إن منطلق الشعر العربي الإسلامي هو الالتزام المحكوم بقيم الإسلام ومبادئه، لارتباطه القديم بالعروبة والإسلام، وبالثوابت والأصول الدينية التي تجعله يؤدي دورا رساليا لخدمة الأمة الإسلامية، وفق تصور إسلامي للحياة والكون.
ولهذا كانت ريادة هذا الضرب من الشعر ممتدة في تاريخنا العربي الإسلامي، وشاهدة على دوره في تأريخ وحتى تأسيس الثقافة العربية الإسلامية بشكل يدعو للإعجاب والذهول أمام مهمته النبيلة التي وجهها الإسلام لخدمة المسلمين عامة.
لقد اعتمد العربي قبل مجيء الإسلام على منطق العنف الذي كان يحكمه ويغذيه الوازع الاقتصادي، بفرض السطو والغارة على الخصم في محاولة لإثبات الذات والتعبير عنها، وفرض السلطة والمكانة في المنطقة. وصاحب الشعر هذا العربي في التعبير عن هذا الهاجس الذي يشكل دعامة أساسية في تشكيل شخصيته، وميزه عن بني البشر في أقطاب المعمورة.
وبمجيء الإسلام ومحاربة الرسول صلى الله عليه وسلم للشرك والمشركين تأسست دعائم جديدة للحياة العربية، وقلبت النظام السائد واستبدل الخبيث بالطيب، في الوقت الذي لقيت دعوته معارضة قريش، التي تدعمت بشعر شعرائهم المشركين، الذين حاربوا الإسلام ورسالته لأنهم شعروا بتزعزع نظامهم، وارتجاف سلطانهم فعارضوا بمختلف الطرق والوسائل.
وقد رد القرآن عليهم بليغا وصارما، فأسكت البلغاء وحير الفصحاء بإعجازه اللغوي، فأبدت الآية الكريمة "والشعراء يتبعهم الغاوين ألم ترى أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون مالا يفعلون"1 موقفا سلبيا رافضا الشعر لأن الغاوون هم الضالون من الشياطين والإنس "وقيل هم شعراء قريش عبد الله بن الزبعري وهبير بن أبي الصلت، قالوا نحن نقول مثل محمد، وكانوا يهجونه ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم".2
حتى أن الله أبعد في محكم تنزيله أن يكون الرسول شاعرا "وما علمناه الشعر وما ينبغي له"3 وأن يكون القرآن شعرا بعدما ادعى عقبة بن أبي محيط أن الرسول شاعرا.4
إلا أن "الآية 227 من سورة الشعراء" استثنت الشعراء الذين قبلوا إرساء النظام الجديد الذي جاء به الإسلام "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات"5، حيث أن المستثنين هم عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت والكعبان كعب بن مالك وكعب بن زهير الذين شجعهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهم شعراء الدعوة الإسلامية، الذين دافعوا عنه صلى الله عليه وسلم وكافحوا هجاة قريش. حث به الرسول صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك إلى دور الشعر في زعزعة المشركين بقوله "أهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل"6. وبذلك كان الإسلام رافضا لكل مظاهر العنف والانحراف التي طالما شجعها الشعر الجاهلي.
