السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ,,

بسم الله والحمدلله والصلاة والسلام على خير البرية وعلى اله سادتنا الطاهرين المطهرين
وعلى صحابته الغر الميامين ...

ثم اما بعد ,

اردت ان انشر لكم هنا هذا الكتاب كمصافحة اولى لكم وكهدية لمن احب مجالستهم
التاريخ واهل التاريخ

وارجو ان اوفق في هذا النقل وان لا اسيء استخدام المنتدى ,,


ومع الكتاب


كتاب تاريخ مكة المكرمة منذ تاسيسها وحتى عام 1925 م تأليف: جيرالد دي غوري




مقدمة المؤلف:
ما زالت مكة مدينة محرمة على غير المسلمين، وربما لا يرغب المسؤولون المسلمون في هذه الأيام([1]) إهراق الدم فيها. غير أن مئات آلاف الحجاج الذين يتوافدون على هذه المدينة المقدسة لدى المسلين كافة، قد لا يترددون في قتال أي شخص غير مسلم إذا جرؤ على دخولها. ومع ذلك استطاع عدد قليل من المسيحيين دخول مكة متنكرين كحجاج وكتبوا عن انطباعاتهم. وهنا تكمن الصعوبة في الكتابة عن مدينة لم تزرها بنفسك.
لقد استعنت بالكثيرين في تأليف هذا الكتاب ومن مفاجآت الصدف أنني استعنت فيما يتعلق بتاريخ مكة في العصور الوسيطة بكتاب مخطوط وفي غاية الأهمية استعرته بعد إلحاح شديد من وجيه مسيحي في بغداد يدعى (يعقوب سركيس) كما استعنت بمؤلفات الحسيني وابن زيني دحلان الذي شغل منصب مفتي مكة لبعض الوقت. وقد اعتاد المؤرخون العرب على تسجيل التاريخ والأحداث بشكل متسلسل حسب السنوات وغالباً ما يسردون الأحداث ويضعون السنة الهجرية التي حدثت فيها تلك الأحداث في هامش الصفحة.
ولا بد من تسجيل العرفان للسيد رؤوف الجادرجي الذي وضع تحت تصرفي مكتبته الخاصة الحاشدة بالكثير من الكتب والمؤلفات والمخطوطات التاريخية التي لا تقدر بثمن كما قدم لي عوناً كبيراً في ترجمة وتوضيح العبارات والمصطلحات التركية والتاريخ العسكري التركي في الجزيرة العربية.
وأشكر كذلك السيد حسين تيمور من السفارة البريطانية في بغداد الذي ترجم لي عدة صفحات من المؤلفات التاريخية العربية في جو بغداد الحارق.
وأخصّ بالشكر العميق كلاً من الأمير الشريف عبد المجيد علي حيدر بن جابر بن عبد المطلب آل غالب ذوي زيد والشريف محي الدين والشريف محمد أمين أبناء شريف مكة علي حيدر جابر عبد المطلب (ذوي زيد) والشريف حازم بن سليم باشا الذين لم يبخلوا علي بالمراجع والوثائق التي يمتلكونها كما أنهم أوضحوا لي الكثير من الأمور وكنت أتردد عل منازلهم في بغداد كما دعت الحاجة للاستئناس برأيهم.
وقد تفضَّل عدد من المسؤولين والمدنيين الأتراك والإنكليز –مشكورين- بتقديم مساعدات قيمة فيما يتعلق بالمراجع في كل من أنقرة واستانبول وخاصة الوثائق العثمانية في أثناء إقامتي في تركيا.
كذلك قام مدير الجمعية الفلكية البريطانية مشكوراً بمقارنة تواريخ الظواهر الفلكية التي تحدث عنها الحسيني في كتاب (تنضيد العقود) بالظواهر التي حدثت في بريطانيا وأثبت صحة ودقة ما سجله الحسيني. ولا يسعني إلا أن أتقدم بالشكر العميق للوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله بن علي الذي سمح لي بالإقامة في قصر والده المرحوم الملك علي في أثناء عملي في جمع المصادر والمراجع لتأليف هذا الكتاب.
جيرالد دي غوري
بغداد –
--------------------

الفصــل الأول: تأسيـس مكـة

الجزيرة العربية شاسعة المساحة والأرجاء وباستثناء الزاوية الجنوبية الغربية الخصبة بسبب الأمطار الموسمية، والسهول التي تنمو فيها الأشواك المختلفة وبعض الأعشاب فإن الجزيرة العربية ما زالت جرداء. وعلى طول حدودها الغربية المواجهة للبحر الأحمر تمتد سلسلة من الجبال البركانية التي تنحدر بالتدريج نحو البحر. أما في الشرق فثمة بعض السهول التي لا يصلح معظمها للزراعة ثم تليها الصحراء على مد البصر. وفي هكذا أرض لم يكن ثمة من يفكر بالمغامرة إلا الرجال الأشداء الذين كانوا ينطلقون من الجنوب باتجاه الشمال بحثاً عن الكلأ والماء لقطعانهم من الجمال، ولذلك كانت الجزيرة العربية منذ أقدم العصور أرض الأساطير والرعب أكثر من أي مكان آخر.
جاء في تاريخ الطبري (تاريخ الأمم والملوك) أن جبال الكاف تحيط بالعالم كالإطار ولونها زمردي، وأن اللون الأزرق الذي نشاهده في السماء هو انعكاس لون الزمرد، وهناك مكانان مسكونان في كاف وهما سابوكا وجابولسا والساكنون فيهما لا يعرفون حتى اسم (آدم) ويعيشون عراة ويأكلون الأعشاب. ولا يريدون أطفالاً لأنهم جميعاً من الذكور. ويقول البعض: إنهم يعيشون حيث تغيب الشمس وإن الإسكندر المقدوني (ذو القرنين) كان يتعين عليه أن يواصل السير أكثر من شهرين في الظلال حتى يصل إلى تلك الأرض.
وثمة جبال وسط الجزيرة العربية اسمها جبال كاف. وربما نشأت قصة السكان الذكور عن روايات الرحالة قبل الإسلام حول عادة العرب آنذاك وأد الإناث عند ولادتهن، أو ربما نشأت القصة بسبب غياب معظم الذكور كهولاً وشباباً طيلة ستة أشهر وعلى نحو سنوي في الجزر المواجهة للساحل الجنوبي لحصاد شجر اللبان وتصديره إلى هياكل ومعابد الشرق.





