رحلة البحث عن القرى و المدن المندثرة في تهامة

أنيس خضرعبدالوكيل السقاف

مازال الكثير من إرث تهامة الحضاري مطوياً في ثنايا سطور الصحائف المطوية، أو مدفوناً بين الرمال، أو منثوراً في الجبال، أو مطموراً في مياه بحر القلزم، أو ينام في سبات عميق في الذاكرة وقد أُحيط ما تبقى من ذلك الإرث الحضاري بالخرافات وأساطير أبطالها الجن، وأوهام العثور على كنوز ذهبية غافلين من الإرث الحضاري لتلك الحضارة الطينية أغلى من كنوز الدنيا، وما ذلك إلا لأنها تحوي في ثناياها سيرة الانسان في الماضي، والذي ممالاشك فيه أنه نبراس ينير لنا طريقنا في الحاضر والمستقبل وفي هذه المقالة سأبين بعض المفاهيم عن ديناميكية البناء والاندثار وهي خلاصة بحوث مازالت مستمرة لتوثيق أماكن مدن وقرى تهامة بما يسمى بلاد عك والأشاعر.



عك:

قبيلة يمنية تنسب إلى: عك بن عدثان ـ بالمثلثة ـ بن عبدالله بن الأزد بن الغوث بن النبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ ، سكنت في الأرض الممتدة من سهام شمالاً إلى مابعد وادي حرض قريب من بلاد حكم أو المخلاف السليماني وعلى أراضيها قامت مدن منها التي مازالت قائمة مثل مدينة حرض ومنها التي اندثرت مثل مدن: ملحة«م ل ح ة» و«مدينة المهجم«م هـ ج م» ومدينة الكدراء«ك د را ء» ومدينة المحالب «م ح ال ب» وغيرها من القرى وقد أسهم أبناء قبيلة عك في البناء الحضاري ومن أشهر أعلامهم حاكم الأندلس القائد عبدالرحمن الغافقي، وغافق فرع من عك كانت مساكنها مابين المنصورية وباجل بما في ذلك حواز جبل برع مما يلي عبال وباجل والمراوعة.

الأشاعر:

قبيلة يمنية تنسب إلى نبت بن أدد بن زيد بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ ، والممتدة أراضيها من المنصورية حتى قريب من بني مجيد في موزع وعلى أرضها قامت مدن بعضها مازالت قائمة مثل: زبيد وحيس ومدن قد اندثرت مثل: مدينة القحمة«ق ح م ة» ومدينة فشال «ف ش ا ل» ومدينة المعقر«م ع ق ر» والقرتب «ق ر ت ب» والعديد من القرى ومن أشهر أعلامها الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري وقومه الأشاعرة الذين قال فيهم رسول الله محمد«صلى الله عليه وسلم»: هم منا وأنا منهم، وفي موضع آخر قال بأنهم أرق قلوباً ووصفهم بالايمان والحكمة هم وجميع أهل اليمن.

التسمية:

تسهم المعاني اللغوية لأسماء الأماكن في إلقاء مزيد من الضوء على تسميات المواطن التاريخية، بل وفي اعطاء وصف ذهني لطبيعة المكونات التي تحيط بذلك المكان مما يساعد في تحديد موقع القرية أو المدينة إن كان مجهولاً، وما ذلك إلا لأن المعاني اللغوية وثيقة الصلة بالانسان ومحيطه، ولكن في بعض الأحيان تتشابه التسميات مثال على ذلك توجد مدينة الكدراء بالقرب من المراوعة وهي مدينة مندثرة وتوجد قرية تحمل نفس الاسم بالقرب من المهجم شرق الزيدية وكذلك الأمر بالنسبة لمدينة القحمة القريبة من المنصورية توجد قرية لها الاسم نفسه في وادي زبيد، كما أنك قد تجد مواطن متناقضة التسمية ذكرت في المصادر بأكثر من اسم مثال على ذلك قرية الأنفة«ا ن ف ة» وقرية الضجاع«ض ج ا ع» فما هو موقف الباحث هنا.. على الباحث في هذه الحالة أن يجعل من المصادر التاريخية حكماً.. فكتب الأنساب وطبقات الفقهاء وأماكن قبورهم إضافة إلى المعاجم الجغرافية والحوليات جميع ذلك دليل موصل إلى القرى المجهولة أو المتشابهة أو المتناقضة الأسماء، وعلى الباحث أن يعمل فكره مستقرئاً ومستنبطاً ومقارناً بين الحدث والنسب والموطن وفي الأخير يصدر حكمه ويرجح.

الإعمار:

أوضح العالم ابن خلدون في تاريخه أن للدولة عمراً كالبشر من الميلاد حتى الوفاة، وكذلك هي المدن والقرى فإن كانت المدينة عاصمة فيترافق نموها وازدهارها واندثارها مع تلك الدولة ويختلف الأمر إذا تعاقبت الدول وكانت تلك المدينة هي العاصمة في كل دولة فإنها ما أن يتوقف فيها الإعمار حتى تزدهر ومثال على ذلك مدينة زبيد التاريخية وعموماً فإن المدينة تمر بثماني مراحل:

1ـ بيت منسوب إلى علم أو تضاريس ثم عدة بيوت

2ـ تجمع سكاني

3ـ قرية

4ـ مدينة



6ـ تجمع سكاني

7ـ اندثار

8ـ نشوء مدينة على أنقاضها أو بالقرب منها وقد يطول عمر بعض المدن والقرى فتستمر في مرحلة واحدة ومثال على ذلك مدن حيس وزبيد وحرض ومن أسباب طول أعمار بعض المدن والقرى مايلي:

ا ـ أن تبنى على خط القوافل.

