.ذكر ولادة المسيح عليه السلام ونبوته إلى آخر أمره:

كانت ولادة المسيح أيّام ملوك الطوائف، قالت المجوس: كان ذلك بعد خمس وستّين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل، وبعد إحدى وخمسين سنة مضت من ملك الأشكانيّين، وقالت النصارى: إنّ ولادته كانت لمضيّ ثلاثمائة وثلاث وستّين سنة من وقت غلبة الإسكندر على أرض بابل، وزعموا أنّ مولد يحيى كان قبل مولد المسيح بستّة أشهر، وأنّ مريم، عليها السلام، حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: عشرون، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياماً، وأن مريم عشات بعده ستّ سنين، فكان جميع عمرها إحدى وخمسين سنة، وأن يحيى قُتل قبل أن يرفع المسيح، وأتت المسيح النبوّة والرسالة وعمره ثلاثون سنة.
وقد ذكرنا حال مريم في خدمة الكنيسة، وكانت هي وابن عمّها يوسف بن يعقوب بن ماثان النجّار يليان خدمة الكنيسة، وكان يوسف حكيماً نجّاراً يعمل بيديه ويتصدّق بذلك، وقالت النصارى: إنّ مريم كان قد تزوّجها يوسف ابن عمّها إلا أنّه لم يقربها إلاّ بعد رفع المسيح، والله أعلم.
وكانت مريم إذا نفد ماؤها وماء يوسف ابن عمّها أخذ كلّ واحد منهما قُلّته وانطلق إلى المغارة التي فيها الماء يستعذبان منه ثمّ يرجعان إلى الكنيسة، فلمّا كان اليوم الذي لقيها فيه جبرائيل نفد ماؤها فقالت ليوسف ليذهب معها إلى الماء، فقال: عندي من الماء ما يكفيني إلى غد، فأخذت قلّتها وانطلقت وحدها حتى دخلت المغارة، فوجدت جبرائيل قد مثله الله {لها بشراً سويّاً} مريم: 17، فقال لها: يا مريم إنّ الله قد بعثني إليك {لأهب لك غُلاماً زكيّاً} مريم: 19، {قالت إني أعوذ بالرّحمن منك إن كنت تقيّاً} مريم: 18 أي مطيعاً لله، وقيل: هو اسم رجل بعينه، وتحسبه رجلاً، {قال إنما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً قالت أنّى يكون لي غلامٌ ولم يمسسني بشرٌ ولم أك بغيّاً- أي زانية- قال كذلك قال ربّك} إلى قوله: {أمراً مقضياً} مريم: 19- 21.
فلمّا قال ذلك استسلمت لقضاء الله، فنفخ في جيب درعها ثمّ انصرف عنها وقد حملت بالمسيح، وملأت قلّتها وعادت، وكان لا يُعلم في أهل زمانها أعبد منها ومن ابن عمّها يوسف النجّار، وكان معها، وهو أوّل من أنكر حملها، فلمّا رأى الذي بها استعظمه ولم يدرِ على ماذا يضع ذلك منها، فإذا أراد يتّهمها ذكر صلاحها وأنّها لم تغبْ عنه ساعة قطّ، وإذا أراد يبرئها رأى الذي بها، فلمّا اشتدّ ذلك عليه كلّمها فكان أوّل كلامه لها أن قال لها: إنّه قد وقع من أمرك شيء قد حرصتُ على أن أميته وأكتمه فغلبني، فقالت: قلْ قولاً جميلاً، فقال: حدّثيني هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت: نعم، قال: فهل ينبت شجر بغير غيث يصيبه؟ قالت: نعم، قال: فهل يكون ولد بغير ذكر؟ قالت له: نعم، ألم تعلم أنّ الله أنبت الزّرع يوم خلقه بغير بذر ألم تعلم أن الله خلق الشجر من غير مطر وأنّّه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعدما خلق كلّ واحد منهما وحده أو تقول لن يقدر الله على أن ينبت حتى يستعين بالبذر والمطر قال يوسف: لا أقول هكذا ولكنّي أقول إنّ الله يقدر على ما يشاء، إنّما يقول لذلك كن فيكون، قالت له: ألم تعلم أنّ الله خلق آدم وحوّاء من غير ذكر ولا أنثى قال: بلى، فلمّا قالت له ذلك وقع في نفسه أنّ الذي بها شيء من الله لا يسعه أن يسألها عنه لما رأى من كتمانها له.
