قال الشيخ الإمام محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى :


1 ـ أول ما يلاحظه الدارس لديانات العالم القديم أن أشد الأمم تديناً هم المصريون القدماء حتى لقد قال شيخ المؤرخين هيرودوت : " إن المصريين أشد البشر تديناً و لا يعرف شعب بلغ في التدين درجتهم فيه فإن صورهم بجملتها تمثل أناساً يصلون أمام إله و كتبهم في الجملة أسفار عبادة و نسك ."

و ذلك الكلام حق ـ فتلك الآثار الباقية التي تحكي لنا حياة المصريين جلها ـ قام على أساس من التدين و الاعتقاد و لولا انبعاث هذا الاعتقاد في النفس ما قامت تلك الأهرام و لا نصبت تلك الأحجار و لا شيدت هاتيك التماثيل التي لا تزال تسترعي الأنظار بجمالها و زخرفها و روعتها و قوة بنيانها و مغالبتها الزمان و هي قائمة الأركان ثابتة العمد ينحدر عنها الزمان و لا يزيدها القدم إلا روعة و بهاء ، لولا الاعتقاد المستكن في النفس بحياة الأرواح و وجودها في غلاف من الجسم لا يبلى ما اخترعوا تحنيط الأجسام الذي أبقى طائفة من الأجسام البشرية غبرت عليها السنون و هي لا تزال متماسكة لم تتحلل و لم تتأثر أشلاؤها .

2 ـ و لقد كانت شدة تدينهم سبباً في أن دخل الدين عنصراً عاملاً قوياً في كل أعمالهم الخاصة و العامة فالدين مسيطر حتى في الكتابة في الحاجات الخاصة و في الإرشادات الصحية و في أوامر الشرطة و سلطان الحكم و لقد تعددت بسبب ذلك الكائنات المقدسة و الأشياء التي يعتبر احترامها من احترام آلهتهم أو هي بذاتها تبلغ رتبة الآلهة و تصل إلى مكانتها في التقديس و العبادة و أن فلسفة المصريين نفسها ليست إلا صوراً للعقيدة و إعمالاً للفكر لكي يصل إلى ما يؤيدها و يجعلها منسجمة مع قضايا العقل أو على الأقل لكي يجعل القضايا الدينية متناسبة يتماسك بعضها مع بعض و لا تنافر بين أجزائها و يضعها في وحدة منطقية تجمعها و تضم متفرقها في إطار فكري واحد .

3 ـ و لقد شده بعض العلماء بحال التدين هذه التي شملت المصريين و تغلغلت في كل شيء عندهم إلى درجة تعاظم لديه أن يكونوا غير موحدين مع تلك القوة في التدين و التشدد فيه فزعم لهذا أنهم كانوا في الجملة موحدين و ممن وقع في هذا العلامة ماسبيرو فقد قال : " و كان إله المصريين واحداً فرداً كاملاً عالماً بصيراً لا يدرك بحس قائماً بنفسه حياً له الملك في السماوات و الأرض ، لا يحتويه شيء فهو أبو الآباء و أم الأمهات ، لا يفنى و لا يغيب ، يملأ الدنيا ليس كمثله شيء و يوجد في كل مكان "

و هذا كلام ليس من الحق في شيء لأن المصريين لم يكونوا موحدين و لذا أدرك هذا المؤلف خطأه فكتب في طبعة ثانية ما نصه : " تدلنا الآثار على أنه كان لكل من الرهبان منذ أزمان الأسرة الأولى آلهته الخاصة و هذه الآلهة مقسمة إلى ثلاثة فرق متباينة الأصول : آلهة الموتى ، و آلهة العناصر ، و الآلهة الشمسية "

فهذا الكلام يدل على أنه رجع عن رأيه القديم أو على الأقل هو تقييد لرأيه القديم و منع له من الإطلاق .

4 ـ و في الحق أن الدارس الذي يريد أن يجافى الشطط يجب عليه ألا يحكم بأن مدنية مكثت خمسة آلاف سنة و كان أهلها على ديانة واحدة غير سماوية لم تسر عليها قوانين التحول و التدرج و الانتقال من حال إلى حال و من صورة إلى صورة و من غاية إلى غاية لذلك لا نستطيع أن نقول أن ديانة المصريين مكثت أكثر من أربعين قرناً لم يعرها التغيير و التبديل و أنهم كانوا على عقيدة واحدة طوال تلك السنين إن ذلك ضد طبائع الأمم و ضد قانون التحول و الانتقال .

فلا بد إذن من أن نقول أن المصريين كانت ديانتهم تتغيير و عقائدهم تتبدل تبعاً لسنة الله في الأمم و الكون ما دامت لم تعتمد على أصل سماوي بل إن الديانات السماوية نفسها قبل الإسلام كان يعروها التحريف و التغيير و التبديل و تفهم على غير وجهها عندما يكون الناس على فترة من الرسل .

