يوم البقيع:

ثم التقت الأوس والخزرج ببقيع الغرقد فاقتتلوا قتالاً شديداً، فكان الظفر يومئذ للأوس؛ فقال عبيد بن ناقد الأوسي:
لّما رأيت بني عوفٍ وجمعهم ** جاءوا وجمع بني النجّار قد حفلوا

دعوت قومي وسهّلت الطريق لهم ** إلى المكان الذي أصحابه حللوا

جادت بأنفسها من مالك عصبٌ ** يوم اللقاء فما خافوا ولا فشلوا

وعاوروكم كؤوس الموت إذ برزوا ** شطر النهار وحتّى أدبر الأصل

حتى استقاموا وقد طال المراس بهم ** فكلّهم من دماء القوم قد نهلوا

تكشّف البيض عن قتلى أولى رحمٍ ** لولا المسالم والأرحام ما نقولا

تقول كلّ فتاةٍ غاب قيّمها: ** أكلّ من خلفنا من قومنا قتلوا

لقد قتلتم كريماً ذا محافظة ** قد كان حالفه القينات والحلل

جزلٌ نوافله حلوٌ شمائله ** ريّان واغله تشقى به الإبل

الواغل: الذي يدخل على القوم وهم يشربون.
فأجابه عبد الله بن رواحة الحارثي الخزرجي:
لّما رأيت بني عوفٍ وإخوتهم ** كعباً وجمع بني النجّار قد حفلوا

قدماّ أباحوا حماكم بالسيوف ولم ** يفعل بكم أحدٌ مثل الذي فعلوا

وكان رئيس الأوس يومئذ في حرب حاطب أبو قيس بن الأسلت الوائلي، فقام في حربهم وهجر الراحة، فشحب وتغير. وجاء يوماً إلى امرأته فأنكرته حتى عرفته بكلامه، فقالت له: لقد أنكرتك حتى تكلمت! فقال:
قالت ولم تقصد لقيل الخنا: ** مهلاً فقد أبلغت أسماعي

واستنكرت لوناً له شاحباً ** والحرب غولٌ ذات أوجاع

من يذق الحرب يجد طعمها ** مرّاً وتتركه بجعجاع

قد حصّتّ البيضة رأسي فما ** أطعم نوماً غير نهجاع

أسعى على جلّ بني مالك ** كلّ امرئ في شأنه ساعي

أعددت للأعداء موضونةً ** فضفاضةً كالنّهي بالقاع

أحفزها عنّي بذي رونق ** مهنّدٍ كاللمع قطّاع

صدقٍ حسامٍ وادقٍ حدّه ** ومنحنٍ أسمر قرّاع

وهي طويلة ثم إن أبا قيس بن الأسلت جمع الأوس وقال لهم: ما كنت رئيس قوم قط إلا هزموا، فرئسوا عليكم من أحببتم؛ فرأسوا عليهم حضير الكتائب بن السماك الأشهلي، وهو والد أسيد بن حضير لولده صحبةٌ، وهو بدريّ، فصار حضير يلي أمورهم في حروبهم. فالتقى الأوس والخزرج بمكان يقال له الغرس، فكان الظفر للأوس، ثم تراسلوا في الصلح فاصطلحوا على أن يحسبوا القتلى فمن كان عليه الفضل أعطى الدية، فأفضلت الأوس على الخزرج ثلاثة نفر، فدفعت الخزرج ثلاثة غلمة منهم رهناً بالديات، فغدرت الأوس فقتلت الغلمان.