كانت القوافل الكبيرة منذ أقدم العصور تنطلق من المناطق الغنية ببخور اللبان في الجنوب، نحو الشمال(1) ولم تقتصر تجارتهم على المر واللبان، بل كانوا يتاجرون أيضاً بالحجارة الكريمة والقرفة والبهارات والسلع الكمالية من الهند والعبيد من الحبشة وكل ما يمكن أن يثير اهتمام الشعوب الغربية. وقد ازدهرت في جنوب الجزيرة بعض المدن التي بنيت فيها الهياكل مثل (شبوة) كما بنيت هياكل أخرى لآلهة الشمس في الجزيرة (سو قطرى) في المحيط الهندي قبالة القرن الإفريقي (وهي تابعة الآن للجمهورية اليمنية).

كانت المناطق الجنوبية والجنوبية الغربية من الجزيرة العربية بمثابة المحطة الرئيسية التي تصل بين الشرق وبين أسواق الغرب وهذا ما جعلها تزدهر باطراد وهو ما أدى إلى ظهور الممالك. وكانت قوافل الجنوبيين تضطر لاجتياز الوديان والسهول على طول ساحل البحر الأحمر وتعبر في طريقها الطويلة والشاقة جبال الحجاز.
وإذا امتطى الرجل جملاً عربياً أصيلاً وسريعاً فإنه لا يستطيع الوصول من عدن المطلة على المحيط الهندي إلى غزة المطلة على البحر الأبيض المتوسط في أقل من شهر، وهذا يعني أن القوافل التي تتحرك ببطء كانت تستغرق في نفس الرحلة زهاء ثلاثة أشهر، إذ لا بد من التوقف في محطات معينة للراحة وتغيير الجمال المرهقة بأخرى وإعادة تحميل البضائع. ويبلغ ارتفاع السلاسل الجبلية من الشمال وحتى الجنوب أكثر من عشرة آلاف قدم. أما في المنطقة الوسطى فلا يزيد ارتفاعها عن ثلاثة آلاف قدم فوق سطح البحر، وإلى الشرق منها ثمة سهول ومراع صالحة لحياة البداوة.
وهذه المنطقة المتوسطة قريبة من مضارب القبائل العربية التي كانت تزود قوافل التجار بالأدلاء (مفردها دليل وهو الذي يعرف مسالك الطرق في الصحارى والسهوب) من جهة والجمال النشيطة من جهة أخرى، وإذا كان هذا القرب مفيداً للقوافل العابرة فقد كان يثير الذعر في أصحابها لما عرف عن البلاد من الضراوة وشظف العيش، ولم يكن ثمة وسيلة لتجنب نهب القوافل إلا بعقد اتفاقات بين التجار وشيوخ القبائل يدفع بموجبها التجار أتاوة معينة… وفي منخفض من هذه المنطقة الجبلية ذات الطبيعة القاسية يقع الحجاز الأوسط. وعلى مسيرة عدة أيام باتجاه الشمال تنحرف الطريق الجبلية نحو البحر حيث لا ترى سوى تلال متجهمة كابوسية المنظر، وأخاديد ممتدة كالمتاهات. وفي أرض واطئة منبسطة تحيط بها الجبال تقع مدينة مكة (المكرمة). والطقس في مكة دافئ حتى في الشتاء أما في الصيف فإن العرب أنفسهم لا يطيقون حرارته.
وإلى الشمال والشرق من الحجاز تمتد أراضي الحماد وبعض المراعي التي تعيش فيها القبائل التي اعتادت على الغزو والسلب. والطقس في هذه السهول جاف وحار، وفيها بعض الينابيع والآبار. أما البحر في محاذاة الشاطئ فينطوي على أخطار لكثرة الصخور المرجانية الضحلة، أما الإبحار في البحر فلم يفكر فيه أحد وذلك خشية الرياح القوية التي تهب أحياناً وتقلب الزوارق والسفن الضعيفة.

هناك بالطبع سهل ساحلي لكن رماله ناعمة وشديدة الملوحة تغرز فيها الجمال… وإذا اختار التاجر الطريق الساحلي فستتأخر قافلته كثيراً وربما تنفق بعض الجمال دون أن يستطيع تعويضها. ولعل هذا ما يفسر السبب في اختيار القوافل للطريق الذي يتوسط الساحل والسهل، أي الطريق شبه الجبلي.

إن بلاد الحجاز هذه جزء من التشكيلات العجيبة لسطح الكرة الأرضية، إنها أرض جرداء تتخللها بعض الينابيع الصغيرة التي تحيط بها أشجار النخيل حيث يستطيع الإنسان الاستقرار. وكل خمسين ميلاً تقريباً سواء في الوديان أو السهل تشاهد دوائر ومرتفعات من الحمم البركانية الناشئة عن براكين قديمة خمدت، وتشاهد صخوراً بازلتية من مختلف الأحجام سواء في السهل أو في سفوح التلال، سوداء كالحديد وكانت هذه الصخور البازلتية تثير ذعر العرب في الماضي لأن البراكين كانت ما تزال ناشطة آنذاك.

