ملوك الروم وهم ثلاث طبقات:

.فالطبقة الأولى الصابئون:

ذكر غير واحد من علماء التاريخ أن الروم غلبت اليونان، وهم ولد صوفير، والاسرائيليون يدعون أن صوفير، هو الأصفر بن نفر بن عيص بن اسحاق بن ابراهيم، وكانوا ينزلون رومية قبل غلبتهم على اليونان، وكانوا يدينون قبل النصرانيّة بمذهب الصابئين، ولهم أصنام يعبدونها على عادة الصابئين، فكان أول ملوكهم برومية غاليوس، وكان ملكه ثماني عشرة سنة، وقيل: كان ملك قبله روملس وارمانوس، وهما بنياها، وإليهما نُسبت، وأضيف الروم إليها، وإنما غاليوس أوّل من يعدّ في التاريخ لشهرته، ثمّ ملك بعده يوليوس أربع سنين وأربعة أشهر، ثم ملك أوغسطس، ومعناه الصباء، وهو أوّل من سمي قيصر، وتفسير ذلك أنّه شُقّ عنه بطن أمّه لأنّها ماتت وهي حامل به، فزخرج من بطنها، ثم صار ذلك لقباً لملوكهم، وكان ملكه ستّاً وخمسين سنة وخمسة أشهر، وأكثر المؤرخين يبتدئون باسمه لأنه أول من خرج من رومية وسيّر الجنود براً وبحراً، وغزا اليونانيين، واستولى على ملكهم، وقتل قلوبطرة آخر ملوكهم، واستولى على الاسكندرية ونقل ما فيها إلى رومية، وملك الشام، واضمحلّ ملك اليونانيين، ودخلوا في الروم، واستخلف على البيت المقدس هيرودس بن أنطيقوس؛ ولاثنتين وأربعين سنة من ملكه كانت والدة المسيح، وهو الذي بنى قيصارية.
ثمّ ملك بعده طيباريوس ثلاثاً وعشرين سنة، وهو الذي بنى مدينة طبرية، فأضيفت إليه، وعرّبها العرب؛ وفي ملكه رفع المسيح، عليه السلام، وملك بعد رفعه ثلاث سنين.
ثم ملك بعده ابنه غايوس أبرع سنين، وهو الذي قتل اصطفنوس رئيس الشمامسة عند النصارى ويعقوب أخا يوحنّا بن زبدي، وهما من الحواريّين، وقتل خلقاً من النصارى، وهو أوّل الملوك من عبّاد الأصنام قتل النصارى.
ثم ملك قلوديوس بن طيباريوس أربع عشرة سنة، وفي ملكه حبس شمعون الصفا، ثم خلص شمعون من الحبس وسار إلى انطاكية، فدعا إلى النصرانية، ثم سار إلى رومية فدعا أهلها أيضاً، فأجابته زوجة الملك وسارت إلى البيت المقدس وأخرجت الخشبة التي تزعم النصارى أن المسيح صلب عليها، وكانت في أيدي اليهود، فأخذتها وردتها إلى النصارى.
ثمّ ملك نيرون ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر، وفي آخر ملكه قتل بطرس وبولس بمدينة رومية وصلبهما منكّسين، وفي أيّامه ظفرت اليهود بيعقوب بن يوسف، وهو أول الاساقفة بالبيت المقدس، فقتلوه وأخذوا خشبة الصليب فدفنوها، وفي أيّامه كان مارينوس الحكيم صاحب كتاب الجغرافيا في صورة الأرض.
ثمّ ملك بعده غلباس سبعة أشهر؛ ثم ملك أوثون ثلاثة أشهر؛ ثم ملك بيطاليس أحد عشر شهراً، ثمّ ملك اسباسيانوس سبع سنين وسبعة أشهر، وفي أيامه خالف أهل البيت المقدس قيصر فحصرهم وافتتح المدينة عنوةً وقتل كثيراً من أهلها من اليهود والنصارى وعمّهم الأذى في أيّامه.