وقيل: إنها خرجت إلى جانب الحجرات لحيض أصابها فاتخذت من دونهم حجاباً من الجدران، فلمّا طهرت إذا برجل معها، وذكر الآيات، فلمّا حملت أتتها خالتُها امرأة زكرياء ليلة تزورها، فلمّا فتحت لها الباب التزمتها، فقالت امرأة زكرياء: إني حبلى، فقالت لها مريم: وأنا أيضاً حبلى، قالت امرأة زكرياء: فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك.
وولدت امرأة زكرياء يحيى، وقد اختلف في مدّة حملها، فقيل: تسعة أشهر، وهو قول النصارى، وقيل: ثمانية أشهر، فكان ذلك آية أخرى لأنّه لم يعش مولود لثمانية أشهر غيره، وقيل: ستة أشهر، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: ساعة واحدة، وهو أشبه بظاهر القرآن العزيز لقوله تعالى: {فحملته فانتبذت به مكاناً قصيّاً} مريم: 22؛ عقبه بالفاء.
فلمّا أحست مريم خرجت إلى جانب المحراب الشرقيّ فأتت أقصاه {فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت} وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس- {يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً} مريم: 23 يعني نسي ذكري وأثري فلا يرى لي أثر ولا عين، قالت مريم: كنت إذا خلوت حدّثني عيسى وحدّثته، فإذا كان عندنا إنسان سمعت تسبيحه في بطني، {فناداها} جبرائيل {من تحتها}- أي من أسفل الجبل- {ألا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريّاً} مريم: 24، وهو النهر الصغير، أجراه تحتها، فمن قرأ: من تحتها، بكسر الميم، جعل المنادي جبرائيل، ومن فتحها قال إنّه عيسى، أنطقه الله، {وهزّي إليك بجذع النخلة} مريم: 25، كان جذعاً مقطوعاً فهزّته فإذا هو نخلة، وقيل: كان مقطوعاً فلمّا أجهدها الطلق احتضنته فاستقام واخضرّ وأرطب، فقيل لها: {وهزي إليك بجذع النخلة} فهزّته فتساقط الرطب فقال لها: {فكلي واشربي وقرّي عيناً فإمّا ترينّ من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرّحمن صوماً فلن أكلّم اليوم إنسيّاً} مريم: 26، وكان من صام في ذلك الزمان لا يتكلم حتى يمسي.
فلمّا ولدته ذهب إبليس فأخبر بني إسرائيل أنّ مريم قد ولدت، فأقبلوا يشتدون بدعوتها، {فأتت به قومها تحمله} مريم: 27.
وقيل: إنّ يوسف النجّار تركها في مغارة أربعين يوماً ثمّ جاء بها إلى أهلها، فلمّا رأوها قالوا لها: {يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيّاً} مريم: 27- 28 فما بالك أنت؟ وكانت من نسل هارون أخي موسى، كذا قيل.
قلت: إنها ليست من نسل هارون إنما هي من سبط يهوذا بن يعقوب من نسل سليمان بن داود، وإنما كانوا يدعون بالصالحين، وهارون من ولد لاوي بن يعقوب.
قالت لهم ما زمرها الله به، فلمّا أرادوها بعد ذلك على الكلام {أشارت إليه} فغضبوا وقالوا: لسخريّتها بنا أشدّ علينا من إنائها {قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبياً} مريم: 29، فتكلّم عيسى فقال: {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّاً} مريم: 30- 31، فكان أول ما تكلّم به العبودية ليكون أبلغ في الحجة على من يعتقد أنه إله.
