الزَّلاَّقَة مَعركَةٌ مِنْ مَعَارِكِ الإِسْلاَمِ الحَاسِمَةِ فِي الأندَلُس
للدكتور جميل عبد الله محمد المصري أستاذ مشارك بالجامعة الإسلامية
الحمد لله الذي جعل أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس، أمة جهاد في سبيله، وأمة رحمة وهداية للعالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، النموذج العملي لرسالة الإسلام وعقيدته، جعله الله سبحانه وتعالى شهيدًا على أمته، وجعل أمته شهداء على النَّاس، ورضي الله عن صحابته الطاهرين، ومن قام بهديه إلى يوم الدين وبعد:
فإن المعارك العالمية التي سجلها التاريخ كثيرة، تلك التي تمخضت عنها تغييرات شاملة، ذات نتائج خطيرة، وتبقى معارك الإسلام من أشهرها وأهمها، ذلك لأن المعركة في الإسلام ليست غاية في ذاتها، فهي محصلة لأمور كثيرة، إذا وصلت إلى حدّ معينّ لابد من معركة حربية، ومفهوم الجهاد واضح المعنى وواضح الهدف، هو قتال في سبيل الله، يهدف إلى تبليغ الدعوة، ومدّها، أو تثبيتها والدفاع عنها، فإذا وصلت الأمور حاجزاً لا مجال لاختراقه بوسيلة أخرى كانت المعركة، ولابد مِن الصبرِ عليها، ومن هنا فإن معارك الإسلام تخدم الدعوة في الدرجة الأولى امتدادا أو دفاعًا أو تثبيتًا.
ومنذ معركة بدر الفاصلة –الفرقان- التي قادها سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، والمسلمون يحاولون الوصول في معاركهم إلى مستواها في أهدافهِا ومعانيها، وتنظيمها، ونتائجها. فكانت معركة خيبر في عهده صلى الله عليه وسلم، التي وضعت حداً نهائياَ لتسلط اليهود في بلاد العرب، ثم كانت اليرموك التي قررت مصير بلاد الشام ومصير الإمبراطورية الرومانية كله، والقادسية التي قررت مصير العراق وبلاد فارس وإمبراطورية الفرس.
وهكذا تتابعت معارك الإسلام وتتالت، إلى أن كانت في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري معركتان: ملاذكرد (منزكرت) في آسيا الصغرى التي قررت مصير آسيا
الصغرى عام 463 هـ، والزلاقة على أرض الأندلس الشهيدة التي أوقفت الزحف الصليبي النامي إلى حين، عام 479 هـ.
فقد ساءت حالة العالم الإسلامي في بداية القرن الخامس الهجري شرقاً وغرْباً، فعم الرفض، وفشا التفرق في المغرَب بسقوط الخلافة الأموية وتمزق الدولة العامرية، ولكن الله سبحانه وتعالى هيأ للمسلمين: السلاجقة في المشرق، حيث بلغت دولتهم ذروة القوة في منتصف القرن الخامس الهجري. والمرابطين في المغرب، وبلغت ذروتها في الوقت ذاته. وكلتا القوتين اتخذ الجهاد سبيلاً لإعزاز الإسلام والمسلمين ونصرة الدين. وكلتاهما مدّ الإسلام إلى آفاق واسعة. فقد مدّ السلاجقة الإسلام في آسيا الصغرى وأصبحت من ديار الإسلام، ومدّ المرابطون الإسلام إلى أفريقية الغربية وعبر الصحراء إلى السودان، وقاموا بواجبهم في نصرة إخوانهم في الأندلس، وحماية الإسلام.
حالة المغرب والأندلس في النصف الأول من القرن الخامس الهجري التي هيأت لمعركة الزلاقة:
شمال أفريقيا ودولة المرابطين في المغرب:
انتثر ملك الخلافة بالمغرب 1، وانقسم إلى إمارات صغيرة متفرقة، فقد أقام المعزّ بن باديس سنة 440 هـ الدعوة للقائم بالله الخليفة العباسي وخلع طاعة المستنصر العبيدي، (وكان قبل ذلك يسب بني عبيد سرّاً) ، فبعث المستنصر القبائل العربية من بني هلال ورياح وزغبة لمحاربته، فكانت الحروب الهائلة بين ابن باديس والعرب الذين دخلوا القيروان 2. وكثر المتغلّبون على الشمال الأفريقي بأجمعه، فاستولى بنو هلال على المناطق الممتدة في الداخل من قابس إلى المغرب، وظل بنو زيري يحتفظون بالمهدية وما يليها، واستقر أمر بني حماد في بجاية، واستقل حمو بن ومليل البرغواطي في صفاقس بعد أن حالف العرب، واستقل ابن خراسان بتونس سنة 458 هـ، واستقل موسى بن يحيى بفاس، وحاكم قفصة الزيري بعد أن استعان بالعرب مقابل جزية سنوية 3.
كما تعرض الشمال الأفريقي لغارات النورمان يدفعهم الحقد الصليبي، فقد تملكوا
صقلية من المسلمين بقيادة رجار سنة 464 هـ 1، ماعدا مدينتي قصريانه وجرجنت، اللتين حاصروها حصاراً شديداً، واستسلمت جرجنت سنة 481 هـ، وتبعتها قصريانه سنة 484 هـ 2. وشجع البابا فكتور الثالث على تكوين طائفة من رجال البحر من بيزه وجنوة للإغارة على السواحل الإسلامية الأفريقية، فهاجموا مدينة المهدية وزويلة، وعادوا بعدد عظَيم من أسارى المسلمين رَجالاً ونساء 3 وبمبلغ عظيم من الذهب والفضة مقابل رحيلهم وذلك سنة 480 هـ
وفي هذه الظروف الحالكة انبعثت من قلب الصحراء الكبرى الأفريقية، قوة إسلامية، تدعو إلى التمسك بالِإسلام، مصدر قوة المسلمين، وتجدد جريان الحياة في تياره، باتخاذه دستوراَ يحكم حياة الإنسان في جميع نواحي الحياة.