ثمّ ملك بانه طيطوس سنتين وثلاثة أشهر، وفي أيّامه أظهر مرقيون مقالته بالاثنين، وهما: الخير والشرّ، وبعد ثالث بينهما، وإليه تنسب المرقونية؛ وهو من أهل حرّان.
ثمّ ملك ذومطيانش بن اسباسيانوس خمس عشرة سنة وعشرة أشهر، ولتسع سنين من ملكه بمدينة أفسيس، ثمّ ملك إيليا اندريانوس عشرين سنة، وقتل من اليهود والنصارى خلقاً كثيراً لخلاف كان منهم عليه، وأخرب البيت المقدس، وهو آخر خرابه، فلمّا مضى من ملكه ثماني سنين عمره أيضاً وسمّاه إيليا، فبقي الاسم عليه، فكان قبل ذلك يسمّى أورشلم، وأسكن المدينة جماعةً من الروم واليونان، وبنى هيكلاً عظيماً للزّهرة، وكان علاي البنيان، فهدم من أعلاه كثير، وهو باق إلى يومنا هذا، وهو سنة ثلاث وستّمائة، وقد رأيته، وهو محكم البناء، ولا أدري كيف نُسب إلى داود وقد بني بعده بدهر طويل، على أنني سمعت بالبيت المقدّس من جماعة يذكرون أنّ داود بناه وكان يتفرّغ فيه لعبادته.
وفي أيّام هذا الملك كان ساقيدس الفيلسوف الصامت.
ثمّ ملك أنطنينس بيوس اثنتين وعشرين سنة، وفي أيّامه كان بطلميوس صاحب المجسطي والجغرافيا وغيرهما؛ وقيل: إنّه من ولد قلوديوس، ولهذا قيل له القلوديّ نسبة إليه، وهو السادس من ملوك الروم، ودليل كونه في هذا الزمان وليس من ملوك اليونان أنّه ذكر في كتاب المجسطي أنه رصد الشمس بالإسكندرية سنة ثمانمائة وثمانين لبخت نصّر، وكان من ملك بخت نصّر إلى قتل دارا أربعمائة وتسع وعشرون سنة وثلاثمائة وستّة عشر يوماً، ومن قتل دارا إلى زوال ملك قلوبطرة لملكة آخر ملوك اليونان على يد أوغسطس مائتا سنة وستّ وثمانون سنة، ومذ غلبة أوغسطس إلى انطنينوس مائة وسبع وستّون سنة، فمذ ملك بخت نصّر إلى أدريانوس ثمانمائة وثلاث وثمانون سنة تقريباً، وهذا موافق لما حكاه بطلميوس.
قال: ومن زعم أنّ ابن قلوبطرة آخر ملوك اليونانيهين فقد أبطل ذكر هذا بعض العلماء بالتاريخ وعدّ موك اليونان وذكر مدّة ملكهم على ما قال، وأمّا أبو جعفر الطبريّ فإنّه ذكر في مدّة مُلكهم ماذتي سنة وسبعاً وعشرين سنة، على ما تقدّم ذكره.
ثمّ ملك بعده مرقس، ويسمّي أورليوس، تسع عشرة سنة، وفي ملكه أظهر ابنُ ديصان مقالته، وكان أسقفاً بالرّهاء، وهو من القائلين بالاثنين، ونسب إلى نهر على باب الرّهاء يسمى ديصان وجد عليه منبوذاً، وبنى على هذا النهر كنيسة.
ثم ملك فومودوس اثنتي عشرة سنة، وفي أيّامه كان جالينوس قد أردك بطلميوس القلودي، وكان دين النصرانيّة قد ظهر في أيّامه وذكرهم في كتابه في: جوامع كتاب أفلاطون في السياسة.
ثمّ ملك برطينقش ثلاثة أشهر؛ ثمّ ملك يوليانوس شهرين، ثمّ ملك سيوارس سبع شعرة سنة، وشمل اليهود في أيّامه القتل والتشريد، وبنى بالاسكندرية هيكلاً عظيماً سمّاه هيكل الآلهة.