وكان قومها قد أخذوا الحجارة ليرجموها، فلما تكلّم ابنها تركوها، ثمّ لم يتكلّم بعدها حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان، وقال بنو اسرائيل: ما أحبلها غير زكريّاء فإنّه هو الذي كان يدخل عليها ويخرج من عندها، فطلبوه ليقتلوه، ففرّ منه، ثمّ أدركوه فقتلوه.
وقيل في سبب قتله غير ذلك، وقد تقدّم ذكره.
وقيل: إنّه لما دنا نفاسها أوحى الله إليها: أن اخرجي من أرض قومك فإنهم إن ظفروا بك عيّروك وقتلوك وولدك، فاحتملها يوسف النجّار وسار بها إلى أرض مصر، فلمّا وصلا إلى تخوم مصر أدركها المخاض، فلمّا وعضت وهي محزونة قيل لها: {لا تحزني} الآية إلى {إنسيّاً} فكان الرطب يتساقط عليها، وذلك في الشتاء، وأصبحت الأصنام منكوسة على رؤوسها، فوزعت الشياطين فجاؤوا إلى إبليس، فلمّا رأى جماعتهم سألهم فأخبروه، فقال: قد حدث في الأرض حادث، فطار عند ذلك وغاب عنهم فمرّ بالمكان الذي ولد فيه عيسى فرأى الملائكة محدقين به، فعلم أنّ الحدث فيه، ولم تمكنه الملائكة من الدنّو من عيسى، فعاد إلى أصحابه وأعلمهم بذلك وقال لهم: ما ولدت امرأة إلاّ وأنا حاضر، وإنّي لأرجو أن أُضلّ به أكثر ممّن يهتدي.
واحتملته مريم إلى أرض مصر فمكثت اثنتي عشرة سنة تكتمه من النّاس، فكانت تلتقط السنبل والمهد في منكبيها.
قلتُ: والقول الأوّل في ولادته بأرض قومها للقرآن أصحّ لقول الله تعالى: {فأتت به قومها تحمله} مريم: 27، وقوله: {كيف نكلّم من كان في المهد صبيّاً} مريم: 29.
وقيل إن مريم حملت المسيح إلى مصر بعد ولادته ومعها يوسف النجّار، وهي الربوة التي ذكرها الله تعالى، وقيل: الربوة دمشق، وقيل: بيت المقدس، وقيل غير ذلك، فكان سبب ذلك الخوف من ملك بني اسرائيل، وكان من الروم، واسمه هيرودس، فإنّ اليهود أغروه بقتله، فساروا إلى مصر وأقاموا بها اثنتي عشرة سنة إلى أن مات ذلك الملك، وعادوا إلى الشام، وقيل: إنّ هيرودس لم يرد قتله ولم يسمع به إلاّ بعد رفعه، وإنما خافوا اليهود عليه، والله أعمل.
ذكر نبوّة المسيح وبعض معجزاته:

لما كانت مريم بمصر نزلت على دهقان، وكانت داره يزوي إليها الفقراء والمساكين، فسرق له مال، فلم يتهم المساكين، فحزنت مريم، فلمّا رأى عيسى حزن أمّه قال: أتريدين أن أدلّه على ماله؟ قالت: نعم، قال: إنّه أخذه الأعمى والمقعد، اشتركا فيه، حمل الأعمى المقعد فأخذه، فقيل للأعمى ليحمل المقعد، فأظهر العجز، فقال له المسيح: كيف قويت على حمله البارحة لما أخذتما المال؟ فاعترفا وأعاداه.
ونزل بالدهقان أضياف ولم يكن عندهم شراب، فاهتمّ لذلك، فلمّا رآه عيسى دخل بيتاً للدهقان فيه صفّان من جرار فأمرّ عيسى يده على أفواهها وهو يمشي، فامتلأت شراباً، وعمره حينئذٍ اثنتا عشرة سنة.