لقد اعتبر تشجيع الرسول لهذا النوع من الشعر دعوة إلى تهذيب الشعر وتغذيته بالمفاهيم الإسلامية النبيلة التي تنبذ كل القيم السلبية، وتقضي على التغني بمفاخر الجاهلية، وتحث على الإعراض عن الهجاء إلا للانتصار لدين الله. فكانت دعوته صريحة في قوله : "إنما الشعر كلام مؤلف فما وافق الحق منه فهو حسن وما لم يوافق الحق منه لا خير فيه".7
تعتبر هذه الشهادات والتحفيزات، تفعيلا حقيقيا للحركة الأدبية الملتزمة، التي غلف فيها الشعر بالقيم الإيجابية والردود العملية على تحدي ومجابهة المشركين، وأصبحت المعطيات الجديدة التي قدمها الإسلام منبع الشعر المدعم والناصر لهذا الدين والمحارب للشر والفساد. كما كان نقد الرسول صلى الله عليه وسلم تقويما وتصحيحا لمهمة الشعر الهادف. فها هو عليه الصلاة والسلام يعجب بشعر النابغة الجعدي وجودته التي حققتها غايته، ويقول "أجدت لا يفضفض الله فاك"8 وكان شعره يقول :
<TABLE class=text><TBODY><TR><TD width="50%">ولا خير في حلم إذا لم يكن له
ولا خير في جهل إذا لم يكن له </TD><TD width="50%">بوادر تحمي صفوة أن يكدرا
حليم إذا ما أورد الأمر أصدر</TD></TR></TBODY></TABLE>لقد عرفت الساحة الأدبية شعراء دافعو، عن الإسلام والمسلمين وأسسوا للكتابة الشعرية العفيفة والبعيدة عن الكذب والتلفيق، فكان حسان بن ثابت حاضرا كلما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم ليرد على المشركين والشعراء منهم فكان في مستوى المهمة الموكل بها. حيث دعا له الرسول بالجنة والوقاية من النار عندما رد على أبي سفيان بن الحارث قائلا :
<TABLE class=text><TBODY><TR><TD width="50%">فإن أبي ووالده وعرضي </TD><TD width="50%">لعرض محمد منكم وفاء 9</TD></TR></TBODY></TABLE>إن من نتائج تمسك المسلمين بدينهم أن أحدثوا تغييرا فكريا وثورة تصحيحية لما كان سائدا، حيث ارتقى العربي بالإسلام وتسامى عن السلبيات والخرافات والأباطيل والحمية التي كانت من عمق التفكير الجاهلي، ووجه الشاعر هدفه في خدمة الدعوة، فسجل أحداث الغزوات والفتوحات بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعا إلى الجهاد وتقديم النفس فداءا لدين الله.
وبعد تغلغل وتمكن الفكر الإسلامي النابغ من كتاب الله وسنة رسوله، أسس المسلمون لبناء حضارتهم ووجهوا فكرهم إلى التأمل والتدبر في الكون وموجده. واعتمدوا في حل وتحليل قضايا الوجود والموت والحياة على العقل، فكان طلب العلم أسمى الغايات عندهم، حيث حرك الإسلام ذلك العقل الجامد نحو التفكير واعتماد الحجة والبرهان في الكشف عن أسرار الخلق والوجود. وكان الشعر ناطقا رسميا لكل المناحي الفكرية والسياسية والثقافية عندهم، لأنه تدعم وتأسس بأسس متينة فرضها الإسلام فكانت المعاني الإسلامية محك جودة الشعر أو رداءته.
وبفعل تطور الحركة الأدبية والنقدية، وظهور فنون القول المجموعة (ظهور بعض الكتب التي خصصت فصولا للشعر وقضاياه)10 أجمع الكثير على ضرورة الالتزام بالصدق في المديح وفي المعاني وإصابة اللغة.