ثمّ ملك انطونيوس ستّ سنين، ثمّ ملك مقرونيوس سنة وشهرين، ثمّ ملك أنطونيوس الثاني أربع سنين، ثمّ ملك الاكصندروس، ويلقّب مامياس، ثلاث عشرة سنة، ثم مل مقسميانوس ثلاث سنين، ثم ملك مقسموس ثلاثة أشهر، ثم ملك غرديانوس ستّ سنين، ثم ملك فيلبوس ستّ سنين، وتنصّر وترك دين الصابئين وتبعه كثيرٌ من أهل مملكته واختلفوا لذلك، وكان فيمن خالفه بطريق يقال له داقيوس، قتل فيلبوس واستولى على الملك، ثم ملك بعد فيلبوس داقيوس ينتين وتتبّع النصارى، فهرب منه أصحاب الكهف إلى غار في جبل شرقيّ مدينة أفسيس، وقد خربت المدينة، وكان لبثهم فيه مائة وخمسين سنة.
وهذا باطل لأنّه علي هذا السياق من حين رفع المسيح إلى الآن نحو مائتي سنة وخمس عشرة سنة، وكان لبث أصحاب الكهف علي ما نطق به القرآن المجيد {ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً} الكهف: 25 فذلك خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة، فعلى هذا يكون ظهورهم قبل الإسلام بنحو ستّين سنة، وقد ذكرنا من لدن ظهورهم إلى الهجرة زيادة على مائتي سنة، فهذه الجملة أكثر من الفترة بين المسيح والنبيّ، عليهما الصلاة والسلام، إلا أنّ هذا الناقل قد ذكر أن غيبتهم كانت ماذة وخمسين سنة على ما نراه مذكوراً، وفيه مخالفة للقرآن، ولولا نصّ القرآن لكان استقام له ما يريد.
ثمّ ملك بعده غاليوس سنتين، وكان شريكه في الملك يوليانوس، ملك خمس عشرة سنة، ثم ملك قلوديوس، ثم ملك ابنه اورليانوس ستّ سنين، ثم ملك طافسطوس وأخوه فورس تسعة أشهر، ثمّ بروبس تسع سنين، ثمّ ملك قاروس سنتين وخمسة أشهر، ثمّ ملك دقلطيانوس سبع عشرة سنة، ثمّ ملك مقسيمانوس وشاركه مقسنطيوس، ثمّ اقتتلا فاقتسما الملك، فملك الأب علي الاشم وبلاد الجزيرة وبعض الروم، وملك الابن رومية وما اتصل بها من أرض الفرنج، وملكا تسع سنين، وتملك معهما قسطنس أبو قسطنطين بلاد بورنطيا وما يليها، وهي نواحي القسطنطينيّة، ولم تكن بنيت حينئذٍ، ثمّ مات قسطنس وملك بعده ابنه قسطنطين المعروف بزمّه هيلاني، وهو الذي تنصّر.
قال: ومن أول ملوك الروم إلى ها هنا كانوا شبيهاً بملوك الطوائف لا ينضبط عددهم، وقد اختلف الناس فيهم كاختلافهم في ملوك الطوائف، وإنّما الذي يعوَّل عليه من قسطنطين إلى هرقل الذي بعث محمد، صلى الله عليه وسلم، في أيامه، ولقد صدق قائل هذا فإنّ فيه من الاختلاف والتناقض ما ذكرنا بعضه عند ذكر دقيوس وأصحاب الكهف، ولهذه العلّة لم يذكر الطبريّ أصحاب الكهف في زمان أيّ الملوك كانوا، وإنّما ذكرناه نحن لما في أيّام الملوك من الحوادث

الطبقة الثانية من ملوك الروم المتنصّرة:

ثم ملك قسطنطين المعروف بزمّه هيلانى في جميع بلاد الروم، وجرى بينهوبين مقسيمانوس وابنه حروب كثيرة، فلمّا ماتا استولى على الملك وتفرّد به، وكان ملكه ثلاثاً وثلاثين سنة وثلاثة أشهر، وهو الذي تنصّر من مولك الروم وقاتل عليها حتى قبلها النّاس ودانوا بها إلى هذا الوقت.