وكان في الكتّاب يحدّث الصبيان بما يصنع أهلوهم وبما كانوا يأكلون.
قال وهب: بينما عيسى يلعب مع الصبيان إذ وثب غلام على صبّي فضربه برجله فقتله فألقاه بين رجلي المسيح متلطّخاً بالدم، فانطلقوا به إلى الحاكم في ذلك البلد فقالوا: قتل صبيّاً، فسأله الحاكم، فقال: ما قتلته، فأرادوا أن يبطشوا به، فقال: إيتوني بالصبيّ حتى أسأله من قتله، فتعجبوا من قوله وأحضروا عنده القتيل، فدعا الله فأحياه، فقال: من قتلك؟ فقال: قتلني فلان، يعني الذي قتله، فقال بنو اسرائيل للقتيل: من هذا؟ قال: هذا عيسى بن مريم، ثمّ مات الغلام من ساعته.
وقال عطاء: سلّمت مريم إلى صبّاغ يتعلّم عنده، فاجتمع عند الصبّاغ ثياب وعرض له حاجة، فقال المسيح: هذه ثياب مختلفة الألوان وقد جعلتُ في كلّ ثوب منها خيطاً على اللّون الذي يُصبغ به فاصبغها حتى أعود من حاجتي هذه، فأخذها المسيحُ وألقاها في حُبّ واحد، فلمّا عاد الصبّاغ سأله عن الثياب فقال: صبغتها، فقال: أين هي؟ قال: في هذا الحُبّ، قال: كلّها؟ قال: نعم، قال: لقد أفسدتها على أصحابها وتغيّظ عليه، فقال له المسيح: لا تعجل وانظر إليها، وقام وأخرجها كلّ ثوب منها على اللّون الذي أراد صاحبه فتعجّب الصبّاغُ منه وعلم أن ذلك من الله تعالى.
ولما عاد عيسى وأمّه إلى الشام نزلا بقرية يقال لها ناصرة، وبها سميت النصارى، فأقام إلى أن بلغ ثلاثين سنة، فأوحى الله إليه أن يبرز للناس ويدعوهم إلى الله تعالى ويداوي المرضى والزمنى والأكمه والأبرص وغيرهم من المرضى، ففعل ما أمر به، وأحبّه الناس، وكثر أتباعه، وعلا ذكره.
وحضر يوماً طعام بعض الملوك كان دعا الناس إليه، فقعد على قصعة يأكل منها ولا تنقص، فقال الملك: من أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم، فنزل الملك عن ملكه وابتعه في نفر من أصحابه فكانوا الحواريّين.
وقيل: إنّ الحواريّين هم الصبّآغ الذي تقدّم ذكره وأصحابٌ له، وقيل: كانوا صيّادين، وقيل: قصّارين، وقيل: ملاّحين، والله أعلم، وكانت عدّتهم اثني عشر رجلاً، وكانوا إذا جاعوا أو عطشوا قالوا: يا روح الله قد جعنا وعطشنا، فيضرب يده إلى الأرض فيخرج لكل إنسان منهم رغيفين وما يشربون، فقالوا: من أفضل منّا، إذا شئنا أطعمتنا وسقيتنا فقال: أفضل منكم من يأكل من كسب يده، فصاروا يغسلون الثياب بالأجرة.
ولما أرسله الله أظهر من المعجزات أنهّه صوّر من الطين صورة طائر ثمّ نفخ فيه فيصير طائراً بإذن الله، قيل هو الخفّاش.