ب ـ أن تبنى في وسط يساعد على البقاء كأن تكون بالقرب من الجبال.

ج ـ أن تبنى بعيدة عن الأماكن الكثيرة التقلبات المناخية والسيول.

د ـ تماسك النسيج الاجتماعي للسكان وإصرارهم على البقاء.

هـ ـ أن تكون محط اهتمام الولاة بإنشاء المرافق العامة والخاصة والمباني الفخمة وصيانتها باستمرار.

الاندثار: الاندثار ثلاثة أنواع، الأول: تهدم مباني المدينة أو القرية مع بقاء الحيطان وهذا غير موجود في جميع مدن وقرى تهامة الطينية، والثاني تهدم المباني كاملة بحيث أنك لاترى على سطح تلك المدن والقرى المندثرة سوى فتات الاجر ويتخلله كثير من قطع الفخار المتنوع الأغراض وجميع مدن تهامة على تلك الحال وكذلك قراها باختلاف بسيط أن القرى التي تكون قريبة من واد يكون منتشر على سطحها بدلاً من الاجر جلاميد صخور الوادي المكورة السوداء، والنوع الثالث: اختفاء أي أثر على سطح المدينة أو القرية أو مايدل على أنه كانت هنا مدينة وذلك بسبب تجريف الأرض وتحويلها إلى أرض زراعية أو سكنية وعموماً فإن المقصود بالاندثار هو اختفاء معالم تلك المدن والقرى ومن أسباب الاندثار السريع للقرى والمدن في تهامة هو الرطوبة والأمطار الغزيرة التي كانت تسقط في بعض السنين والسيول والزحف الصحراوي والزلازل وتجريف الأرض والتصرف بما يوجد على سطحها من اجر للبناء به في أماكن أحدث ومن الأسباب أيضاً الصراعات والحرائق والهجرة.. وبالنسبة لتاريخ الاندثار يكون إما بأن تذكر المصادر أحداثاً تاريخية توضح سبب الاندثار وتاريخه وإما ما يشاهده على سطح تلك الأرض من دلائل قد تشير إلى سبب الاندثار أو أن يلجأ إلى الاستقراء والاستنباط من خلال الاحداث الفرعية أو بآخر مرة ذكرت في المصادر.

طريق القوافل:

ومما لاشك فيه أن دراسة طرق القوافل يزود الباحث بمعلومات عديدة منها:

التعرف على مراحل نمو بعض المدن والقرى وذلك من خلال المقارنة بين أوصاف الطرق ومن الطرق الموثقة والمتداولة ماجاء في كتاب ابن المجاور وكتاب عمارة اليمني المسمى: المفيد.

كما أن دراسة خط القوافل يمكن الباحث من الكشف على مواقع مدن وقرى كانت موقعها مجهولة والجدير بالذكر أن تطبيق دراسة خط سير القوافل عملياً لمعرفة مواقع قرى ومدن كانت مجهولة غير مجد مالم يتم تحديد مقدار الفرسخ بالمتر ولذلك كنت أجد في البحث في هذا المجال وفي آخر المطاف توصلت على مقدار الفرسخ بالمتر من خلال المرحلة والذراع مستفيد في الأخير من مقدمة محقق كتاب الفضل المزيد للدكتور/ يوسف شلحد ولكني لم استخدمه لعدم مطابقته للواقع، وفي ذات يوم برقت في ذهني فكرة عبارة عن تساؤل مفادها:

لماذا لانستخدم الزمن للوصول إلى مقدار الفرسخ بالمتر وكان الأمر كالتالي:

فعندما يقول ابن المجاور بأن المسافة مابين القحمة وفشال هي أربعة فراسخ فما علي إلا أن استقل سيارة مسرعة وأضبط ساعة الايقاف لمعرفة مقدار هذه المسافة بالدقائق فوجدت أن المسافة مابين القحمة وفشال تقدر بعشرين دقيقة فقسمتها على أربعة فراسخ فكان الناتج هو خمس دقائق لكل فرسخ ولكن ما مقدار الخمس الدقائق بالمتر.. اكتشفت ذلك عندما كنت في رحلة البحث عن قرية العمد فقد قال ابن المجاور بأن المسافة مابين الغنمية والعمد ثلاثة فراسخ ولقد شاهدت عند باب الناقة القريب من قرية العمد لوحة ارشادية مكتوب عليها بأن المسافة مابين القطيع وباجل ثلاثون كيلومتراً فإذا خصمنا المسافة الزائدة التي من القطيع إلى الغنمية «غ ن م ي ة» مقابل المسافة الزائدة مابين باجل والعمد سنجدها فعلاً ثلاثين كيلومتر وهذا يؤكد أن الفرسخ يساوي عشرة كيلومترات وقد استخدمت ذلك بفاعلية في الوصول إلى قريتي السرادب «س ر ا د ب» والدوامل «د و ا م ل» والله أعلم
منقوول