1862م – 1931م





كان تدفق الغزو الأوربى إلى بلاد شمال إفريقيا منذ أواخر القرن الثامن عشر، سبباً رئيساً فى تولد تيارات جهادية معادية له فى كل بقعة وطئتها أقدام جنوده، وجيلاً بعد جيل حمل هؤلاء المجاهدون لواء الحرية، من أجل إعلاء راية الحق وطرد الغزاة من بلادهم، فكان من أعلام هؤلاء المجاهدين وشيوخهم فى ليبيا المجاهد البطل عمر المختار، ولد عمر المختار بن عمر عام 1862م، لوالدين مُسلمين من قبيلة المنفة بإقليم برقة القريب من الحدود المصرية، نشأ عمر المختار يتيماً بعد أن توفى والده عام 1878م وهو مازال طفلاً، تلقى عمر المختار تعليمه الأولى فى زاوية البلدة كباقى أقرانه، عقب وفاة والده انتقل إلى الزاوية السنوسية بواحة (الجغبوب) فى الوقت الذى ازدهرت فيه الطريقة السنوسية، فأتقن اللغة العربية والعلوم الشرعية وحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، حتى نال رضى وثناء مُعلميه، وشب على ذلك فذاع سيطه بين العلماء وشيوخ القبائل، وتولى مشيخة زاوية (عين كلك)، ثم زاوية (القصور) عقب وفاة السيد/ محمد المهدى السنوسى فى عام 1902م، وكان عمر المختار آنذاك فى عقده الرابع.
عندما أعلنت إيطاليا الحرب على تركيا فى سبتمبر1911م, وقذفت بارجاتها الحربية مدن الساحل الليبى, درنةوطرابلس ثم طبرقوبنغازى والخمس, سارع عمر المختار فى استدعاء المجاهدين وإعدادهم للقتال، حتى إذا ما انسحب الأتراك من ليبيا سنة 1912م، صب الليبيين جام غضبهم على الإيطاليين فدحروهم فى معارك عديدة، مما دفع الإيطاليين إلى تعيين القائد العسكرى (أميليو) حاكماً عسكريا لبرقة, ليضع بدوره خطة للهجوم على المجاهدين، وقطع طرق الإمدادات عنهم، إلا أن المجاهدين تصدوا له وصمدوا أمام حصاره.
عقب الانقلاب الفاشى فى إيطاليا، وتعيين الزعيم الفاشستى (موسلينى) حاكماً جديداً فى ليبيا، زاد الضغط العسكرى على الليبيين، بعد أن اضطر السيد/ محمد إدريس السنوسى (أمير الحركة السنوسية) إلى الانتقال إلى مصر، عاهداً لعمر المختار بالقيادة العسكرية للمجاهدين، وبالشؤون الدينية إلى أخوه رضا السنوسى، الأمر الذى دفع بعمر المختار إلى السفر لمصر لمشاورة السيد/ إدريس السنوسى فيما يتعلق بأمر البلاد, وعقب عودته قام بتنظيم المجاهدين، وعين على كل فرقة قائداً مختاراً، إلا أن موسلينى طالب بأن تصفى المعسكرات وأن يسلم السنوسيون أسلحتهم، فلما لم يستجب المجاهدون، قام بمهاجمة (اجدابية) واحتلها فى إبريل 1923م، فتوجه عمر المختار إلى مصر مرة أخرى لرسم خطة جديدة للدفاع مع محمد إدريس السنوسى، وفى طريق عودته نصب له الإيطاليين كميناً مُحكماً، إلا أنه استطاع الفرار متوجها إلى (الجبل الأخضر) ليلتقى بالسيد/ رضا السنوسى لإبلاغه بالخطة التى اتفق عليها فى مصر.
أمام صمود المجاهدين، تحالف الإيطاليين والإنجليز فى مصر للحيلولة دون وصول أية مساعدات إلى المجاهدين عبر الحدود المصرية، وعلى ذلك مُدت شبكة من الأسلاك الشائكة بطول الحدود بين البلدين، ونصبت أبراج الحراسة والمراقبة بطول خط الحدود، لم يكتفى الإيطاليون بذلك وسعوا إلى فرض سيطرتهم على واحة الجغبوب الحدودية مع مصر لأهميتها كمصدر إمداد للمجاهدين، فقاموا بتوقيع اتفاقية مع الحكومة المصرية فى ديسمبر 1925م، تركت لهم مصر بمقتضاها واحة الجغبوب مقابل تنازلهم لها عن بئر فى منطقة (السلوم) الحدودية مع مصر، الأمر الذى صار محل انتقاد كثير من المصريين، خيب آمال المجاهدين، لم يكتف الإيطاليون بتلك الإجراءات فأخذوا فى ممارسة سياسة الإرهاب ضد شيوخ القبائل لمنعهم من تقديم أى عونٍ للمجاهدين، مستعينين فى ذلك بسلاحهم الجوى الذى استخدم للمراقبة ولقصف مواقع المجاهدين المتحصنين بالكهوف والجبال.