وكان غالباً على زمانه الطبّ فأتاهم بما أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى تعجيزاً لهم، فممّن أحياه عازر، وكان صديقاً لعيسى، فمرض، فأرسلت أختُه إلى عيسى أنّ عازر يموت، فسار إليه وبينهما ثلاثة أيّام، فوصل إليه وقد مات منذ ثلاثة أيام، فأتى قبره فدعا له فعاش، وبقي حتى ولد له، وأحيا امرأةً وعاشت وولد لها، وأحيا سام بن نوح، كان يوماً مع الحواريّين يذكر نوحاً والغرق والسفينة فقالوا: لو بعثت لنا من شهد ذلك فأتى تلاً وقال: هذا قبر سام بن نوح، ثمّ دعا الله فعاش، وقال: قد قامت القيامة؟ فقال المسيح: لا ولكن دعوت الله فأحياك، فسألوه فأخبرهم، ثمّ عاد ميتاً، وأحيا عزيراً النبيّ، قال له بنو اسرائيل، احي لنا عزيراً وإلاّ أحرقناك، فدعا الله فعاش، فقالوا: ما تشهد لهذا الرجل؟ قال: أشهد أنه عبد الله ورسوله، وأحيا يحيى بن زكرياء.
.ذكر نزول المائدة:

وكان من المعجزات العظيمة نزول المائدة. وسبب ذلك: أنّ الحواريين قالوا له: يا عيسى {هل يستطيع ربك أن ينزّل علينا مائدةً من السماء} المائدة: 112 فدعا عيسى فقال: {اللهمّ ربّنا أنزل علينا مائدةً من السماء تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا} المائدة: 114، فأنزل الله المائدة عليها خبز ولحم يأكلون منها ولا تنفد، فقال لهم: إنّها مقيمة ما لم تذخروا منها، فما مضي يومهم حتى اذّخروا، وقيل: أقبلت الملائكة تحمل المائدة عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعوها بين أيديهم، فأكل منها آخر النّاس كما أكل أوّلهم؛ وقيل: كان عليها من ثمار الجنّة، وقيل: كانت تمدّ بكلّ طعام إلاّ اللّحم، وقيل: كانت سمكة فيها طعم كلّ شيء، فلمّا أكلوا منها، وهم خمسة آلاف، وزادت حتى بلغ الطعام ركبهم، قالوا: نشهد أنك رسول الله، ثمّ تفرّقوا فتحدّثوا بذلك، فكذَّب به من لم يشهده، وقالوا: سحر أعينكم، فافتتن بعضهم وكفر، فمسخوا خنازير ليس فيهم امرأة ولا صبيّ، فبقوا ثلاثة أيام ثمّ هلكوا ولم يتوالدوا.
وقيل: كانت المائدة سفرة حمراء تحتها غمامة وفوقها غمامة وهم ينظرون إليها تنزل حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين اللهمّ اجعلها رحمةً ولا تجعلها مُثلة ولا عقوبة واليهود ينطرون إلى شيء لم يروا مثله ولم يجدوا ريحاً أطيب من ريحها، فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الجنّة؟ فقال المسيح: لا من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، إنّما هو شيء خلقه الله بقدرته، فقال لهم: كُلوا مما سألتم، فقالوا له: كل أنت يا روح الله، فقال: معاذ الله أن آكل منها فلم يأكل ولم يأكلوا منها، فدعا المرضى والزمنى والفقراء، فأكلوا منها، وهم ألف وثلاثمائة، فشبعوا، وهي بحالها لم تنقص، فصحّ المرضى والزمنى، واستغنى الفقراء، ثمّ صعدت وهم ينظرون إليها حتى توارت، وندم الحواريّون حيث يأكلوا منها.
وقيل: إنّها نزلت أربعين يوماً، كانت تنزل يوماً وتنقطع يوماً، وأمر الله عيسى أن يعدو إليها الفقراء دون الأغنياء، ففعل ذلك، فاشتدّ على الأغنياء وجحدوا نزولها وشكّوا في ذلك وشكّكوا غيرهم فيها، فأوحى الله إلى عيسى: إنّي شرطت أن أعذّب المكذّبين عذاباً لا أعذّب به أحداً من العالمين، فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين رجلاً فأصبحوا خنازير، فلمّا رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى وبكوا وبكى عيسى على الممسوخين، فلما أبصرت الخنازير عيسى بكوا وطافوا به وهو يعدوهم بأسمائهم ويشيرون برؤوسهم ولا يقدرون على الكلام، فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا.
