كان الارق يهمين على ليالي ضباط ومراتب الفوج الثالث لواء 36 الذي تناثرت خيمه البيضاء على سفح جبل كويزة المشرف على مدينة السليمانية العراقية من جهتها الشرقية , فمن جهة خوف الجنود من الهجمات الليلية لقوات البيشمركة ( قوات البيشمركة تسمية تطلق على الجيش الكردي في شمال العراق) في صيف عام 1974 ومن جهة اخرى تلك الرياح القوية التي كانت تعصف بالخيام ودويها الذي يستمر يوميا من منتصف الليل الى ماقبل الفجرولذلك اطلق عليها سكان سليمانية اسم ( رشه با ) اي الرياح السوداء, ناهيك عن الخوف من كثرة الافاعي والعقارب.

كنا نادرا مانتمكن من النوم قبل سكون تلك الرياح المزعجة وهكذا وانا بانتظار سكوت صغير للرياح السوداء لاغماض جفوني المتعبتان من السهر فاذا بصخب وجلبة تقترب من خيمتي ( خيمة الطبابة) حتى صاح احد الجنود

دكتور ..دكتور..هناك مصاب

نهضت من فراشي وانا العن الشيطان وانا اسأل كيف اصيب وبماذا؟؟

دكتور..صاح احدهم .. اصيب بطلق ناري.

وعلى ضوء الفانوس وجدت شابا ممدا على الارض وعلمت ان فتحة دخول الاطلاقة تقع تحت الضلع الاخير من الجهة اليمنى وفتحة الخروج قريبة من مفصل الكتف الايمن والنزيف مستمرمن فتحة الخروج وهذا يعني ان الاطلاقة قد مزقت الكبد والرئة اليمنى وهشمت عظم لوح الكتف .

كان لابد ان اعوض الجريح بالدم المفقود فااستطعت تشكيل المحلول الوريدي وفي الوقت نفسه تولى المضمد بمعالجة فتحة الخروج وتضميدها ..

سمح السيد امر الفوج بنقل الجريح الى مستشفى السليمانية العسكري(م . س .ع) شرط عدم اشعال الاضوية الامامية لسيارة الاسعاف.

رجعت الى فراشي لانام نوما عميقا عتى الساعة الثامنة والنصف صباحا رغم شدة حرارة الجو.

هيئك نفسك يااسماعيل (قصدت المضمد) وبلغ السائق هاشم باننا سوف نراجع (م.س.ع) لجلب بعض الادوية والمستلزمات الطبية ونزور الجريح وبالمرة نشتري بعض الاشياء من اسواق المدينة.

في الطريق اخبرنا السائق هاشم بأن الجندي المصاب من بغداد وهو متطوع وعمره لايزيد عن 16 عام ويرفض الاجازة الشهرية لزيارة اهله لانه ينتظر رواتبه منذ تطوعه قبل ثلاثة اشهرواسمه (يوسف طارش).

علمنا انه قد توفي في المستشفى بعد ساعة من وصوله وأودعت جثته في ثلاجة الطب العدلي .

في العودة كان لابد اخبار امر الفوج للسماح بأرسال جثمانه الى اهله بمرافقة احد الجنود ممن يعرف عنوانه .

كنا قد اصبحنا خارج الاحياء السكنية في طريق العودة واذا بردل يرتدي بنطالا خاكي وقميصا نصف كم بلون ازرق فاتح وهو يوْشر تجاهنا طلبا للوقوف .

رجل في منتصف الخمسينات من العمر يتفصد جبينه عرقا وعلى وجهه اثار القلق العناء تغطيه مسحة من الآلم والحزن.

سلم الرجل علينا ...رددنا التحية

تفضل عمي ...ماذا تفعل هنا واين وجهتك

اجاب..

ابحث عن الفوج الثالث لواء 36.

اصعد اذن فنحن متوجهون الى ذلك الفوج .

ظل الرجل ساكتا ينتظر ان نسأله عن سبب زيارته للفوج ....

بادره المضمد بالسوْال ..

جئت لاْزور ابني

من هو ابنك؟

يوسف طارش

وقع الامر كالمطرقة على روْوسنا حتى كاد السائق هاشم ان ينحرف عن الطريق الترابي نحو وادي ليس عميقا يوازي الطريق.

شعر الرجل ان اسم ابنه كان مفاجاْة علينا

لكي اتدارك هذا الموقف المحرج سألته ..

عجبا اخترت هذا اليوم للزيارة ؟

اجاب الرجل ..

منذ تطوعه للخدمة في الجيش قبل ثلاثة اشهر لم يتمتع بأجازته ولم نلتقي به . .

هذه الليلة ايقظتني والدته واصرت علي لزيارته لانها رأته في المنام انه ميت .

حاولت تفسير هذه المصادفة العجيبة مع نفسي ..هل هو تنبوْ من تنبوْات اداموس ام هو نوع من انوع توارد الخواطر....لم اتوصل الى نتيجة .

وصلنا الباب النظامي لوحدتنا العسكرية . طلبت من الرجل الانتظار حتى اخبر امر الفوج .

اصيب الآمر بالدهشة والذهول ........

اسرعت بشرح ماحصل لاخفف عنه هذه الصدفة .

بادرني بالكلام ..

دكتور ...اذهب واصحب معك النقيب محمد واخبراه الحقيقة

بعث النقيب محمد واستدعى الرجل ...

اسمع ياعمي ابو يوسف ..امس كان الجنود يحفرون موضعا للاختباء فااصيب بضربة معول على كتفه سهوا فارسلته الى (م.س.ع)

قال وبصوت يشوبه الشك والحزن..

دكتور ...الموت حق فاذا كان ميتا فاخبرني رجاء.

الحقيقة عندما ارسلته الى المستشفى كان مازال حيا ............................


منقول