وتجاوزت مهمة الشاعر مجال العقيدة لتشمل مناحي أخرى مشكلة للحياة العربية والإسلامية، وشهد الشعر عودة أغراض كان الإسلام قد لغاها ونبذها، لكن ظل التزام الشعر الديني حاضرا وقويا دعمته جماعات الزهاد التي ابتعدت عن حياة المغريات والملذات، والزُهد عنها. وساعدهم في ذلك شدة التدين والانصراف إلى تهذيب السلوك الإنساني وتربية النفس على القيم العليا. إلا أن هدفهم لم يكن موقوفا على هذا فقط، بل كان داعيا إلى استيفاء مسؤولية المسلم تجاه الله والمخلوقات حيث وظف الشعراء منهم شعرهم لتربية المجتمع وإصلاحه. ولنا من النماذج ما يمثل هذا الاتجاه أحسن تمثيل، إذ كان أبو العتاهية متقدما في هذا الغرض.11
وسلكت جماعات المتصوفة سبيلا جديدا في فرض الشعر، حيث أعطت شكلا جديدا يبحث في الوجود والتوحد مع الذات الإلهية والاستعانة بالنور الإلهي. فعمقت هذه الجماعات دور الشعر، عندما اعتبرت الخيال كشفا عن نوع مهم من المعرفة والحقيقة، وكانت فكرة الخلق الشعري عند ابن عربي مثلا تماثل في جوهرها فكرة خلق العالم كتجسيد لتجلي الخالق في خلقه.
لقد تمكن شعراء التصوف من استثمار إمكانيات اللغة البلاغية لتشكيل عناصر الرؤية الفلسفية والفنية للكون، وساهم هذا الشعر في بلورة الأفكار الصوفية في الأشعار غير العربية كالفارسية مثلا، في الوقت الذي أخذ من نظريات مستوحاة من ثقافات قديمة غير إسلامية أسست للفكر الصوفي، وبذلك فتحت الصوفية أفقا واسعة للرسالة الإسلامية وأحاطتها بالدفء والمشاعر النبيلة.
لقد كان للتصدعات التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية دورا في تشعب الثقافات الوافدة إليها والمؤثرة في مسار تفكيرها.
ومن الطبيعي أن يتأثر الشعر بالتيارات المؤسسة لهذه الثقافات ويدخل في ضوائق المذهبية التي سطرت أهدافا مختلفة للأدب، حتى يكون في خدمة مبادئها، وتنوع رواده بين من يدعو للحفاظ على الشعر العمودي وما يتبعه من شعر الأحياء ومن يدعو إلى الشعر الرومانسي والإبحار باتجاه العاطفة البشرية. وبدأ الحديث عن أدب وجودي وماركسي وشيوعي، فانبثقت الواقعية الاشتراكية مثلا من منظور مادي وأوغلت السريالية في الحث عن الطبقات البعيدة للنفس والبشرية.
وعرفت القصيدة العربية أشكالا متعددة، خاصة بعد ظهور الشعر الحر ومدارسه ثم قصيدة النثر، وأثريت قضية أزمة الشعر، أي الاتجاهات والأشكال أكثر تشكيلا لهذه الأزمة، وكيف بدأت وما هو مصدرها. لكن ما يجب الإشارة إليه هنا أن الشعر ولو اختلفت اتجاهاته فلن يفقد خصوصيته إذا ما حافظ على بناء مكتمل يجمع بين المعرفة الجمالية والرؤية الفلسفية والمضمون الفكري والموقف الصادق والصريح.
فالشعر العربي الحديث، باختلاف أشكاله تضمن كل هذا، ولازال جزء كبير من الشعراء يحرص على بقاء الدور الرسالي للشعر، وبخاصة إن كان يحمل في جنباته ارتباطا بالموروث الأصيل واستمرارية مع كل حديث نافع. لأن التجديد ضرورة واستجابة حقيقية لمتغيرات العصر، ونحن كما يقول مشري بن خليفة "في حاجة إلى تأصيل النص وضمان وجوده الفني بالبحث المستمر."12 لكن مع الإيمان بأن الكتابة الشعرية رسالة لا يجب أن ينحصر في فنيتها بل يتجاوزها إلى أبعد من ذلك. فالأدب "هو التغيير عن تجربة شعورية في صورة موحية"13 و"التعبير الموحي هو سر نجاح العمل الأدبي"14 وبذلك يكون ما يجمع الشعراء العرب المسلمين تحقيق المنفعة الإنسانية التي تتقاطع مع الاجتهاد في تشكيل القيم الجمالية التي تحققها قدرة الشاعر وبراعته في الأداء.