ونتيجة للتبادل المناخي الذي يحدث بين الطقس الجاف والحار وسط الجزيرة العربية والهواء المشبع بالرطوبة من الحجاز تتألف عواصف كهربائية (صواعق) وتشتعل السماء بالبروق يوماً بعد يوم وليلة بعد أخرى دون توقف طيلة ساعات. وفي فصل الشتاء تظهر الغيوم أحياناً فوق المناطق نادرة المطر فتهطل أمطار غزيرة عبر الأخاديد والوديان وتتشكل السيول الضخمة التي تجرف في طريقها ما يعترضها من بشر أو حيوان أو حتى صخور عملاقة. ولا يوجد أي مكان آخر في العالم يشمل مثل هذا التناقض أو التباين المناخي اللهم باستثناء منطقة البحر الميت حيث تتكاثف الرطوبة في وادي الأردن لتلتقي مع الرياح الجافة فوق الجبال، لكن الحرارة في جنوب الأردن أقل بدرجات منها في الساحل الحجازي المرجاني.

وفي هكذا بلاد لا بد من أن يعاني الإنسان توتراً وحدة في الطبع سواء بسبب المناخ أو المناظر المتجهمة المحيطة به وبالتالي يسعى لاسترضاء عناصر الطبيعة والتكيف معها ثم يصبح عبداً لعدة آلهة وطقوس مختلفة. وقبل أن تصبح مكة مأهولة بالسكان ومحطة على طريق القوافل. كانت مثل شقيقتها مدينة الطائف على حافة الهضبة ملجأ آمناً وهيكلاً مقدساً.

ويقول المؤرخ العربي (الأزرقي): إن مكة بدأت كمكان مقدس. فذات يوم لاحظت قافلة تعود لقبيلة بني جرهم الجنوبية نبع ماء لم يسبق لأحد منهم أن شاهده في تلك المنطقة، فتوقفت القافلة وترجل رجلان عن راحلتيهما وانطلقا لاختبار الماء وتذوقه، فوجدا امرأة وطفلاً إلى جانبها. قالت المرأة: إن اسمها (هاجر) وإن النبع يعود لها ولطفلها… وسمحت هاجر للقبيلة بنصب الخيام والاستقرار في المنطقة، ومنذئذ بدأت قبيلة جرهم استغلال النبع(2) وأطلق على النبع اسم (زمزم) وما زال داخل الحرم المكي(3).

نشأ إسماعيل بن هاجر مع بني جرهم القبيلة العربية الجنوبية وتزوج فتاة جرهمية وكان يعيش على الصيد. ثم حضر إبراهيم (عليه السلام) من دمشق لزيارة زوجته وطفله لكنه وصل أثناء غياب إسماعيل في رحلة قنص. ولان زوجة إسماعيل لم تحسن استقباله فقد ترك له رسالة معها كان على ثقة بأنه سيفهمها وهي: "أن عارضة الباب لم تعجبه" وعاد إسماعيل وفهم الرسالة فاتخذ له زوجة أخرى من بني جرهم، وقد رضي إبراهيم عنها في زيارته الثانية. وفي زيارته الثالثة وجد ابنه إسماعيل(4) يبري ويسن السهام قرب بئر زمزم وقال له: إنه يتعين عليه أن يبني بيتاً لله حتى يكسب مرضاته، فاختار مرتفعاً من الأرض وبنيا عليه البيت. وقام (تُبَّع أسد الحميري) وهو شخصية تاريخية كان ملكاً على اليمن واعتنق شعبه اليهودية، بإحضار باب لبيت الله في مكة وأقفال لإغلاقه كما أن الملك جبريل أحضر الحجر الأسود له، وكان الحجر من جبل قُبيس الذي يشرف على مكة مباشرة، وكان فاتح اللون يتوهج آنذاك(5) (ولم يصبح أسود إلا بعد أن تسببت عجوز باندلاع حريق بعد أن قلبت مبخرة مشتعلة في أيام الجاهلية) ثم إن قبيلة قريش التي خلفت بني جرهم في مكة أعادت بناء البيت. وكان يغطى عادة بالجلود غير أن الحجاج الأثرياء فيما بعد كانوا يخلعون ملابسهم الحريرية في صباح يوم النحر ويقدمونها لحراس البيت حتى يصنعوا منها كسوة (غطاء) لها.

وحسب ما يقوله أبو الفداء كان ثمة تمثال لإبراهيم عليه السلام في مكة، وكان ثمة تماثيل ونصوص أخرى عن قصة إبراهيم (عليه السلام) في مكة، لكن ذلك التمثال كان الأهم بينها.

بينما يقول المقدسي: إن التماثيل كانت موجودة في الأيام المبكرة لبني جرهم في مكة، حيث اعتاد رجال القبائل والمسافرون شراء تلك التماثيل والطواف بها حول بيت الله ثم حملها إلى بلادهم كما أن بعضهم كان يأخذ قطعاً صغيرة من الحجر الأسود حجر بيت الله (الذي بناه إبراهيم) وكانوا يطوفون حول البيت بخشوع… وهكذا بدأوا يعبدون الحجارة بالتدريج. ويضيف المقدسي: "ثم نصبوا الأصنام وعبدوها".