5 ـ و الواقع أن عقائد المصريين كانت تتخالف بتخالف الأقاليم نفسها و كانت آلهتهم محلية فكل مدينة كانت لها آلهتها فكان موطن أوزيريس في أبيدوس و فتاح في ممفيس و آمون في طيبة و هوروس في إدفو و هاتور في دندرة ... إلخ . و مكانة الإله تتبع مكانة المدينة التي يعبد فيها و للآلهة مراتب بعضها فوق بعض فكانت بمثابة سلسلة مراتب إلهية تتبع مراتب المقاطعات السياسية .

و من هذا يفهم أنه لم يعرف المصريون حتى التوحيد الإقليمي بأن يجتمعوا على آلهة واحدة في كل إقليم و يتفقوا عليهم مهما تتباين جهات إقامتهم بل كانت آلهتهم محلية كل إقليم له آلهة خاصة به .

بيد أنه يجب علينا أن نعتقد أن دعوات إلى التوحيد الخالص بعبادة إله واحد فرد صمد لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفواً أحد ـ قد تواردت على العقل المصري و بعيد أن ننفي تماماً عن المصريين في مدى خمسة آلاف سنة ازدهرت فيها حضارتهم و نمت أن تكون قد وردت عليهم عقيدة التوحيد بدعوة من رسول مبين .

و لقد ورد في القرآن الكريم ما يفيد أن يوسف عليه السلام و هو نبي كريم من أنبياء الله دعاهم إلى عبادة الواحد القهار فلقد ورد في سورة يوسف ما حكاه الله عنه من كلام لصاحبي السجن فقد قال حاكيا عنه : ( إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله و هم بالآخرة هم كافرون * و اتبعت ملة آبائي إبراهيم و إسحاق و يعقوب ، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا و على الناس و لكن أكثر الناس لا يشكرون * يا صاحبى السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار * ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن الحكم إلا لله أمرا ألا تعبدوا إلا إياه ، ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون ) يوسف 37 ـ 40 .

من هذا الخبر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه نحكم مستيقنين أن دعوة إلى التوحيد قد وردت للمصريين فهذا يوسف و هو في السجن يدعو صاحبيه إلى الدين القيم و هجر عبادة ما سموه من آلهة و إن هي إلا أسماء سموها و أن ما يزعم لها من ألوهية ما هو إلا نحلة ينحلونها إياها و أوصاف يصفونها من غير أن تنطبق على الموصوف في شيء فألوهيتها وصف يذكر و ليست حقيقة تعرف .

و لقد مكن الله ليوسف في أرض مصر و استولى على خزائن الدولة و صار ذا سلطان مبين فيها و هو رسول من رب العالمين فلا بد أن يكون قد دعاهم جهرة إلى الدين القيم و لا بد أن يكون قد أجابه منهم أناس و نكص عن الإجابة غيرهم .

و مهما يكن من شيء فقد كانت دعوة يوسف إلى التوحيد لها أثرها و لكن المصريين ألفوا عبادة ما أنتجه خيالهم من ألوهية زعموها لبعض الأشياء و الحيوان فلما جاءتهم دعوة إلى التوحيد صريحة قوية بما تستمده من بينات فعلية و أدلة منطقية تستقيم مع قضايا الفكر ، آمن من آمن و من لم يكن نافذ البصيرة قوي المدارك وقع في حيرة بين قديم قد ألفه و تغلغل في مكنون قلبه و استولى على أهوائه و مشاعره و جديد قد عرفه و رأى فيه استقامة في الفكرة و قوة في الاستدلال فكان في شك و مرية .

و يظهر أن صدى دعوة يوسف استمر أجيالاً يعمل في النفس المصرية ترى نور الحق منبعثاً فيما أثر عن يوسف و النفس قد استهواها ما أثر عن الآباء و الأجداد و لذا قال تعالى حاكياً عن لسان مؤمن من آل فرعون عندما حثهم على عدم قتل موسى : " و لقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا ، كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب " غافر 34

فذلك الاضطراب بين القديم المألوف و الجديد الحق المعروف هو الشك الذي استمروا فيه بعد يوسف عليه السلام و جاءت حكايته على لسان مؤمن آل فرعون .

7 ـ لم يكن المصريون إذن قد خلوا في كل عصورهم من دعوات إلى التوحيد نعلم منها يقيناً دعوة يوسف صلى الله عليه وسلم و دعوة موسى صلى الله عليه وسلم ثم إن الهكسوس الذين جاءوا إلى مصر و حكموها أمداً غير قصير لا يمكن أن يكون مجيئهم قد خلا من دعوات دينية و خصوصاً أنه ورد في بعض الآثار أن إبراهيم صلى الله عليه و سلم قد زار مصر فلا بد أن يكون التوحيد قد كان موضع دعاية له و إن لم يكن موضع إجابة منهم .

و إن احتكاك المصريين بالآسيويين في الحروب الدائبة المستمرة لا بد أن يكون هو أيضاً قد أطلع الغزاة و الفاتحين على ما في آسيا من ديانات و آثار النبيين من شرائع و عقائد و أحكام و كل ذلك لا بد أن ينال شيئاً من النفس المصرية و إن لم ينل القلوب و يستولي عليها استيلاء تاما .