إن بالرغم من موقف العديد من الحداثيين الذين صاغت المذاهب والنظريات نشاطهم الأدبي توجها ذا شخصية محددة وملامح متميزة، في أن الالتزام الديني تضييق للجانب الفني وتمسك الشعراء أصحاب التيار الإسلامي بتوجه خاص في التفكير والرؤية، تلخص في الولاء للدين عن طريق الشعر الإسلامي المنطلق من الرؤية الإسلامية الخالصة والمدافعة عن قضايا العالم الإسلامي. إلا أن اتفاقهم كان في رفضهم تشويه الهوية، وإن اختلفوا في تحديد مفهوم ومجال امتدادها، فكان شعرهم يبحث عن التحرر والخلاص من المستعمر، ليتحول هدفهم بعد ذلك للحث عن الخلاص الثقافي والفكري في عهد التغريب الذي عرفه المجتمع العربي الإسلامي.
وتأرجح دور الشعر العربي الإسلامي بين التزام وطني من أجل المحافظة على الذات في مواجهة الآخر، وبين حضور متفاوت للعقيدة التي تعطي لقضاياهم مشروعية انسانية وتسعى إلى الكشف عن الحقيقة بعين الناقد الساخرة المحقرة لدعاة الظلم والشر والفساد في العالم ككل.
إننا عندما نتحدث عن الشعر العربي الإسلامي منذ نشأته وبداية تأسيس أهدافه إلى يومنا هذا، فإننا نسعى للإشادة بشعر يلتزم فيه صاحبه بالقيم الخالدة للحفاظ على الحياة والدعوة إلى الحرية الإنسانية وما فيها من تحرر من قيود الخوف وشهوة المال والجسد وبطش السلطة.
ونشير إلى شعر لا يحيد عن الثوابت والأصول ولا يسقط في الدعوات الضيقة التي تحصر الشعر خاصة والأدب الإسلامي عموما في العودة إلى القيم وتسخيره في الدعوة والوعظ، حتى لا يضعف وينصرف عنه المتلقي ويفقد الصورة الفنية. بل أن الشمولية واتساع الآفاق بالموضوع الهادف مهما كان شكل القصيدة فيه، وتوظيف اللغة العربية الجديدة الراقية وتحقيق الرؤية الواضحة والخيال الموسع لآفاق التجربة الشعورية كل ذلك يكسبه العالمية ويعيد له دوره الحضاري كما كان في السابق.

الهوامش :
1- الشعراء، الآية 224.
2- الزمخشري : الكشاف المجلد الثالث، ص 133.
3- يس، الآية 224 - 226
4- الزمخشري : الكشاف المجلد الثالث، ص 329
5- الشعراء، الآية 227
6- الزمخشري : الكشاف المجلد الثالث، ص 134
7- أنظر ابن رشبق القيرواني : العمدة، تحقيق محي الدين عبد الحميد، ص 197
8- أبو فرج الأصفهاني : الأغاني، ج 4، ص 271
9- إخلاص فخري : عمارة الإسلام والشعر، دراسة موضوعية، ص 39-40
10- عد، ابن طباطبا : عيار الشعر، ص 16، الأمدي : الموازنة، ج 2، ص 58، أبو حيان التوحيدي، ص 278، الجاحظ : مجموعة رسائل (رسائل الجاحظ عبد السلام الهارون)، عبد القادر الجرجاني : أسرار البلاغة، ص 235.
11- أبو الفرج الأسفهاني : الأغاني، طبعة دار الكتب، ص (من 4/16).
12- مشري بن خليفة : سلطة النص، ص 24
13- سيد محمد قطب : النقد الأدبي أصوله ومناهجه، ص 9
14- السيد حسن الشيرازي : العمل الأدبي نظرات في الأدب والنقد، ص 11

بقلم نجاة بوزيد
جامعة مستغانم