وتوالت الأيام، وازداد تردد رجال القبائل والمسافرين العابرين والقوافل، على مكة حيث كانوا يجدون فيها أو يتركون فيها شيئاً من معتقداتهم وشعائرهم حتى أصبحت بمثابة معبد أو مجمع آلهة. كانت اليهودية منتشرة في اليمن وخاصة في نجران التي ما يزال فيها عدد من اليهود، وفي خيبر والمدينة في الحجاز إلى الشمال والجنوب من مكة على التوالي. واعتنقت عدة قبائل من ربيعة الديانة المسيحية وخاصة في شرقي الجزيرة العربية ودومة الجندل في الشمال ثم جاءت المسيحية أيضاً إلى اليمن من الحبشة عبر البحر الأحمر. لكن معظم القبائل وسكان الواحات في قلب الجزيرة العربية كانوا وثنيين يبجلون ويعبدون اله القمر (ود) أكثر من إله الشمس. وما زال بعض الأعراب حتى يومنا هذا(6) يعتقدون بأن القمر هو الذي ينظم حياتهم وأنه هو الذي يكثف بخار الماء ويحوله إلى مطر ويصفي الندى في المراعي، وأنه بالتعاون مع الثريا يجلب المطر. ومن ناحية أخرى يعتقدون بأن الشمس وهي آلهة أنثى معروفة في المستوطنات الزراعية تنزع إلى تدمير حياة البدو والحيوانات بلا استثناء وأنها قاسية وصارمة. وهكذا كانت قبيلة كنانة تعبد القمر و (الدبران) أما قبيلتا لخم وجرهم فعبدتا المريخ بينما عبدت بنو أسد عطارد، وعبدت القبائل الأخرى نجوماً أخرى. ومع ذلك كان معظم العرب يؤمنون بأن الموت لا ينهي كل شيء وقلائل منهم آمنوا بالبعث (القيامة) وأن الروح تغادر الجسد على شكل طائر أطلقوا عليه اسم (الهامة) أو (الصدى) وتزور قبر صاحبها وهي تتأرجح وتتشقلب وتطلق أصواتاً مروعة تخبر الميت بواسطتها بكل ما يفعله أولاده من بعده. لكن ثمة حقيقة مؤكدة وهي أن العرب منذ أقدم العصور كانوا يؤمنون بأن ثمة إلهاً واحداً مسيطراً ومهيمناً على العالم وأن ألهتهم الخاصة مجرد واسطة للشفاعة لهم عنده.

إن أحد أوائل الأوروبيين الذين وصفوا ساحل البحر الأحمر الشرقي وذكروا قدسية مكة هو ديودورس الصقلّي حيث يقول: "لا يوجد على هذا الساحل سوى موانئ قليلة بسبب الجبال الشاهقة الممتدة على طوله ذات الألوان الزاهية والمتنوعة التي تبهج أنظار المسافرين. وثمة نتوءات صخرية كثيرة داخل البحر. أما بعد هذا الشاطئ الجبلي فثمة بلدات وقرى يسكنها عرب يسمون الأنباط الذين يملكون أراضي شاسعة على طول الساحل الشمالي وفي عمق الأراضي إلى الشرق والشمال وهذه المنطقة مزدحمة بالسكان الذين يمتلكون قطعاناً وافرة من الماشية. وكان الأنباط يعيشون بسلام وسعادة وقانعين بما لديهم من مواش. لكن بعد أن سمح ملوك الإسكندرية للتجار بالإبحار في البحر الأحمر؛ فإنهم لم يكتفوا بسرقة الأنباط وحطام السفن على الساحل بل تحولوا إلى قراصنة أيضاً وصاروا يهاجمون السفن الأخرى المبحرة في هذا البحر… وفي وقت لاحق بنى الأنباط أسطولاً قوياً استطاع أن يدمر سفن القراصنة في البحر ويعاقبهم على الشرور التي ارتكبوها"(7).

ويضيف ديودوراس: "بعد اجتياز هذه المنطقة ثمة منطقة سهلية غنية بالمراعي تنتج الكثير من الأعشاب الطبية وأزهار الزنابق التي يبلغ طول النبتة منها قامة الرجل"(8).

ويصف ديودوراس بعد ذلك شعباً آخر يطلق عليه اسم (البيرومينيين) ويقول: "إن هذا الشعب يعيش على صيد الحيوانات المفترسة وثمة هيكل مقدس يحظى بإجلال كبير بين كافة العرب".

أما هيرودتس(9) فيقول: إن العرب يعبدون (أوروتال) وأليلات (لعلها اللات المترجم) وأن أوروتال هو باخوس(10) واليلات هي أورانيا. وأوروتال هو الله بينما اليلات (أو اللات) فمركزها في الطائف على حافة الهضبة ليس بعيداً عن مكة باتجاه الشرق. ويصف كيفية الارتباط بالقسم أو التوحيد بين عربيين وهي مراسم ما زالت قيد الممارسة في أوساط بعض القبائل(11) على النحو التالي:

"عندما يرغب رجلان أن يقسما على توثيق الصداقة بينهما يقفان إلى جانبي رجل ثالث يقوم باستعمال حجر حاد بجرح رسغيهما باتجاه باطن الكف ثم يأخذ قطعتين صغيرتين من ملابسهما ويغمسهما في دم كل منهما ويعلّم بالدم سبعة أحجار لا بد من وجودها قبل هذه المراسم ثم يدعو كلاً من باخوس وأورانيا".

ويضيف هيرودتس: "أن العرب يقدسون ويحافظون على هذه الشعائر أكثر من أي شعب آخر. وإذا مورست هذا الشعائر في مكة نفسها فإنها تصبح أشد إلزاماً".

هذه بعض اللمحات القليلة التي وردتنا عن مكة وعبادة العرب السخيفة في تلك الأيام. وكان بطليموس (الفلكي الإسكندراني) يسمي مكة (المكربة أو الماركورابا) وتعني (المكان المقدس) بلغة السبئيين (نسبة إلى سبأ) الذين سيطروا على جنوب الجزيرة العربية والتجارة العربية في الألف الأول قبل الميلاد.