و لكن تلك الأغذية الدينية و تلك الدعوات التوحيدية التي كانت تجيء إليهم الحقبة بعد الحقبة لم ترفع المصريين إلى مرتبة الموحدين بل يسود عقائدهم التعدد في جملة تاريخهم بل إنهم لم يصلوا إلى التوحيد المحلى بأن يجمع المصريون على آلهة واحدة بل تعددت الآلهة بتعدد الأقاليم كما بينا .

8 ـ و لكن يظهر أن الكهنة ـ و هم الفلاسفة أيضاً ـ كانوا يجتهدون في أن يجمعوا المصريين على آلهة واحدة و لذلك كانوا ينشرون عقيدة هي العقيدة الرسمية للدولة و إن انحراف الشعب عنها كان انحرافا يختلف في قلته و كثرته باختلاف الأقاليم المصرية و لم تكن تلك العقيدة متحدة في كل أدوار مصر القديمة بل حالت و اعتراها قانون التحول فتغيرت من دور إلى دور و لنذكر خلاصتها و ما عراها من تغير .

تعتمد العقيدة الرسمية عند قدماء المصريين على أسطورة قديمة ترجع إلى ما قبل التاريخ في نسبتها و هي أن إله الإنبات و الخصوبة أو إله النيل و اسمه أوزيريس قد عمل على تكون مملكة إلهية مكونة من أخته و زوجته آلهة الحكمة و التشريع و السحر و اسمها إيزيس و وزيره إله التدبير و العلم و اسمه توت و غيرهم من الإلهة و لكن أخا أوزيريس و اسمه سيت و هو إله الشر و القحط نفس على أخيه ما ناله من مكانة و إجلال و دفعه الحقد إلى إيذائه فغدر به و احتال عليه حتى وضعه في تابوت ثم أقفله عليه و ألقى به في اليم فلما تفقدته زوجته و لم تجده أخذت تنقب عنه حتى عثرت عليه و لكن قبل أن تتمكن من فتح التابوت هاجمها سيت و أخذ التابوت منها عنوة و مزق أخاه اثنين و سبعين شلوا بعدد مقاطعات مصر إذا ذاك ، و نثر هذه الأجزاء في المقاطعات في كل مقاطعة شلوا و لكن مع ذلك لم تستيئس زوجته بل ألقى الوفاء في قلبها شجاعة لا يأس معها و بجد و دأب جمعت الأشلاء من كل مكان و ألقت كل جزء في موضعه من الجسم و قرأت عليه بعض من التعاويذ و الرقى السحرية فعاد إلى الحياة و لكنها حياة قصيرة كانت بقدر ما أنسل ابنه هوروس ثم غادر هذه الحياة إلى الحياة الأخرى ليقوم بالحساب و الميزان لأهل الدنيا .

و هنا تكون المعركة بين هوروس و عمه ست إذ ينكر نسب ابن أخيه و يدعى أنه الوريث الوحيد لعرش أخيه في المملكة الإلهية و يرفع في سبيل ذلك دعوى إلى محكمة الآلهة فتهب إيزيس مدافعة عن ابنها و شرفها فتقضي المحكمة بثبوت النسب بشهادة توت و لكن النزاع لا ينتهي بذلك بل يأخذ كل يعمل على إفساد أعمال الآخر في الكون و تكون دائرة هوروس في الإنتاج و العمارة و دائرة سيت في الإفساد و التدمير .

و صار من آثار ذلك التناحر ما كان بين الوجه القلبي و الوجه البحري من حروب مستمرة بل قد صار كل رئيس من رئيسي الوجه القبلى و الوجه البحري أحد هذين الإلهين .

و استمرت الحال على ذلك حتى جاء مينا الأول فجمع في سلطانه حكم مصر العليا و السفلى و أعلن أن الإلهين قد حلا في جسده و من ثم ابتدأت عقيدة تأليه الملك أو حلول روح الإله فيه .

و لقد أخذت الفلسفة الدينية من ذلك الحين تعمل على التوفيق بين خلود الألوهية و فناء الجثمانية لأن فرعون يموت كما يموت سائر الناس ، و الله جل في علاه حي باق ، فكيف يحل الباقي في الفاني !!! ثم كيف يموت من ارتفع إلى مرتبة الألوهية !!
إن الحس يؤكد الموت ، و عقائدهم تنافيه .

لقد دفعتهم الرغبة الملحة في التوفيق بين ما يحسون و ما يعتقدون إلى أن قالوا : إن روح الله هورس ذات ثلاث شعب أولاها الروح الدنيا و هي التي تحل في فرعون الزمان ثم تنتقل إلى من يليه و تفيض عليه بقدسيتها و الثانية الروح العليا الحاكمة في السموات و الأرضين و الثالثة روح تبقى في جسد فرعون الميت و تقوم بالنصح لفرعون الحي و لا تبقى هذه الروح إلا إذا بقي الجسم متماسكاً و لذا أعملوا الحيلة لذلك و بنوا الأهرام و شيدوها لتكون حفاظاً للجسم .

__________________
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا محال في القياس بديـع

لو كان حبك صادقا لأطعتـه ... إن المحب لمن يحب مطيـع

في كل يوم يبتديك بنعمــة ... منه وأنت لشكر ذلك مضيع