (آق يار)- غيَّر الروس اسمها إلى (سيفا ستبول)- من جنوب البحرية والعمال لم يعترفوا بسلطة الحكومة الوطنية، وقاموا بمساعدة الروس المهجَّرين إلى القرم، وقاموا بإسقاط الحكومة وإعدام رئيس جمهورية القرم جلبي نعمان وإلقاء جثته في البحر عام 1918م، وفي عام 1920م وبعد الثورة الشيوعية في موسكو أعلنت موسكو قيام جمهورية القرم ذات الاستقلال الذاتي، وعينوا لرئاستها بلشفيًا "قرميًا" يُدعى ولي إبراهيم.

وفي عام 1928م، اعترض ولي إبراهيم وأعضاء حكومته القرمية على فكرة ستالين بإقامة دولة يهودية في القرم، وبالتالي على تدفق الهجرات اليهودية إلى القرم، فصدرت الأوامر من موسكو بإعدام رئيس الجمهورية ولي إبراهيم وكل أعضاء حكومته، وقاموا عام 1929من بنفي أكثر من 40 ألف تتري إلى منطقة سفر دلوفسك في سيبريا، كما أودت مجاعة أصابت القرم عام 1931م بنحو 60 ألف شخص.

إلغاء الجمهورية:
أصدر المجلس السوفيتي الأعلى قرارًا في 20 يونيو 1946م بإلغاء جمهورية القرم ذات الاستقلال الذاتي وإلحاقها بأوكرانيا، وذلك كما ورد في القرار لخيانة شعب القرم لدولة اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، وفي عام 1967م ألغى مجلس الاتحاد السوفيتي قراره السابق باتهام شعب القرم بالخيانة، ولكنه لم يسمح لهم بالعودة إلى وطنهم، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وإعلان غورباتشوف آخر زعيم للاتحاد السوفيتي برنامجه الإصلاحي عام 1985م بدأ المسلمون التتار رحلة العودة إلى بلادهم في شبه جزيرة القرم، التي أصبحت جزءًا من أوكرانيا ولكن بلا أي حقوق، ويقدّر عدد الذين عادوا منهم بثلاث مائة ألف شخص يعيشون في ديارهم عيشة بائسة وسط ظروف مأساوية بالغة الصعوبة، حتى خيم عليهم شبح المجاعات، ومات عشرات الألوف بسبب الجوع، وإضافة إلى الجوع والتشرد وعدم وجود مأوى لهؤلاء العائدين، فهم يعانون من إهمال الحكومة الأوكرانية لهم، وعدم منح الجنسية الأوكرانية لأي عائد ليس له منزل، ومن يبني منزلاً دون ترخيص حكومي يُهدم منزله، ويُترك هو بلا مأوى، وهذا قد انعكس على أوضاعهم الصحية والاجتماعية، حيث تفشت بينهم الأمراض وخاصةً الأطفال، حيث يعد 80% من أطفال القرم مصابين بأمراض فتَّاكة جَّراء نقص المستشفيات والأدوية، وليس في القرم كلها سوى مستوصف واحد، كما يعاني مسلمو القرم من جهل شديد بالدين الإسلامي؛ لدرجة أن غالبيتهم لا يعرفون نطق الشهادتين، وقد تقلص عدد المساجد في جزيرة القرم، حيث كان عددها سنة 1940م هو 1200 مسجد، ليصل بعد حرب الإبادة الشديدة والتشريد التي شنها الشيوعيون على أهالي القرم إلى سبعة مساجد فقط تعاني التصدَّع والإهمال، كما لا يوجد هناك إلا مدرسة دينية واحدة فيها عدد من المدرّسين الأتراك الذين يعلَّمون القرآن الكريم.

- ومن المشاكل الكبيرة التي يواجهها مسلمو القرم بجانب الجوع والمرض والجهل مشكلة البطالة، التي تصل إلى 49%، وهم ينظرون إلى إخوانهم المسلمين في العالم نظرة أمل وتفاؤل، ويأملون في إقامة مشروعات على أرضهم، والتوجه إلى حل مشكلاتهم، والتواصل مع المسلمين في العالم العربي والإسلامي.

عن موقع مركز الشرق العربي
المصادر
1 - المسلمون في آسيا والبلقان. د/ محمد حرب
2 - موقع الألوكة (مسلمو القرم في دوائر النسيان).
3 - الرائد "اتحاد المنظمات الاجتماعية الرائد في أوكرانيا".
-----------------
المصدر : موقع آسيا الوسطى