نبذة تاريخية

أنشئت المدرسة المستنصرية في بغداد بعد المدرسة النظامية بنحو نصف قرن، وقد أسسها
الحاكم المستنصر بعد سنتين من توليه الخلافة.

وقد بنيت على شاطئ دجلة من الجانب الشرقي بجانب قصر الخلافة بالقرب من المدرسة النظامية. وقد أنفق الحاكم عليها بسخاء شديد، وكان الحاكم المستنصر بالله ممن يحبون العلم وينفقون على أهله ويحبون جمع الكتب وقراءتها. وقد ظل العمل في بنائها ست سنوات كاملة فجاءت محكمة البناء راسخة في الماء فسيحة البناء. ولما كملت أبنيتها كسيت بأفخر الملابس وتجلت كأحسن العرائس، ورتب لها البوابين والفراشين والخدم والطباخين،وأسكن لكل مذهب اثنين وستين من الفقهاء وجعل لهم مدرسا وأربع معيدين، وأجريت لهم بها المشاهرات الوافرة وما يحتاجون إليه من الخبز واللحم والحلوى والفواكه والأرز والصابون، وجعل فيها طبيبا حاذقا ماهرا، وجعل عنده عشرة من الطلبة يشتغلون عليه في علم الطب، وجعل لهم الأكحال السائلة وبني لهم مكان فاخر مقابل للمدرسة يجلس فيه الطبيب فيقصده المرضى فيداويهم. وبنيت في حائط هذا المكان دائرة وصور فيها صورة الفلك وجعل فيها فتحات لطاف لها أبواب لطيفة، وفي الدائرة بازان من ذهب في طاستين من ذهب ووراءهما بندقتان من شبّة لا يدركهما الناظر، فعند مضي كل ساعة ينفتح فما البازين ويقع منهما البندقتان، وكلما سقطت بندقة انفتح باب من أبواب تلك الطاقات والباب من ذهب فيصير عند ذلك مفضفضا، وإذا وقعت البندقتان في الطاستين تذهبان إلى مواضعهما ثم تطلع أقمار من ذهب في سماء لازوردية في ذلك الفلك مع طلوع الشمس الحقيقية تدور مع دورانها وتتغيب مع غيبوبتها فإذا جاء الليل فهناك أقمار طالعة من ضوء خلفها كلما تكاملت ساعة تكامل ذلك الضوء في دائرة القمر ثم يبتدئ في الدائرة الأخرى إلى انقضاء الليل وطلوع الشمس فيعلم بذلك أوقات الصلاة.
وقد افتتحها الحاكم ومعه الوزراء وكبار موظفي الدولة في احتفال رسمي مهيب عام 631هـ / 1234 م. ونظم الشعراء في ذلك أشعارا. وما يزال بناء المستنصرية قائما حتى يومنا هذا في بغداد على شاطئ دجلة وإن كان قد لحقه كثير من التعديل والتبديل وتغ ير الوظيفة.



أهداف الدراسة


هدفت الدراسة في المستنصرية إلى الاهتمام بالعلوم الشرعية، ومحاولة الجمع بين المذاهب الفقهية في مكان واحد فكان هذا عملا عظيما ولم يكن له مثيل من قبل كما اهتمت المدرسة كذلك بتدريس الحديث الشريف، والقرآن الكريم وكان فيها داران أحدهما للحديث والثانية للقرآن الكريم، ولم يغب عن ذهن المستنصر باني المدرسة أن يهتم بالعلوم الأخرى، فجعل مدرسا للفقه ورتب له عشرة تلاميذ يكونون معه ليتعلموا منه هذه المهنة خاصة لما وجد أن غير المسلمين قد برعوا في هذا المجال، وكانوا يسيئون استخدامه ثم رتب كذلك معلما للرياضيات والتركات فالمستنصر لم يكن يهدف من وراء هذه المدرسة أن ينشئ مدرسة عادية بل جامعة دراسية متكاملة تخدم معظم نواحي العلوم المختلفة.