فقد توجه يحي بن إبراهيم الجدالي- أمير جدالة- في جماعة إلى الحج 4 عام 440 هـ، وعرجوا في عودتهم على القيروان، واستمعوا إلى علمائها، وكانت في هذه الفترة قد نبذت المذهب الشيعي، وعادت إلى أهل السنة والجماعة، فاسترجعت مكانتها كقاعدة للمذهب المالكي في المغرب، فاتصلوا بأبي عمران موسى الفاسي شيخ المذهب المالكي 5، وطلبوا منه أن يرسل معهم عالماً يعلمهم الدين، فأرسل معهم الشيخ عبد الله بن يِاسين الجزولي 6 وكان من حذاق الطلبة ومن أهل العلم والصلاح، واعتبر عمل هذا جهاداً لنشر تعاليم الإسلام الصحيحة بين الذين حرموا من نعمة المعرفة والعلم. فقام بدوره، فأخذ يفقه الناس ويعلمهم الشريعة، وأقام رباطاًَ يرجح إن مكانه في السنغال7 أو النيجر، والتف حوله جماعة من لمتونة إحدى بطون صنهاجه كجدالة من البرانس البربر؛ بلغ عددهم حوالي الألف رجل، أطلق عليهم اسم (المرابطون) نسبة إلى رباط عبد الله بن ياسين، حيث تلقوا فيه تكوينهم الديني والجهادي، وحوّلهم من رعاة إبل إلى جماعة من المجاهدين، يحملون
__________
1 ابن خلدون جـ4 ص450/ المؤنس ص 89.
2 الكامل في التاريخ جـ 8 ص 157.
3 ابن خلدون جـ 6 ص 328.
4 المؤنس جـ104، الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى جـ 2 ص 6.
5 ابن خلدون جـ6 ص373/ البيان المغرب جـ3 ص242 وأبو عمران أصله فاسي استوطن القيروان وحصلت له بها رئاسة العلم، أخذ عن كثير من علماء المشرق والمغرب، رحل إلى قرطبة والمشرق وحج ودخل العراق، أخذ عنه الكثير من أهل العلم. وتوفي عام 430 هـ (المؤنس- حاشية ص104) .
6 المؤنس ص 104- 105.
7 د. عبد العزيز سالم- المغرب الكبير ص 693.
عبء تبليغ الدعوة الإسلامية، وتصحيح مفاهيم العقيدة. وسمّوا بالملثمين أو الملثمة لاتخاذهم لثاماً داكن اللون يغطي الجزء الأدنى من وجّهوهم 1 وكان على رأسهم المجاهد يحي بن عمر بن إبراهيم اللمتوني الذي توفي سنة 446 هـ أو447 هـ 2، فخلفه أخوه: أبو بكر بن عمر اللمتوني، وكان كأخيه مثال الإخلاص والتضحية والقيادة الناجحة، فمدّ الإسلام في إفريقية وبلاد السودان، وأمضى حَياته في الجهاد، وتنازل لابن عمه يوسف بن تاشفين الذي أثبت مقدرة ومهارة أكسبته مكانة عالية بجانب شهرته العسكرية 3، واستمر أبو بكر في جهاده إلى أن استشهد في الصحراء عام 480 هـ 4.
اتخذت الدولة المرابطية أغمات عاصمة وهي على بعد 35 كم جنوب شرقي مدينة مراكش، ثم اختط يوسف مدينة مراكش عام 454 هـ/1062 م أو بعدها بقليل، وأسس قصبة ومسجداً، وكان يشارك العمال بنفسه في بناء المسجد تواضعاً لله وتورعاً 5.
تمكن المرابطون بقيادة يوسف من توحيد المغرب وإنقاذه من الفرقة وأزالوا المنكرات، ورفعوا المكوس الجائرة، وفرقوا الأخماس على المرابطين والفقهاء، وطبقوا أحكام الدين، وقضوا على الروافض، ورجع من بقي منهم إلى أهل السنة والجماعة، كما قضوا على مذهب صالح ابن طريف الإباحي، وكان يهودي الأصل نشر مذهبه بين قبيلة برغواطه 6 وأصبحت دولتهم تستعد للامتداد إلى الأندلس، وهمّ يوسف بذلك وأخذ في إنشاء المراكب والسفن ليعبر فيها 7

__________
وقيل إن سبب اتخاذ لمتونة للثام: اتخاذهم في أعراسهم نوعاً خاصاً من الحجاب، أو لأنه حدث ذات مرة في بعض حروبهم إن نساءهم كن يقاتلن معهم محجبات حتى يحسبن بذلك في عداد الرجال (انظر السلاوي-الاستقصا جـ 1ص 98-99، عنان-دول الطوائف ص299) .
2 الاستقصا جـ2 ص13.
3 انظر البيان المغرب جـ4 ص24.
4 المؤنس ص107.
5 البيان المغرب جـ4 ص123/ الاستقصا جـ2 ص24.
6 ابن خلدون جـ6 ص183-209/ انظر: عنان- دول الطوائف ص305-306.
7 نفح الطيب جـ4 ص354.

منقوول