وقد اختلفوا في سبب تنصّره، فقيل: إنّه كان به برص وأرادوا نزعه فأشار عليه بعض وزرائه ممن كان يكتم النصرانيّة بإحداث دين يقاتل عليه ثمّ حسن له النصرانيّة ليساعده من دان به، ففعل ذلك، فتبعه النصارى من الروم مع أصحابه وخاصّته، فقوي بهم وقفهر من خالفه، وقيل: إنّه سيّر عساكر على أسماء أصنامهم، فانهزمت العساكر، وكان لهم سبعة أصنام على أسماء الكواكب السبعة، على عادة الصابئين، فقال له وزير له يكتم النصرانيّة في هذا وأزرى بالأصنام وأشار عليه بالنصرانيّة، فأجابه، فظفر، ودام ملكه؛ وقيل غير ذلك.
ولعشرين سنة مضت من ملكه كان السنهودس الأول بمدينة نيقية من بلاد الروم، ومعناه الاجتماع، فيه ألفان وثمانية وأربعون أسقفاً فاختار منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً متّفقين غير مختلفين، فحرموا آريوس الإسكندراني الذي يضاف إليه الآريوسيّة من النصارى، ووضع شرائع النصرانيّة عبد أن لم تكن، وكان رئيس هذا المجمع بطرق الإسكندرية.
وفي السنة السابعة من ملكه سارت أمّه هيلانى الرُّهاوية، كان أبوه سباها من الرُّهاء، فأولدها هذا الملك، فسارت إلى البيت المقدس وأخرجت الخشبة التي تزعم النصارى أنّ المسيح صلب عليها؛ وجعلت ذلك اليوم عيداً، فهو عيد الصليب، وبنت الكنيسة المعروفة بقمامة، وتسمّى القيامة، وهي إلى وقتنا هذا يحجّها أنواع النصارى، وقيل: كان مسيرها بعد ذلك لأن ابنها دان بالنصرانية في قول بعضهم بعد عشرين سنة من ملكه، وفي النسة الحادية والعشرين من ملكه طبق جميع ممالكه بالبيع هو وأمّه، منها: كنيسة حمص، وكنيسة الرّهاء، وهي من العجائب.
ثم ملك بعده قسطنطين أنطاكية أربعاً وعشرين سنة بعهد من أبيه إليه وسلّم إليه القسطنطينيّة، والى أخيه قسطنس أنطاكية والشام ومصر والجزيرة، والى أخيه قسطوس رومية وما يليها من بلاد الفرنج والصقالبة، وأخذ عليهما المواثيق بالانقياد لأخيهما قسطنطين.
ثمّ ملك بعده يوليانوس ابن أخيه سنتين، وكان يدين بمذهب الصابئين ويخفي ذلك، فلمّا ملك أظهرها وخرهب البيع وقتل النصارى، وهو الذي سار إلى العراق أيّام سابور بن أردشير فقتل بسهم غرب؛ وقد ذكر أبو جعفر خبر هذا الملك مع سابور ذي الأكتاف وهو بعد سابور بن أردشير.
ثمّ ملك بعده يونيانوس سنة فأظهر دين النصرانيّة ودان بها وعاد عن العراق.
ثمّ ملك بعده ولنطيوش اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر، ثم ملك والنس ثلاث سنين وثلاثة أشهر، ثمّ ملك والنطيانوس ثلاث سنين، ثمّ ملك تدوس الكبير، ومعناه عطيّة الله، تسع عشرة سنة، وفي ملكه كان السنهودس الثاني بمدينة القسطنطينيّة، اجتمع فيه مائة وخمسون أسقفاً لعنوا مقدونس وأشياعه، وكان فيه بطرق الإسكندرية وبطرق انطاكية وبطرق البيت المقدس، والمدن التي يكون فيها كراسي البطرق أربع: إحداها رومية، وهي لبطرس الحواريّ، والثانية الإسكندريّة، وهي لمرقس أحد أصحاب الأناجيل الأربعة، والثالثة القسطنطينية، والرابعة انطاكية، وهي لبطرس أيضاً، ولثماني سنين من ملكه ظهر أصحاب الكهف.