.ذكر رفع المسيح إلى السماء ونزوله إلى أمّه وعوده إلى السماء:

قيل: إنّ عيسى استقبله ناسٌ من اليهود، فلمّا رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساح الفاعل ابن الفاعلة وقذفوه وأمّه، فسمع ذلك ودعا عليهم، فاستجاب الله دعاءه ومسخهم خنازير، فلمّا رأى ذلك رأى بني اسرائيل فزع وخاف وجمع كلمة اليهود على قتله، فاجتمعوا عليه، فسألوه، فقال: يا معشر اليهود إنّ الله يبغضكم، فغضبوا من مقالته وثاروا إليه ليقتلوه، فبعث إليه جبرائيل فأدخله في خوخة إلى بيت فيها روزنة في سقفها فرعه إلى السماء من تلك الروزنة، فأمر رأس اليهود رجلاً من أصحابه اسمه قطيبانوس أن يدخل إليه فيقتله، فدخل فلم ير أحداً، وألقى الله عليه شبه المسيح، فخرج إليهم فظنّوه عيسى، فقتلوه وصلبوه.
وقيل: إن عيسى قال لأصحابه: أيّكم يحبّ أن يُلقى عليه شبهي وهو مقتول؟ فقال رجل منهم: أنا يا روح الله، فألقي عليه شبهه، فقتل وصلب.
وقيل: إنّ الذي شبّه بعيسى وصلب رجل اسرائيلي اسمه يوشع أيضاً.
وقيل لما أعلم الله المسيح أنه خارج من الدنيا جزع من الموت فدعا الحواريّين فصنع لم طعاماً فقال: احضروني اللّيلة فإنّ لي إليكم حاجة، فلمّا اجتمعوا عشّاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا أخذ يغسل أيديهم بيده ويمسحها بثيابه، فتعاظموا ذلك وكرهوه، فقال: من يردّ عليّ الليّلة شيئاً مما أصنع فليس مني، فأقرّوه حتى فرغ من ذلك، ثمّ قال: أمّا ما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي فليكن لكم بي أسوة فلا يتعاظم بعضكم على بعض، وأمّا حاجتي التي أستغيثكم عليها فتدعون الله لي وتجتهدون في الدعاء أن يؤخّر أجلي، فلمّا نصبوا أنفسهم للدّعاء أخذهم النومُ حتى ما يستطيعون الدعاء، فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله ما تصبرون لي ليلة قالوا: والله ما ندري ما لنا، لقد كنّا نسمر فنكثر السمر وما نقدر عليه اللّيلة، وكلّما أردنا الدعاء حيل بيننا وبينه، فقال: يذهب بالراعي ويتفرّق الغنم؛ وجعل ينعى نفسه، ثمّ قال: ليكفرنّ بي أحدكم قبل أن يصيح الديكُ ثلاث مرات، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلنّ ثمني.
فخرجوا وتفرّقوا، وكانت اليهود تطلبه، فأخذوا شمعون، أحد الحواريين، وقالوا: هذا صاحبه.
واختلف العلماء في موته قبل رفعه إلى السماء، فقيل: رُفع ولم يمت، وقيل: توفّاه الله ثلاث ساعات وقيل سبع ساعات، ثمّ أحياه ورفعه، ولما رُفع إلى السماء قال الله له: انزل: فلمّا قالوا لشمعون عن المسيح جحد وقال: ما أنا صاحبه فتركوه، فعلوا ذلك ثلاثاً، فلما سمع صياح الديك بكى وأحزنه ذلك، وأتى أحد الحواريين إلى اليهود فدّلّهم على المسيح وأعطوه ثلاثين درهماً فأتى معهم إلى البيت الذي فيه المسيح، فدخله، فرفع الله المسيح وألقى شبهه على الذي دلهم عليه، فأخذوه وأوثقوه وقادوه وهم يقولون له: أنت كنت تحيي الموتى وتفعل كذا وكذا فهلاّ تنجي نفسك؟ وهو يقول: أنا الذي دلّكم عليه، فلم يصغوا إلى قوله ووصلوا به إلى الخشبة وصلبوه عليها.