طلبة المستنصرية


كان يتم اختيار طلاب المستنصرية من المدارس المختلفة أو من الذين اشتهروا بالتأليف والتصنيف أو التدريس، فيثبتون طلابا فيها وقد كانوا أيضا يفدون إلى المدرسة من مختلف المدن في العراق أو البلاد الإسلامية، فكان منهم طلاب من تكريت وبرزين و الموصل والأندلس ومصر وقونية و أصفهان وخراسان وغير هذا من البلاد الإسلامية المختلفة.
وقد كان الطلاب لا يقتصرون في دراستهم على فرع واحد من فروع المعرفة، بل كان الواحد منهم يدرس الفقه ثم يذهب لسماع الحديث في دار الحديث أو يذهب إلى دار القرآن ليتعلموا علوم القرآن.
كان يطلق على الطالب في المستنصرية اسم الفقيه، وقد شرط الحاكم المستنصر في طلاب المستنصرية عدة شروط منها أن يكون عدد الطلاب بها (248) رجلا، وأن يكون من كل مذهب من المذاهب الأربعة عدد (62) فقيها(طالبا) على أن يكون لكل طالب في كل شهر ديناران، وقد كان عدد طلاب الحديث عشرة طلاب، وطلاب دار القرآن ثلاثون طالبا أما طلاب مدرسة الطب فكانوا عشرة طلاب. فكان العدد الإجمالي للطلاب في المدرسة المستنصرية يقارب مائتي طالب.
وقد اهتم المستنصر بالطلاب فوقف على المدرسة وقفا جليلا، واجتهد أن يرفه عنهم بأمور لم يسبق إليها ليتمكنوا من التفرغ للبحوث العلمية، فرتب لهم كافة ما يكفيهم من الأطعمة والأشربة، والنفقات ورتب لهم فيها البيوت والمساكن. فكانت الأطعمة تو زع عليهم يوميا مطبوخة زيادة على الحلوى، والفاكهة، والصابون، وما كان يهيأ لهم من الفرش والسرج، والورق، والأقلام للاستنساخ وعدا الماء البارد الذي كان يهيأ لهم في الصيف، والحمام الساخن الذي كان يهيأ لهم في الشتاء.



أساتذة المستنصرية


لقد ضمت المستنصرية العديد من العلماء الكبار والذين كان لهم أكبر الأثر في ازدهار الحياة العلمية في بغداد وغيرها من البلدان الإسلامية، وقد كان لعلماء المستنصرية الفضل الأكبر في نشر الثقافة الإسلامية في أحلك العصور وأشدها ظلمة فقد كانوا خلال فترة الحكم المغولي أي منذ سقوط بغداد بيد هولاكو سنة 656هـ / 1258 م. حتى تدميرها بيد تيمورلنك سنة 803هـ / 1401 م. يحملون مشاعل العلم، وينشرون نتاج الفكر الإسلامي مدة قرن ونصف القرن، وقد كان هؤلاء يتخيرون من كبار المدرسين والشيوخ في العراق والشام ومصر وغيرها من البلاد الإسلامية ممن حصلوا على إسناد عال أو انتهت إليه رئاسة العلم أو عرفوا بالبحث والاستقصاء عن الحقائق العلمية في البلاد التي سافروا إليها.
ولقد وصل المستوى الذي كان عليه المدرسون درجة عالية حتى أن المعيدين فيها كانوا ينتقلون أحيانا للعمل كمدرسين في مدارس أخرى مثل المحب بن نصر البغدادي، ومجد الدين بن الساعاتي التغلبي، وشمس الدين الأصفهاني، أما المدرسين في غيرها فكانوا لا ينتقلون إلا للإعادة فيها.كما كان المعيدون فيها ممن اشتهروا بالتأليف، وبرعوا في العلوم والآداب وتقلدوا المناصب المختلفة.

وقد كان من علماء المستنصرية أبو عبد الله الحصيني، وعز الدين الموصلي، ويعقوب الأنصاري الخزرجي من علماء اللغة العربية. ومن علماء الفقه ذو الفقار القرشي، وصفي الدين الأرموي البغدادي من الشافعية، وعماد الدين الباتني البغدادي، وعبدالعزيز الصنهاجي، وأبو عبد الله السبتي المغربي من المالكية، وابن القصاب البغدادي، ومصدق البغدادي، ومعاوية الموصلي من الحنابلة، وفخر الدين العراقي، وسيف الدين الطرازي، وابن البديع التكريتي من الحنفية.

وقد كان مجموع أعضاء هيئة التدريس في المدرسة ناظر أو وال وهو بمثابة رئيس الجامعة وعشرون مدرسا ومعيدا بمدرسة الفقه واثنين من الشيوخ والمعيدين بدار القرآن ثلاثة من الشيوخ، والقراء في دار الحديث، وطبيب واحد، ونحوي واحد بمشيخة العربية، ومدرس واحد للرياضيات.
أما تعيين المدرسين فقد كان يتم وفق مراسم معينة حيث يتم ذلك بعد صدور قرار من الحاكم للتعيين ثم يخلع عليه خلعة التدريس بدار الوزير، وقد يركب بغلة فيحضر إلى المدرسة بالخلعة، ويرافقه صاحب الديوان ومعه الولاة والحجاب والأكابر وصاحب البريد وجميع أرباب المناصب، احتراما له واحتفاء به ثم يجلس على سدة التدريس، فيخطب ويلقي بحثه ويحضر الأئمة والفقهاء والأعيان درسه، وتكون عليه الطرحة على عمامته، فإذا عزل من التدريس توجه إلى داره بغير الطرحة.