ثمّ ملك بعده أرقاديوس بن تدوس ثلاث عشرة سنة، ثمّ ملك تدوس الصغير بن تدوس الكبير اثنتين وأربعين سنة، ولإحدي وعشرين سنة من ملكه كان السنهودس الثالث بمدينة أفسس، وحضر هذا المجمع مائتا أسقف، وكان سببه ما ظهر من نسطورس بطرق القسطنطينيّة، وهو رأس النسطورية من النصارى، من مخالفة مذهبهم، فلعنوه ونفوه، فسار إلى صعيد مصر فأقام ببلاد إخميم ومات بقرية يقال لها سيصلح، وكثر أتباعه، وصار بسبب ذلك بينهم وبين مخالفيهم حرب وقتال، ثمّ دثرت مقالته إلى أن أحياها برصوما مطران نصيبين قديماً.
ومن العجائب أن الشهرستاني مصنّف كتاب: نهاية الاقدام في الأصول، ومصنّف كتاب: الملل والنحل، في ذكر المذاهب والآراء القديمة والجديدة، ذكر فيه أنّ نسطور كان أيّام المأمون، وهذا تفرّد به، ولا أعلم له في ذلك موافقاً.
ثمّ ملك بعده مرقيان ستّ سنين، وفي أوّل سنة من ملكه كان السنهودس الرابع على قسقرس برطق القسطنطينية، اجتمع فيه ثلاثمائة وثلاثون أسقفاً، وفي هذا المجمع خالفت اليعقوبية سائر النصارى.
ثمّ ملك ليون الكبير ستّ عشرة سنة، ثمّ ملك ليون الصغير سنة، وكان يعقوبيّ المذهب، ثمّ ملك زينون سبع سنين، وكان يعقوبياً، فزهد في الملك فاستخلف ابناً له، فهلك، فعاد إلى الملك، ثمّ ملك نسطاس سبعاً وعشرين سنة، وكان يعقوبيّ المذهب، وهو الذي بنى عمّورية، فلمّا حفر أساسها أصاب فيه مالاً وفي بالنفقة على بنائها وفضل منه شيء بنى به بيعاً وأديرة.
ثم ملك يوسطين سبع سنين، واكثر القتل في اليعقوبية.
ثمّ ملك يوسطانوس تسعاً وعشرين سنة، وبنى بالرّهاء كنيسة عجيبة، وفي أيّامه كان السنهودس الخامس بالقسطنطينية، فحرموا أدريحا أسقف منبج لقوله بتناسخ الأرواح في أجساد الحيوان، وإنّ الله يفعل ذلك جزاء لما ارتكبوه، وفي أيّامه كان بين اليعاقبة والملكيّة ببلاد مصر فتن؛ وفي أيّامه ثار اليهود بالبيت المقدس وجبل الخليل على النصارى فقتلوا منهم خلقاً كثيراً؛ وبنى الملك من البيع والأديرة شيئاً كثيراً؛ ثم ملك يوسطينوس ثلاث عشرة سنة وفي أيامه كان كسرى أنوشروان؛ ثمّ ملك طباريوس ثلاث سنين وثمانية أشهر، وكان بينه وبين أنوشروان مراسلات ومهاداة، وكان مغرىً بالبناء وتحسينه وتزويقه.
ثمّ ملك موريق عشرين سنة وأربعة أشهر، وفي أيّامه ظهر رجل من أهل مدينة حماه يُعرف بمارون إليه تنسب المارونيّة من النصارى، وأحدث رأياً يخالف من تقدّمه، وتبعه خلقٌ كثير بالشام، ثمّ إنهم انقرضوا ولم يعرف الآن منهم أحد.
وهذا موريق هو الذي قصده كسرى أبرويز حين انهزم من بهرام جوبين فزوّجه ابنته وأمدّه بعساكره وأعاده إلى ملكه، على ما نذكره إن شاء الله.