وكان العرب يحجّون إليها كل عام في وقت معين وهو الخريف. وقد تمت اتفاقات متبادلة بين القبائل العربية بحظر القتال خلال فترة الحج. ولعل الأسماء العربية للأشهر المستعملة قبل الإسلام وما زالت، تثبت ذلك. إذ إن من بينها شهر (محرّم) الذي أتفق على حظر القتال فيه، وثمة نقطة جديرة بالملاحظة هنا وهي أن الأشهر العربية (القمرية) كانت تتسق مع أشهر النظام الشمسي لأن العرب اعتادوا على إضافة عدة أيام للسنة القمرية حتى تتطابق مع السنة الشمسية ثم جاء الإسلام ومنع إضافة أي يوم إلى السنة القمرية.

وعندما كان الحجاج يقتربون من بيت الله (أو الكعبة) في مكة، يخلعون ملابسهم كلها بلا استثناء ويسيرون عراة، إشارة إلى الرضوخ والذل بين يدي الله ويطوفون حول الكعبة ويقبلون الحجر الأسود ويسعون (هرولة) بين الصفا والمروة ويرجمون الحجارة قرب (مِنى) وبعد ذلك يضحّون بشاة تماماً كما يفعل الحجاج هذه الأيام.

وجاء الرسول العربي r وثبت هذه المناسك لكنه أمر بارتداء مئزر من الكتان، وذمّ عادة الوثنيين (في التصفيق بالأيدي والتصفير بواسطة وضع اصبعين أو أكثر بين الشفاه) وانتقد هذه العادات البالية واستعاض عنها بطريقة منتظمة للدعاء في أثناء الطواف (لبيك اللهم لبيك… لا شريك لك لبيك الخ). وحتى أيام الرسول كانت العادة شائعة في ذهاب الرجال عراة عند الفجر إلى الكعبة المغطاة بالجلد لممارسة شعائر طلب الغفران التي كانت تنتهي بنشوة من الابتهاج والسرور تحت شمس الظهيرة. وما زالت العادة شائعة حتى الآن بالدعاء لكل من يعلن عزمه على الحج: (غفر الله ذنوبك).

ومع أنه بشر بدين جديد، لكن الرسول محمداً r احتفظ بمناسك الحج بعد تعديلات طفيفة عليها كركن من أركان الإسلام الخمسة وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والصلاة والصيام والزكاة والحج. وجاء في القرآن الكريم: إن أول بيت وضع للناس للذي بمكة مباركاً وهدى للعالمين. فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين(12). وجاء في سورة التوبة الآية 28: "يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجسٌ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله" والسنة المذكورة هنا هي السنة الثامنة للهجرة. وتم بعد ذلك تحريم دخول غير المسلمين إلى مكة، وقبل ذلك كان باستطاعة أي إنسان مهما كان أصله أو دينه التردد على مكة كما يشاء باستثناء أن النساء في الجاهلية كن لا يترددن على الكعبة لعدم حاجتهن إلى أو ملاءمتهنّ لذلك، فالرجال الذين يغامرون ويذهبون في رحلات القنص أو قوافل التجارة يخطئون ويرتكبون الخطايا وبالتالي فهم أجدر بطلب الغفران. أي أن الحج في أيام الجاهلية كان شأنا يقتصر على الذكور.

ولم تكن المرأة آنذاك ترتبط بزوجها أو سيدها بموجب نظام الزواج الذي كان يسمى (زواج بعل) الذي شاع في الجزيرة العربية قبل وقت قصير فقط من الإسلام، وحتى إذا ارتبطت المرأة بزوجها أو سيدها فقد كان النظام القديم وهو أكثر حرية بالنسبة للمرأة وما زال قيد الممارسة. وكانت المرأة بموجب النظام القديم تظل في قبيلتها وتحتفظ بأطفالها الذين ينضمون إلى قبيلتها أي أن الزواج كان اتحاداً مؤقتاً تستطيع فسخه بمشيئتها متى أرادت. وعندما صدع محمد r بتعاليم الإسلام بدأت الزيجات المؤقتة تختفي بالتدريج وصار ينظر للمرأة التي تقبل الزواج المؤقت على أنها ساقطة ومع الزمن اختفت الزيجات المؤقتة إلا في القبائل الوضيعة. وكانت المرأة المكّية ذات الحسب والنسب تفتخر وتباهي بعذريتها أما القيود التي كانت تفرض على السبايا والجواري من قبل سيدهن فقد كانت الزوجة نفسها تقبلها كعلامة أو مؤشر على شرف وشأن ومكانة الزوج(13). ويعود هذا التحول بلا ريب إلى تأثير العادات والتقاليد التي دخلت إلى الجزيرة العربية من الشمال والعالم المحيط التي أصبحت معروفة للعالم عن طريق التجارة، بل إن عدداً من الغرباء استوطنوها. إن مقولة (الولد للفراش) التي ما زالت شائعة تعود إلى تلك الأيام القديمة أي إلى مرحلة الزيجات المؤقتة(14). وإن كان الزواج المؤقت ما زال شائعاً بين الشيعة العرب ومعظم الشيعة في العالم الإسلامي، ويعرف الزواج المؤقت (بزواج المتعة( ويجيز للرجل أن يتزوج إلى فترة مؤقتة وغالباً ما يمارسه الحجاج والبحارة وأصحاب القوافل وأي شخص لا يصحب معه زوجته في رحلاته الطويلة ومهما كانت نظرتنا اليوم إلى هذا النوع من عقود الزواج، فقد كان شائعاً طيلة قرون، وهو أصل نظام الفروسية والشهامة الذي ظهر في العالم العربي وأخذه الغرب عن العرب. أما الزواج بموجب نظام بعل (أي الزواج الدائم أو غير المؤقت بفترة زمنية على الأقل) الذي يعتبر الرجل سيداً فهو الذي أدى إلى ظهور نظام (الحريم) بالتدريج، وعندما ندرس (نظام الحريم) ينبغي أن نتذكره بأنه لم يظهر إلا بعد الأخذ بشكل أجنبي أو صيغة أجنبية من الزواج تبين في سياق الزمن حسب الظروف الموضوعية آنذاك أنه لا يشبع غريزة الرجل كما أنه أعجز عن تنشئة الأطفال وتربيتهم تربية كاملة. ومهما كان الأمر فقد كان نظام الزيجات المؤقتة الذي يسمح للمرأة في البقاء وسط عائلتها وقبيلتها هو الذي أوجد نظام الفروسية العربي، وكان الشعراء العرب قبل الإسلام يتغنون ويمتدحون الفرسان الرحالة الذين يجوبون الصحراء ومغامرات أولئك الفرسان. وقبل الإسلام وحتى في سنواته الأولى أي قبل شيوع نظام الحريم. ثمة قصص عن نساء جميلات وحكيمات اضطلعن بأدوار مهمة في الحياة بل إن بعضهن حكمن مدناً ودولاً.

