كان لقيط بن زرارة قد عزم على غزو بني عامر بن صعصعة للأخذ بثأر أخيه معبد بن زرارة، وقد ذكرنا موته عندهم أسيراً. فبينما هو يتجهز أتاه الخبر يحلف بني عبس وبني عامر، فلم يطمع في القوم وأرسل إلى كل من كان بيته وبين عبس ذحل يسأله الحلف والتظافر على غزو عبس وعامر. فاجتمعت إليه أسد وغطفان وعمرو بن الجون ومعاوية بن الجون واستوثقوا واستكثروا وساروا، فعقد معاوية بن الجون الألوية، فكان بنو أسد وبنو فزارة بلواء مع معاوية بن الجون، وعقد لعمرو بن تميم مع حاجب بن زرارة، وعقد للرباب مع حسان بن همام، وعقد لجماعة من بطون تميم مع عمرو ابن عدس، وعقد لحنظلة بأسرها مع لقيط بن زرارة، وكان مع لقيط ابنته دخنتوس، وكان يغزو بها معه ويرجع إلى رأيها.
وساروا في جمع عظيم لا يشكون في قتل عبس وعامر وإدراك ثأرهم، فلقي لقيط في طريقه كرب بن صفوان بن الحباب السعدي، وكان شريفاً، فقال: ما منعك أن تسير معنا في غزاتنا؟ قال: أنا مشغول في طلب إبل لي. قال: لا بل تريد أن تنذر بنا القوم، ولا أتركك حتى تحلف أنك لا تخبرهم، فحلف له، ثم سار عنه وهو مغضب. فلما دنا من عامر أخذ خرقة فصر فيها حنظلةً وشوكاً وتراباً وخرقتين يمانيتين وخرقة حمراء وعشرة أحجار سود ثم رمى بها حيث يسقون ولم يتكلم. فأخذها معاوية بن قشير، فأتى بها الأحوص بن جعفر وأخبره أن رجلاً ألقاها وهم يسقون. فقال الأحوص لقيس بن زهير العبسي: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: هذا من صنع الله لنا، هذا رجل قد أخذ عليه عهدٌ على أن لا يكلمكم فأخبركم أن أعداءكم قد غزوكم عدد التراب، وأن شوكتهم شديدة، وأما الحنظلة فهي رؤساء القوم، وأما الخرقتان اليمانيتان فهما حيان من اليمن معهم، وأما الخرقة الحمراء فهي حاجب بن زرارة، وأما الأحجار فهي عشر ليال يأتيكم القوم إليها، قد أنذرتكم فكونوا أحراراً فاصبروا كما يصبر الأحرار الكرام.
قال الأحوص: فإنا فاعلون وآخذون برأيك، فإنه لم تنزل بك شدة إلا رأيت المخرج منها. قال: فإذا قد رجعتم إلى رأيي فأدخلوا نعمكم شعب جبلة ثم اظمئوها هذه الأيام ولا توردوها الماء، فإذا جاء القوم أخرجوا عليهم الإبل وانخسوها بالسيوف والرماح فتخرج مذاعير عطاشاً فتشغلهم وتفرق جمعهم واخرجوا أنتم في آثارها واشفوا نفوسكم. ففعلوا ما أشار به.
وعاد كرب بن صفوان فلقي لقيطاً فقال له: أنذرت القوم؟ فأعاد الحلف له أنه لم يكلم أحداً منهم، فخلى عنه. فقالت دخنتوس ابنة لقيط لأبيها: ردني إلى أهلي ولا تعرضني لعبس وعامر فقد أنذرهم لا محالة. فاستحمقها وساءه كلامها وردها. وسار حتى نزل على فم الشعب بعساكر جرارة كثيرة الصواهل وليس لهم هم إلا الماء، فقصدوه. فقال لهم قيس: أخرجوا عليهم الآن الإبل، ففعلوا ذلك، فخرجت الإبل مذاعير عطاشاً وهم في أعراضها وأدبارها، فخبطت تميماً ومن معها وقطعتهم، وكانوا في الشعب، وأبرزتهم إلى الصحراء على غير تعبية. وشغلوا عن الاجتماع إلى ألويتهم، وحملت عيهم عبس وعامر فاقتتلوا قتالاً شديداً وكثرت القتلى في تميم، وكان أول من قتل من رؤسائهم عمرو بن الجون، وأسر معاوية بن الجون وعمرو بن عمرو بن عدس زوج دخنتوس بنت لقيط، وأسر حاجب ابن زرارة، وانحاز لقيط بن زرارة، فدعا قومه وقد تفرقوا عنه، فاجتمع إليه نفر يسير، فتحرز برايته فوق جرف ثم حمل فقتل فيهم ورجع وصاح: أنا لقيط، وحمل ثانيةً فقتل وجرح وعاد، فكثر جمعه، فانحط الجرف بفرسه، وحمل عليه عنترة فطعنه طعنة قصم بها صلبه، وضربه قيس بالسيف فألقاه متشحطاً في دمه، فذكر ابنته دخنتوس فقال:
يا ليت شعري عنك دخنتوس ** إذا أتاها الخبر المرموس

أتحلق القرون أم تميس ** لا بل تمس إنّها عروس

ثم مات وتمت الهزيمة على تميم وغطفان، ثم فدوا حاجباً بخمسمائة من الإبل، وفدوا عمرو بن عمرو بمائتين من الإبل، وعاد من سلم إلى أهله. وقالت دختنوس ترثي أباها قصائد، منها:
عثر الأغرّ بخير خن ** دف كهلها وشبابها

وأضرّها لعدوّها ** وأفكّها لرقابها

وقريعها ونجيبها ** في المطبقات ونابها

ورئيسها عند الملو ** ك وزين يوم خطابها

وأتّمها نسباً إذا ** رجعت إلى أنسابها

فرعى عموداً للعشي ** رة رافعاً لنصابها

ويعولها ويحوطها ** ويذبّ عن أحسابها

ويطا مواطن للعد ** وفكان لا يمشى بها

فعل المدلّ من الأسو ** د لحينها وتبابها

كالكوكب الدّرّيّ في ** سماء لا يخفى بها

عبث الأغرّ به وك ** لّ منيّة لكتابها

فرّت بنو أسد فرا ** ر الطير عن أربابها

وهوازنٌ أصحابهم ** كالفأر في أذنابها

وذكر محمد بن إسحاق في يوم جبلة غير ما ذكرنا، قال: كان سببه أن بني خندف كان لهم على قيس أكلٌ تأكله القعدد من خندف، فكان ينتقل فيهم حتى انتهى إلى تميم، ثم من تميم إلى بني عمرو بن تميم، وهم أقل بطن منهم وأذله، فأبت قيس أن تعطي الأكل وامتنعت منه، فجمعت تميم وحالفت غيرها من العرب وساروا إلى قيس، فذكر القصة نحو ما تقدم وخالف في البعض فلا حاجة إلى ذكره.
وفي هذا اليوم ولد عامر بن الطفيل العامري.
وقد قال بعض العلماء إن المجوسية كان يدين بها بعض العرب بالبحرين، وكان زرارة عدس وابناه حاجب ولقيط والأقرع بن حابس وغيرهم مجوساً، وإن لقيطاً تزوج ابنته دختنوس وسماها بهذا الاسم الفارسي، وإنه قتل وهي تحته، فقال في ذلك: يا ليت شعري عنك دختنوس الأبيات. والأول أصح، والله أعلم.