ثمّ ملك بعده فوقاس، وكان من بطارقة موريق، فوثب به فاغتاله فقتله وملك الروم بعده، وكان ملكه ثماني سنين وأربعة أشهر، ولما ملك تتبّع ولد موريق وحاشيته بالقتل، فلمّا بلغ ذلك أبرويز غضب وسيّر الجنود إلى الشام ومصر فاحتوى عليهما وقتلوا من النصارى خلقاً كثيراً، وسيرد ذلك عند ذكر أبرويز.
ثمّ ملك هرقل، وكان سبب ملكه أن عساكر الفرس لما فتكت في الروم ساروا حتى نزلوا على خليج القسطنطينية وحصروها، وكان هرقل يحمل الميرة في البحر إلى أهلها، فحسن موقع ذكل من الروم وبانت شهامته وشجاعته وأحبّ الروم فحملهم على الفتك بفوقاس وذكرهم سوء آثاره، ففعلوا ذلك وقتلوه وملّكوا عليهم هرقل.
ذكر الطبقة الثالثة من ملوك الروم بعد الهجرة:

فأولهم هرقل، قد ذكر سبب ملكه، وكان مدّة ملكه خمساً وعشرين سنة، وقيل: إحدي وثلاثين سنة؛ وفي أيّامه كان النبيّ، صلى الله عليه وسلم، ومنه ملك المسلمون الشام.
ثمّ ملك بعده ابنه قسطنطين، وقيل: هو ابن أخيه قسطنطين، وكان ملكه تسع سنين وستّة أشهر، وسيرد خبره عند ذكر غزاة الصواري، إن شاء الله.
وفي أيّامه كان السنهودس السادس على لعن رجل يقال له قورس الإسكندري خالف الملكية ووافق المارونية.
ثمّ ملك بعده ابنه قسطا خمس عشرة سنة في خلافة عليّ، عليه السلام، ومعاوية، ثمّ ملك هرقل الأصغر بن قسطنطين أربع سنين وثلاثة أشهر، ثمّ ملك قسطنطين بن قسطا ثلاث عشرة سنة بعض أيّام معاوية وأيّام يزيد وبانه معاوية ومروان بن الحكم وصدراً من أيّام عبد الملك، ثمّ ملك أسطنان، المعروف بالأخرم، تسع سنين أيّام عبد الملك، ثمّ خلعه الروم وخرموا أنفه وحمل إلى بعض الجزائر، فهرب ولحق بملك الخزر واستنجده فلم ينجده، فانتقل إلى ملك برجان؛ ثم ملك بعده لونطش ثلاث سنين أيّام عبد الملك، ثمّ ترك الملك وترّهب؛ ثم ملك ابسمير، المعروف بالطرسوسي، سبع سنين، فقصده أسطينان ومعه برجان وجرى بينهما حروب كثيرة وظفر به أسطنان وخلعه وعاد إلى ملكه، فكان ذلك أيّام الوليد بن عبد الملك، واستقرّ أسطينان، وكان قد شرط لملك برجان أن يحمل إليه خراجاً كل سنة، فعسف الروم وقتل بها خلقاً كثيراً، فاجتمعوا عليه وقتلوه، فكان ملكه الثاني سنتين ونصفاً، وكان قتله أول دولة سليمان بن عبد الملك؛ ثم ملك نسطاس بن فيلفوس، وكان في أيّامه اختلاف بين الروم فخلعوه ونفوه.
ثمّ ملك تيدوس المعروف بالأرمنيّ في أيّام سليمان بن عبد الملك أيضاً، وهو الذي حصره مسلمة بن عبد الملك؛ ثمّ ملك بعده اليون بن قسطنطين لضعفه عن الملك، وضمن أليون للروم ردّ المسلمين عن القسطنطينية، فملّكوه، فكان ملكه ستاً وعشرين سنة، ومات في السنة التي بويع فيها الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
ثمّ ملك بعده ابنه قسطنطين إحدى وعشرين سنة، وفي أيّامه انقرضت الدولة الزموية، وتوفي لعشر سنين مضت من أيام المنصور، ثم ملك بعده ابنه اليون تسع عشرة سنة وأربعة أشهر بقيّة أيّام المنصور، وتوفي في خلافة المهدي، ثمّ ملك بعده ريني امرأة اليون بن قسطنطين، ومعها ابنها قسطنطين بن اليون، وهي تدبّر الزمر بقية أيام المهديّ والهادي وصدراً من خلافة الرشيد، فلما كبر ابنها أفسد ما بينه وبين الرشيد، وكانت أمّه مهادنة له، فقصده الرشيد وجرى له معه وقعة، فانهزم وكاد يؤخذ، فكحلته أمّه وانفردت بالملك بعده خمس سنين وهادنت الرشيد.