إن الفزعة أو النخوة (بمعنى حماية الآخرين وتوفير الملاذ لهم) هي جوهر نظام الفروسية. وهكذا لم يقتصر السعي للأمان بالذهاب إلى مكة. طالما أن كل رجل يستطيع أن يتعهد لرجل آخر بالدفاع عنه عند الحاجة وهنا يصبح شرف الرجل المتعهد قيد الاختبار، إذ إن دفاعه عن الرجل الآخر وحمايته قد يكلفه حياته حتى ولو كان الرجل الآخر غريباً أو غير جدير بهذه الفزعة. وكل شيخ قبيلة يمنح حمايته لشخص أو عدة أشخاص (سواء كانت قضية الشخص أو الأشخاص عادلة أم غير عادلة) يتعين عليه الالتزام بتعهده الأخلاقي هذا ثلاثة أيام يبذل وسعه خلالها لمساعدة الشخص الذي لجأ إليه على الهرب دون أن يلحق به أذى.

وكان كل نبيل من نبلاء العرب يحافظ على خيمته الجلدية المستديرة ذات اللون الأحمر كرمز للفروسية. إنها الخيمة القبلية التقليدية لاستقبال كل من الضيوف واللاجئين (أو اللائذين بحمى شيخ القبيلة)(15).

ولعل الصندوق الذي اعتادت قبيلة (الرولة) على وضعه فوق جمل وقد استمروا في هذه العادة إلى عهد قريب هو تراث مباشر للملاجئ (أو الملاذات) القبلية وهي الخيام المستديرة الحمراء التي كانت شائعة في الصحراء العربية أيام الجاهلية وما زال عرب الرولة يعيشون في البادية السورية لكنهم تخلوا عن هذه العادة مؤخر(16). وكان نبلاء قبيلة قريش التي استولت على مكة من بني جرهم يعتزون ويتفخرون بمؤشرات الشرف والقدرة هذه وينصبونها إلى جانب خيامهم الخاصة كدلالة على قدرتهم إغاثة الملهوف وحماية الخائف.


هكذا كانت بعض عادات العرب القدماء الذين كان حجاجهم يسيرون حفاة باتجاه مكة فتمتلئ بهم الشعاب والوديان ويزداد عددهم من منطقة إلى أخرى ومن قبيلة إلى أخرى، حتى يصلوا إلى الكعبة على أمل غفران خطاياهم والاستمتاع بمناسك الطهارة والإحرام في الملاذ أو الملجأ الكبير وهو مكة. وكان العرب يهتمون كثيراً بهذا الاجتماع السنوي والقيام بشعائر استرضاء قوى الحياة بالطواف عراة أمام الآلهة، يقبلون الحجر الأسود وغطاء الكعبة الجلدي ويحرقون كميات من بخور اللبان ذي الرائحة الطيبة، ولأن أشكال الآلهة متعددة وأهميتها متراوحة فقد كان ثمة أشياء كافية لسرور ومرضاة الجميع.

كان موسم الحج عادة في الربيع كما سبق أن أسلفنا أي عندما كان البدو مضطرين لغرسال قوافلهم إلى الأسواق لشراء ما يلزم لهجرة الشتاء بحثاً عن المراعي وكان ثمة سوق يقعد على نحو سنوي (عكاظ) بين الطائف ومكة تشارك فيه كافة القبائل العربية، وعكاظ في الواقع واحة من النخيل. وكانوا في سوق عكاظ يلهون ويروحون عن أنفسهم قبل موسم الحج بإلقاء القصائد. بينما يأتي التجار ببضائعهم من الوديان والسهول المجاورة وخاصة وادي (المر) إلى الشمال من مكة الذي يعرف الآن باسم (وادي فاطمة)، ومن حقول الطائف نفسها ومن ميناء الشعيبة الذي أصبح اسمه ميناء جدة(17). ولا يوجد أي ذكر لوجود ملاذ أو ملجأ في عكاظ. وكل من يحاول البحث عن سبب آخر غير ما أوردته القصص العربية عن استخدام مكة كملجأ وملاذ ومكان مقدس فلن يعثر على شيء ذي أهمية.

وتنطوي الأساطير العربية على جزء كبير من الصدق وغن كانت مطلية ببعض المبالغات وذلك للتخلص مما قد لا يبدو مستساغاً أو مفهوماً للأجيال اللاحقة. فعندما بدأ تاريخ مكة كانت مجرد هيكل وثني وملجأ ولم يكن فيها مقيمون أو سكان على نحو دائم، بل كان الإنسان العربي يخشى أن يبني فيها بيتاً ويمتنع عن قطع الأشجار خشية الإضرار بقدسيتها ولاقتناعه بأن الآلهة ستعاقبه على ذلك.