كان صمود المجاهدين أمام تلك الضغوط، وإلحاقهم عدة هزائم بالإيطاليين، سبباً فى محاولة إيطاليا السيطرة الوضع المتدهور فى ليبيا، فأصدرت مرسوماً بتوحيد كل من برقة وطرابلس فى ولاية واحدة، عين المارشال (بادوليو) حاكماً لها، وعلى الفور قام بادوليو بإصدار منشورٍ فى فبراير 1929م، طالب فيه المجاهدين بإلقاء السلاح، واعداً إياهم بالصفح عنهم، ومتوعداً من لا ينصاع لتلك الأوامر بأشد الوعيد؛ فلما لم يجد المارشال نتائج جدية لمنشوره، فضل اللجوء إلى مفاوضة عمر المختار, فاجتمع الطرفان فى (سيدى ارحومة) فى يونيو 1929م، لكن سرعان ما تبين للمجاهدين عدم جدية المفاوضات، وأنها ليست إلا محاولة لكسب الوقت لإراحة القوات الإيطالية، فضلاً عن محاولة الإيقاع بين عمر المختار والمجاهدين، وشيوخ القبائل، وبالفعل فقد نجح الإيطاليون فى سعيهم لكسب الوقت، وفى منتصف شهر يناير 1930م أمطرت طائراتهم المجاهدين بقذائفها الفتاكة.
كان عام 1930م منذ بدايته شاهداً على أضرى المعارك التى خاضها المجاهدين ضد المستعمر الإيطالى، فقد كان تولى الجنرال (جرازيانى) لمقاليد الأمور فى برقة، بداية النهاية بالنسبة للمجاهدين، إذ أتى جرازيانى بما لم يُعرف فى ذلك العصر من وحشية فاقت كل حد، وكان إغلاقه للحدود المصرية الليبية تماماً ومنعه وصول أية إمداد للمجاهدين، إضافة إلى نصبه المشانق وبناءه المعتقلات فى كل إرجاء البلاد، ناهيك عن إنشائه للمحاكم المتنقلة، التى كانت تصدر أحكاماً فورية بالإعدام على أى مشتبه فيه، كل ذلك جعل المجاهدين يستميتون فى القتال، إذ كان الموت فى ظل تلك الظروف بالنسبة لهم أمراً مُحققاً، فكان عليهم استنزاف العدو قدر المستطاع.
دخل المجاهدون فى مواجهات عديدة مع العدو خلال شهرى يناير وفبراير فى منطقة (فزان) وفى 26 أغسطس 1930م قذفت الطائرات الإيطالية بآلاف القنابل على منطقة (الجوف والتاج). وفى نوفمبر من نفس العام تحالف كل من بادوليو وجرازيانى لخوض هجوم كبير على مناطق المجاهدين، سقطت على إثره (الكفرة) فى يناير 1931م، الأمر الذى عُد ضربة قاسمة للمجاهدين، فى 11 سبتمبر من عام 1931م، فى وادى (بوطاقة) أحاطت فرقة من الإيطاليين بعمر المختار وجوقة من مجاهديه، وأصابوا فرسه الذى سقط على جسد هذا الشيخ الكبير، فشلت حركته، وقبض عليه، وسرعان ما تعرفوا على شخصيته، فنقل على الفور بواسطة طراد بحرى وسط حراسة مشددة إلى بنغازى حيث أودع السجن.
أذهل نبأ اعتقال عمر المختار جرازيانى الذى كان آنذاك فى إجازة فى روما، فاستقل طائرة خاصة، ليصل إلى بنى غازى فى 14 سبتمبر، ليُعلن عن انعقاد "محكمة خاصة" لمحاكمة عمر المختار فى 15 سبتمبر 1931م, صباح يوم المحاكمة استدعى جرازيانى عمر المختار, وعن تلك المقابلة يقول جرازيانى في كتابه (برقة المهدأة) "وعندما حضر أمام مكتبى خيل لى أنى سأرى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيت بهم أثناء قيامى بالحروب الصحراوية، كانت يداه مُكبلتان بالسلاسل, رغم الكسور والجروح التى أصيب بها أثناء المعركة, وكان وجهه مضغوطاً لأنه كان مُغطياً رأسه، يجر نفسه بصعوبة لما لاقاه من تعب أثناء السفر بالبحر, وبالإجمال كان الذى يقف أمامى رجل ليس كالرجال، له هيبته رغم شعوره بمرارة الأسر, ها هو واقف أمام مكتبى أسئله فيجيب بصوت هادئ وواضح". انعقدت المحكمة الخاصة مساء يوم الثلاثاء 15 سبتمبر1931م، لتصدر حكمها عقب محاكمة صورية بالإعدام شنقاً حتى الموت، على شيخ المجاهدين عمر المختار، الذى استرجع قائلاً: "إن الحكم إلا لله … لا حكمكم المزيف ... إنا لله وإنا إليه لراجعون".
أشرقت شمس يوم 16 سبتمبر 1931م لآخر مرة على وجه هذا البطل العربى الكبير، وفى ساحة أعدت لتنفيذ الحكم بات حبل المشنقة المتدلى يسبح لله ناطقاً بلسان حاله أن الحمد لله على نيل شرف ملامسة العنق الطاهر لشيخ المجاهدين، شق عمر المختار صفوف الآلاف المحتشدة فى الساحة لتوديعه، وصعد فى تؤدة إلى المنصة وتشهد فرحاً بما أنعم الله عليه من نعمة الشهادة، بعد أن القى على الحاضرين نسمات ابتسامته فرحاً بلقاء ربه. هكذا سطر عمر المختار بأحرف من نور صفحات مشرقة فى تاريخ البشر، بما آمن به من مبادئ سعى لتحقيقها حتى الموت.

إعداد/ حسن البدوى

باحث فى التاريخ الحديث والمعاصر