نظام الدراسة


تعد المستنصرية أول جامعة في العالم الإسلامي اهتمت بدراسة علوم القرآن والسنة النبوية، والمذاهب الفقهية وعلوم العربية والرياضيات، وقسمة الفرائض والتركات ومنافع الحيوان وعلم الطب وحفظ قوام الصحة كما أنها أول جامعة إسلامية جمعت فيها الدراسات الفقهية على المذاهب الإسلامية الأربعة: الحنفي والشافعي والحنبلي والمالكي في بناية واحدة هي مدرسة الفقه، وكانت المدراس الفقهية قبل هذه المدرسة تختص كل منها بتدريس مذهب معين من المذاهب الأربعة، فكانت هذه مزية للمدرسة المستنصرية.
كما تميزت المستنصرية بشيء آخر حيث أضيف إلى مدرسة الفقه مدارس للطب، ودار للحديث وأخرى للقرآن، وكانت هذه المدارس من قبل موجودة ولكنها منفصلة بعضها عن بعض وبهذا فإن مدرسة المستنصرية كانت أشبه ما تكون بالجامعة.



مكتبة المستنصرية


تعتبر مكتبة المستنصرية من أهم الأقسام العلمية في المستنصرية حيث كانت مرجعا عاما لطلاب المستنصرية، ولطالما قصدها الكثيرون منهم وترددوا عليها وأفادوا من كنوزها العلمية والأدبية نحو قرنين من الزمن، وقد كانت المكتبة في مكان القاعات الكبيرة الواقعة في الحد الأسفل من عمارة المدرسة، ويفصل بينها وبين مدرسة الفقه دهليز طويل عال ولم يكن بها نوافذ بل كان بها فتحات في السقف تكفي للإضاءة والتهوية.

وقد نقل إليها المستنصر من الكتب النفيسة المحتوية على العلوم الدينية والأدبية ما يقدر بثمانين ألف مجلد سوى ما نقل إليها فيما بعد، وقد رتبت هذه الكتب بحسب الفنون ليسهل تناولها ولا يتعب من يريد المطالعة في الحصول على ما يريد منها. ولقد كانت تعد هذه المكتبة من أعظم دور العلم العامة في القرن ين السابع والثامن الهجريين / الثالث عشر الميلادي خاصة في العهد الذي كان ابن الفوطي أمينا عليها فيه، وقد كانت المكتبة تضم خازنا للكتب ومشرفا على الخازن وأيضا مناولا للكتب.
كانت المكتبة من أهم أقسام المدرسة، وقد بني لها بناء مخصوص ضمن مبانيها. وكانت القاعات الكبيرة الواقعة في القسم الشرقي من عمارة هذه المدرسة، يفصل بينها وبين مدرسة الفقه دهليز طويل عال، وهذه القاعات ترتفع بارتفاع طابقين، ولم تكن لها نوافذ بل كانت فيها فتحات سقفية لا تزال عامرة تكفي للإضاءة والتهوية. وبعد أن اكتمل بناء المكتبة أمر الحاكم بتزويدها بالمجموعات اللازمة من مكتبته الخاصة بالقصر. وقد نقل إليها من الربعات الشريفة والكتب النفيسة المحتوية على العلوم الدينية والأدبية ما حمله مائة وستون حمالا.
وقد بلغ مجموع ما نقل إليها أول مرة ثمانية آلاف مجلد. وقد بلغ عدد أحمالها مائتين وتسعين حملا. ثم أضيف إليها بعد ذلك من الإهداءات ما جعل مجموعاتها يرتفع إلى ثمانين ألف مجلد؛ حيث أهديت إلى المكتبة كتب من كبار رجالات الدولة والوجهاء والمؤلفين والواقفين.

وقد طلب الحاكم من أمين مكتبة القصر عبد العزيز بن دلف وابنه ضياء الدين التوجه إلى المكتبة المستنصرية وإثبات الكتب واعتبارها، وترتيب مؤلفاتها فقاما بذلك، ونظماها قدر الإمكان ورتباها حسب فنونها، ليسهل تناولها ولا يتعب مناولها، واستدعى ثلاثة أشخاص لمراقبة سير العمل على الوجه الصحيح فيها هم شمس الدين علي بن الكتبي الخازن، وعماد الدين علي بن الدباس المشرف، وجمال الدين إبراهيم بن حذيفة المناول.

وقد تعاقب على خزانة المكتبة شخصيات عظيمة عالمة من بينهم ابن الفوطي، وعلي بن عثمان الساعي، وفخر الدين محمد بن سعيد الحداد. ولقد خربت هذه المكتبة وانتهبت مجموعاتها في وقت ما بين القرن التاسع والحادي عشر الهجري.

__________________منقوول