ثمّ ملك بعدها نقفور، أخذ الملك منها، وكان ملكه سبع سنين وثلاثة أشهر، وهو نقفور أبو استبراق، وكنت قد رأيته مضبوطاً بكثير من الكتب بسكون القاف، حتى رأيت رجلاً زعم أن اسمه نقفور، بفتح القاف.
وعهد نقفور إلى ابنه استبراق بالملك بعده، وهو أول من فعل ذلك في الروم، ولم يكن يعرف قبله، وكانت ملوك الروم قبل نقفور تحلق لحاها، وكذلك ملوك الفرس، فلم يفعله نقفور، وكانت ملوك الروم قبله تكتب: من فلان ملك النصرانيّة، فكتب نقفور: من فلان ملك الروم، وقال: لست ملك النصرانيّة كلها، وكانت الروم تسمّي العرب سارقيوس، يعني: عبيد سارة، بسبب هاجر أم إسماعيل، فنهاهم عن ذلك وجرى بين نقفور وبين برجان حرب سنة ثالث وتسعين ومائة فقتل فيها.
ثمّ ملك بعده ابنه استبراق بعهد من أبيه إليه، وكان ملكه شهرين، ثمّ ملك بعده ميخائيل بن جرجس، وهو ابن عمّ نقفور، وقيل: ابن استبراق، وكان ملكه سنتين في أيّام الأمين، وقيل أكثر من ذلك، فوثب به اليون المعروف بالبطريق وغلب على الأمر وحبسه، ثم ملك بعده اليون البطريق سبع سنين وثلاثة أشهر، فوثب به أصحابُ ميخائيل في خلاص صاحبهم وقتل اليون ثم فتح لم ذلك وعاد ميخائيل إلى الملك، وقيل: إنه كان قد ترهب أيام اليون، وكان لمكه هذه الدفعة الثانية تسع سنين، وقيل أكثر من ذلك.
ثمّ ملك بعده ابنه توفيل بن ميخائيل أربع عشرة سنة، وهو الذي فتح زبطرة، وسار المعتصم بسبب ذلك وفتح عمّورية، وكان موته أيّام الواثق.
ثمّ ملك بعده ابنه ميخائيل ثمانياً وعشرين سنة، وكانت أمّه تدبر الملك معه، وزراد قتلها فترهبت، وخرج عليه رجل من أهل عمّورية من أبناء الملوك السالفة يعرف بابن بقراط، فلقيه ميخائيل فيمن عنده من أسارى المسلمين، فظفر به ميخائيل فمثل به، ثمّ خرج عليه بسيل الصقلبي فاستولى على الملك وقتل ميخائيل سنة ثلاث وخمسين ومائتين.
ثمّ ملك بعده بسيل الصقلبيّ عشرين سنة أيّام المعتزّ والمهتدي وصدراً من أيام المعتمد، وكانت أمّه صقلبية فنسب إليها.
وقد غلط حمزة الأصفهاني فيه فقال عند ذكر ميخائيل: ثم انتقل الملك عن الروم وصار في الصقلب فقتله بسيل الصقلبيّ ظناً منه أنّ أباه كان صقلبياً.
ثمّ ملك بعده ابنه اليون بن بسيل ستاً وعشرين سنة أيّام المعتمد والمعتضد والمكتفي وصدراً من أيّام المقتدر، وقيل: إنّ وفاته كانت سنة سبع وتسعين ومائتين.