وقيل: إنّ اليهود لما دلّهم عليه الحواريّ اتّبعوه وأخذوه من البيت الذي كان فيه ليصلبوه، فأظلمت الأرض، وأرسل الله ملائكة فحالوا بينهم وبينه، وألقى شبه المسيح على الذي دلّهم عليه، فأخذوه ليصلبوه، فقال: أنا الذي دلّكم عليه، فلم يلفتوا إليه فقتلوه وصلبوه عليها، ورفع الله المسيح إليه بعد أن توفّاه ثلاث ساعات، وقيل: سبع ساعات، ثمّ أحياه ورفعه، ثمّ قال له: انزل إلى مريم، فإنّه لم يبكِ عليك أحد بكاءها ولم يحزن أحد حزنها، فنزل عليها بعد سبعة أيام، فاشتعل الجبل حين هبط نوراً، وهي عند المصلوب تبكي ومعها امرأة كان أبرأها من الجنون، فقال: ما شأنكما تبكيان؟ قالتا: عليك قال: إني رفعني الله إليه ولم يصبني إلا خير، وإنّ هذا شيء شُبّه لهم، وأمرها فجمعت له الحواريّين، فبثّهم في الأرض رسلاً عن الله وأمرهم أن يبلغوا عنه ما أمره الله به، ثمّ رفعه الله إليه وكساه الريش وألبسه النّور وقطع عنه لذّة المطعم والمشرب، وطار مع الملائكة، فهو معهم، فصار إنسيّاً ملكيّاً أرضيّاً، فتفرّق الحواريّون حيث أمرهم، فتلك الليلة التي أهبطه الله فيها هي التي تدخن فيها النصارى، وتعدّى اليهود على بقيّة الحواريّين يعذّبونهم ويشتمونهم، فسمع بذلك ملك الروم، واسمه هيرودس، وكانوا تحت يده، وكان صاحب وثن، فقيل: له: إنّ رجلاً كان في بني اسرائيل وكان يفعل الآيات من إحياء الموتى وخلق الطير من الطين والإخبار عن الغيوب فعدوا عليه فقتلوه، وكان يخبرهم أنّه رسول الله، فقال الملك: ويحكم ما منعكم أن تذكروا هذا من زمره، فوالله لو علمتُ ما خلّيتُ بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيدي اليهود وسألهم عن دين عيسى، فأخبروه، وتابعهم على دينهم واستنزل المصلوب الذي شُبّه لهم فغيّبه، وأخذ الخشبة التي صُلب عليها فأكرمها وصانها، وعدا على بني اسرائيل فقتل منهم قتلى كثيرة، فمن هناك كان أصل النصرانيّة في الروم.
وقيل: كان هذا الملك هيرودس ينوب عن ملك الروم الأعظم الملقّب قيصر، واسمه طيباريوس، وكان هذا أيضاً يسمّى ملكاً، وكان ملك طيباريوس ثلاثاً وعشرين سنة، منها إلى ارتفاع المسيح ثماني عشرة سنة وأيام.