وتبدأ المرحلة الثانية في مكة في القرن الخامس الميلادي حيث استوطنها تجار من جنوب الجزيرة، ومنذئذ بدأت تتوسع لتصبح مركزاً كبيراً وأهم مدينة تجارية في الجزيرة العربية. وبقيت كذلك حتى أيام الرسول العربي محمد (r) أي إلى أواسط القرن السابع الميلادي. وكانت قبل الإسلام قد حققت شهرة ونجاحاً تجارياً زهاء قرنين. وكانت تلك السنوات هي الأخيرة التي تنقل فيها القوافل العربية إلى الغرب ثروات الشرق… السنوات الأخيرة التي كان تجار وأمراء الإمبراطورية البيزنطية ينتظرون تلك الثروات كما كان الشأن مع سابقيهم في روما أو بلاد الإغريق أو مصر القديمة أو بابل.


وفي هذه المرحلة الأخيرة كان تجار عدن وجنوب الجزيرة يضطرون للانتقال إلى مكة نتيجة فقدانهم لاحتكار وسطائهم في التجارة مع الهند والكساد الذي تعرضت له تجارة بخور اللبان وتردد أو عزوف الغرب عن التجارة مع بلاد لا تستورد منه مقابل تصديرها له. لكن الغربي على أي حال كان ما يزال بحاجة إلى الذهب العربي والجلود العربية لتحويلها إلى معاطف للمحاربين وسروج وتجهيزات للخيل وكان الغرب كذلك بحاجة إلى الجمال التي نقلها المسؤولون عن تموين الجيوش البيزنطية والرومانية قبلهم إلى شمال إفريقيا. وهكذا أصبح الحجاز بحاجة إلى إعادة تنظيم وبسرعة، خاصة أن الحبشة (أي مملكة أكسوم) بدأت تسير السفن التجارية في البحر الأحمر. وسواء أدرك المستوطنون الجدد في مكة أو لم يدركوا الوضع المتردي الذي ينتظرهم في ظل تلك الظروف غير المواتية، فقد بدأوا في تنظيم وتسيير قوافلهم بمهارة فائقة. وكان أكثر ما يخشاه أصحاب القوافل مخاطر الطريق، ولذلك كانوا ينيطون مهمة قيادة القوافل برجال أشداء لهم أقارب بين البدو وعلاقات قوية مع شيوخ القبائل. وكان أولئك الرجال في ضمانتهم لمرور القوافل بشكل آمن يتصرفون أو يمثلون إلى درجة ما شركات التأمين الراهنة. أما حلفاؤهم من البدو وأقاربهم في الطريق التي تسلكها القافلة فقد كانوا يمثلون ما يعرف الآن بإعادة التأمين (أو تأمين التأمين)… كان أقارب القوافل يفقدون شرفهم إذا ما تعرضت القوافل لأي اعتداء.

وفي تلك الأثناء استخدم التجار حراساً من الأحباش لحماية قوافلهم، كما استخدم التجار في مكة وخاصة في حي البطحة أحباشاً سود البشرة كحراس وخدام وأصبح الحراس الأحباش مثل الحراس السويسريين في فجر العصر الحديث (والمعروف أن الحرس البابوي في الفاتيكان ما زال حتى يومنا هذا من السويسريين الجبلين الذين اشتهروا بالبسالة والإقدام – المترجم -) ووصف الشعراء العرب الحراس والخدام الأحباش بأنهم (غرباء العرب) (وأن الواحد منهم منتصب كالرمح الثابت في اليد) ووصفهم عربي بقوله: "هذه الآلاف من الجنود السود كالرعد في السماء… إن صيحاتهم الحربية وحدها تصم آذان الخيول وتوقف زحف العدو" وقال آخر في معرض ذمه لتجار مكة: (إنكم ترسلون الزنوج ذوي الأكتاف العريضة للقتال بدل أن تقاتلوا بأنفسكم) لكن الزنوج يختلفون عن الأحباش لأنهم من العبيد الإفريقيين الذين تم نقلهم إلى مكة عن طريق الحبشة أرض العاج والعبيد(18).

كانت أرباح البضائع التي يحددها مصرفيو القوافل تبلغ (100) بالمئة، لكن لأن القافلة قد تتأخر بضعة أشهر ولأنهم أحياناً يتعرضون لخسارة كاملة فلم تكن الأسعار باهظة كما تبدو لأول وهلة. ولمقتضيات الأمان لم يكن ثمة من يحمل معه مبالغ طائلة ومن هنا نشأت الضرورة لوجود مصرفيين في محطتي أو مركزي بداية ووصول القافلة، ولذلك كان كل مصرفي مكي (مكاوي) له شريك في المحطات والمراكز الصحراوية، بل إن بعضهم استخدم سكرتارية (مساعدين) ووكلاء أجانب من الإغريق والسوريين مثل شريك ووكيل أشهر مصرفي في مكة وهو (ابن جدعان) وما زال حتى يومنا عدد من اليونانيين يعملون في موانئ البحر الأحمر… وكان ثمة مستعمرات في مكة تسكنها أقليات من كافة الأقطار المجاورة… يهود ومسيحيون يدخلون إلى مكة ويخرجون منها بكل حرية.

في الصيف تنطلق القوافل إلى سورية وفي الشتاء إلى اليمن. ومن الصعب الآن أن نتخيّل مدى اهتمام الغرب وانبهاره بالجزيرة العربية ومنتجاتها، كانوا ينتظرون بصبر نافذ الشحنات السنوية من غبار الذهب (لعله يريد التِّبْر) ع وأنواع العطور والبخور واللبان والعبيد الزنوج والجلود والعاج والتين الشوكي المجفف وغير ذلك.

وفي تدمر أقيمت التماثيل عرفاناً وإعجاباً ببعض قادة القوافل العربية، وعندما كانت القافلة تقترب من محطتها الأخيرة كان قائدها يرسل أمامه مبعوثاً إلى المدينة فيستقبله السكان بقرع الطبول ويحتفلون به. وكان اختيار المبعوث الذي يبشر بوصول قافلة سالمة من الجزيرة العربية يعني اختياره مدى الحياة أي امتهانه هذه المهنة مدى الحياة.