ثمّ ملك أخوه الأسكندروس سنة وشهرين ومات بالدبيلة، وقيل: إنه اغتيل لسوء سيرته، ثم ملك بعده قسطنطين بن اليون، وهو صبيّ، وتولى الأمر له بطريق البحر، واسمه ارمانوس، وشرط على نفسه شروطاً، منها أنه لا يطلب الملك ولا يلبس التاج لا هو ولا أحد من أولاده، فلم يمض غير سنتين حتى خوطب هو وأولاده بالملوك وجلس مع قسطنطين على السرير، وكان له ثلاثة من الولد، فخصى أحدهم وجعله بطرقاً ليأمن من المنازعة، فإنّ البطرق يحكم على الملك، فبقي على حاله إلى سنة ثلاثين وثلاثمائة من الهجرة، فاتفق ابناه مع قسطنطين الملك على إزالة أبيهما، فدخلا عليه وقبضاه وسيّراه إلى دير له في جزيرة بالقرب من القسطنطينية، وأقام ولداه مع قسطنطين نحو أربعين يوماً وأرادا الفتك به، فسبقهما إلى ذلك وقبض عليهما وسيرهما إلى جزيرتين في البحر، فوثب أحدهما بالموكّل به فقتله، وأخذه أهل تلك الجزيرة فقتلوه وأرسلوا رأسه إلى قسطنطين الملك، فجزع لقتله.
وأمّا ارمانوس فإنه مات بعد أربع سنين من ترهبّه، ودام ملك قسطنطين بقيّة أيّام المقتدر والقاهر والراضي والمستكفي وبعض أيّام المطيع، ثمّ خرج على قسطنطين هذا قسطنطين بن أندرونقس، وكان أبوه قد توجّه إلى المكتفي سنة أربع وتسعين ومائتين وأسلم على يده وتوفّي، فهرب ابنه هذا علي طريق أرمينية وأذربيجان إلى بلاد الروم، فاجمع عليه خلق كثير وكثر أبتاعه، فسار إلى القسطنطينية ونازع الملك قسطنطين في ملكه، وذلك سنة إحدى وثلاثمائة، فظفر به الملك فقتله.
وخرج عن طاعته أيضاً صاحب رومية، وهي كرسيّ ملك الإفرنج، وتسمى بالملك، ولبس ثياب الملوك، وكانوا قبل ذلك يطيعون ملوك الروم أصحاب القسطنطينية ويصدرون عن أمرهم، فلمّا كان سنة أربعين وثلاثمائة قوي ملك رومية، فخرج عن طاعته، فأرسل إليه قسنطين العساكر يقاتلونه ومن معه من الفرنج، فالتقوا واقتتلوا، فانهزمت الروم وعادت إلى القسطنطينية منكوبة، فكفّ حينئذٍ قسطنطين عن معارضته ورضي بالمسالمة وجرى بينهما مصاهرة، فزوّج قسنطين ابنه أرمانوس بابنة ملك رومية، ولم يزل أمر الإفرنج بعد هذا يقوى ويزداد ويتسع ملكهم كالاستيلاء على بعض بلاد الأندلس، على ما نذكره، وكأخذهم جزيرة صقلية وبلاد ساحل الشام والبيت المقدس، وعلى ما نذكره، وفي آخر الأمر ملكوا القسطنطينيّة سنة إحدي وستمائة، على ما نذكره إن شاء الله.
ومما ينبغي أن يلحق بهاذ أنّ الطوائف من الترك اجتمعت، منهم: البجناك والبختي وغيرهما، وقصدوا مدينة للروم قديمة تسمى وليدر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وحصروها، فبلغ خبرهم إلى أرمانوس، فسيّر إليهم عسكراً كثيفاً فيهم من المتنصّرة اثنا عشر ألفاً، فاتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الروم، واستولى الترك على المدينة وخرّبوها بعد أن أكثروا القتل فيها والسبي والنهب، ثمّ ساروا إلى القسطنطينية وحصروها أربعين يوماً وأغاروا على بلاد الروم واتّصلت غاراتهم إلى بلاد الإفرنج، ثمّ عادوا راجعين.
منقول