.ذكر من ملك من الروم بعد رفع المسيح إلى عهد نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم:

زعموا أن ملك الشام جميعه صار بعد طيباريوس إلى ولده جايوس، وكان ملكه أربع سنين، ثمّ ملك بعده ابن له آخر اسمه قلوديوس أربع عشرة سنة، ثمّ ملك بعده نيرون الذي قتل بطرس وبولس فصلبهما منكّسين أربع عشرة سنة، ثمّ ملك بعده بوطلايس أربعة أشهر، ثمّ ملك اسفسيانوس، وهذا الذي وجّه ابنه طيطوس إلى البيت المقدس فهدمه وقتل من بني اسرائيل غضباً للمسيح، ثم ملك ابنه طيطوس، ثمّ ملك أخوه دومطيانوس ستّ عشرة سنة، ثم ملك بعده نارواس ستّ سنين، ثم ملك من بعده طرايانوس تسع عشرة سنة، ثم ملك بعده هدريانوس إحدى وعشرين سنة، ثمّ ملك من بعده أنطونينوس بن بطيانوس اثنتين وعشرين سنة، ثمّ ملك مرقوس وأولاده تسع عشرة سنة، ثمّ ملك بعده قومودوس ثلاث عشرة سنة، ثمّ ملك من بعده فرطيناجوس ستّة أشهر، ثمّ ملك بعده سيواروش أربع عشرة سنة، ثمّ ملك بعده انطينانوس سبع سنين، ثم ملك من بعده مرقيانوس ستّ سنين، ثمّ ملك من بعده انطينانوس أربع سنين، وفي ملكه مات جالينوس الطبيب، ثمّ ملك الخسندروس ثلاث عشرة سنة، ثم ملك مكسيمانوس ثلاث سنين، ثمّ ملك جورديانوس ستّ سنين، ثمّ فيلفوس سبع سنين، ثم ملك داقيوس ستّ سنين، ثمّ ملك قالوس ستّ سنين، ثمّ ملك والرييانوس وقالينوس خمس عشرة سنة، ثمّ ملك قلوديوس سنة، ثمّ ملك قريطاليوس شهرين، ثمّ ملك أورليانوس خمس سنين، ثمّ ملك طيقطوس ستة أشهر، ثمّ ملك فولورنوس خمسة وعشرين يوماً، ثمّ ملك فروبوس ستّ سنين ثم قوروس وابناه سنتين، ثم ملك دقلطيانوس ستّ سنين، ثم ملك مخسيميانوس عشرين سنة، ثمّ قسطنطين ثلاثين سنة، ثمّ ملك يليانوس سنتين، ثم ملك يويانوس سنة، ثم ملك والنطيانوس وغرطيانوس عشر سنين، ثمّ ملك خرطيانوس ووالنطيانوس الصغير سنة، ثمّ ملك تيداسيس الأكبر سبع عشرة سنة، ثمّ ارقاديوس وانورويوس عشرين سنة، ثمّ ملك تياداسيس الأصغر ووالنطيانوس ستّ عشرة سنة، ثم ملك مرقيانوس سبع سنين، ثم لاو ستّ عشرة سنة، ثمّ ملك زانون ثماني عشرة سنة، ثمّ ملك انسطاس سبعاً وعشرين سنة، ثمّ ملك يوسطينانوس تسع سنين، ثم ملك يوسطينانوس الشيخ عشرين سنة، ثمّ ملك يوسطينس اثنتي عشرة سنة، ثمّ ملك طيباريوس ستّ سنين، ثمّ مريقيش وتاداسيس ابنه عشرين سنة، ثمّ ملك فوقا الذي قتل سبع سنين وستّة أشهر، ثمّ هرقل الذي كتب إليه النبيّ، صلى الله عليه وسلم، ثلاث سنين.
فمن لدن عُمر البيت المقدس بعد زن أخربه بخت نصّر إلى الهجرة، علي قولهم، ألف سنة ونيف، ومن ملك الإسكندر إليها تسعمائة ونيف وعشرون سنة، فمن ذلك من وقت ظهوره إلى مولد عيسى، عليه السلام، ثلاثمائة سنة وثلاث سنين، ومن مولده إلى ارتفاعه اثنتان وثلاثون سنة، ومن وقت ارتفاعه إلى الهجرة خمسمائة وخمس وثمانون سنة وأشهر.
هذا الذي ذكره أبو جعفر من عدد ملوك الروم، وقد أخلى ذكرهم عن شيء من الحوادث التي كانت في أيّامهم، وقد سطرها غيره من العلماء بالتاريخ وخالفه في كثير منها ووافقه في الباقي مع مخالفة الاسم وضاف إلى أسمائهم ذكر شيء من الحوادث في أيّامهم، وأنا أذكره مختصراً، إن شاء الله.

منقول