أما إذا كانت الأخبار غير سارة فعلى العكس من ذلك، ففي محاولة من البعوث لتدارك العقوبة كان يقطع أذني بعيره لينزف الدم منها ثم يشق ملابسه من الأمام والخلف ويقلب سرجه. وعند اجتيازه طرقات ودروب المدينة يكرر الصراخ بأنه فقد كل شيء. بمعنى أن القافلة تعرضت للسلب. وكان التجار الحكماء الذين يملكون مخزوناً من البضائع المخبأة سيربحون بلا ريب ويستطيعون احتساب أرباحهم والبهجة تملأ قلوبهم مع ارتفاع الأسعار.

كان سترابو مؤرخ الحملة الرومانية الاستكشافية في جنوب الجزيرة العربية عام 24 ق.م قد شاهد قافلة مكية لدى وصولها إلى البتراء وقارنها بالجيش لضخامتها. ويتحدث المؤرخ الطبري عن قوافل كانت تضم أكثر من ألفي جمل، وكانت القوافل في تلك الأزمنة تدخل الأراضي البيزنطية عن طريق ميناء أيلات (أيلة)(19) على خليج العقبة حيث كانت تقيم فيه مفرزة من الجيش الروماني العاشر في أثناء الاحتلال الروماني لمنطقة الأنباط العربية منذ عام 105م. ثم أصبحت أيلات بعد ذلك مدينة حدودية بيزنطية ذات أهمية وفيها أسقفية، وكان رعايا الأسقف يقيمون في مناطق تبعد عن إيلات. وثمة صوامع وأبرشيات في وادي القرى الذي كانت تجتازه القوافل العربية وقد اشتهر المقيمون في تلك الأديرة والصوامع بترحيبهم واستضافتهم للعابرين، سواء كانوا بدواً أو تجاراً، إذ يقدمون لهم الماء من أبارهم بالإضافة إلى النبيذ، كما كانت أضواء الفوانيس الباهتة المنبعثة من نوافذ الصوامع والأديرة بمثابة دليل للقوافل فضلاً عن كونها عامل تشجيع وأنس من وحشة الطريق.

وبالقرب من أيلات (العقبة) أو البتراء نفسها سابقاً، تنقسم القوافل، فالقوافل المتجهة إلى غزة تتجه إلى الغرب والقوافل المتجهة إلى دمشق تواصل طريقها نحو الشمال باتجاه بصرى والمزيريب في حوران. وفي غزة ودمشق تبرك الجمال لإنزال الأحمال عن ظهورها وهي تشخر معبرة عن استيائها لأنها تكون عند ذلك قد بركت في فترات متقطعة زهاء خمسين أو ستين مرة منذ انطلاقها من مكة، ولم تتقل خلال ذلك ما يكفيها من طعام، كما لم يسمح لها بالرعي فضلاً عن الأحمال التي تنتظرها لتعود بها إلى مكة وغالباً ما تكون: زيت الزيتون والحبوب والنبيذ، والأسلحة والدروع، وبعد أيام يكون الحراس الأحباش والعبيد والزنوج والمرتزقة والتجار المغامرون والكتبة اليونانيون والأدلاء البدو بملامحهم الصارمة ووجوههم السمراء وحتى الجمال، يكونون على استعداد لرحلة العودة إلى الأرض الموحشة والمقفرة التي تثير الخيال، وتنطلق القافلة في اليوم مدة ساعتين على الأكثر لتتوقف وذلك حتى يلحق بها من تأخر لبعض أشغاله أو حتى يعود رجال القافلة لاسترداد الأشياء التي نسوها. وكانت القافلة تنطلق ليلاً والقمر بدر حتى يعرف المسافرون والحراس بعضهم بعضاً ويعرف الجنود وحداتهم ويستطيع المسؤولون إعادة حزم الأحمال وتثبيتها فيما إذا انزلقت عن ظهور الجمال وعندما تتوقف القافلة بعد ساعتين من السير في اليوم الأول تكون قد ابتعدت عن المدينة فيعاد تنظيمها بحيث أن الجمال التي تعود لكل تاجر تصطف خلف بعضها ويعاد ترتيب وتوزيع الحراس حول القافلة وفي مقدمتها على أفضل وجه. وبعد التأكد من الجاهزية وعودة المتأخرين يعطي قائد القافلة إشارة معينة تنتقل من حارس إلى حارس فتنصب الجمال على أقدامها وتنطلق في طريقها الطويل. هكذا كانت الأمور منذ أقدم العصور واستمرت كذلك سواء في قوافل الحجيج أو قوافل التجار واستمرت كذلك حتى أواخر القرن التاسع عشر ليس في الصحراء العربية فقط بل والصحاري الأخرى في العالم أيضاً.

وفي مكة كان الصيارفة الانتهازيون ينتظرون. فقد نشأت في مكة أحياء أجنبية خاصة باليهود والمسيحيين والوثنيين الذين كانوا أحراراً في التردد على مكة والإقامة فيها. ومن مجرد قرية صغيرة يتوسطها الحرم (الكعبة) توسعت مكة وأصبحت مدينة كبرى وبالإضافة إلى نبل وأصالة القبيلة الحاكمة فقد نشأت في أوساطها نبالة تجارية أيضاً فضلاً عن وظائفها الوراثية في خدمة بيت الله.

كان ثمة مجلس منتخب من نبلاء قريش يصدر القوانين ويحل المنازعات، لكن بسبب الغيرة كانوا يراقبون بعضهم بعضاً، غير أن طبيعة حياتهم فرضت المفاهيم الديمقراطية عليهم وعلى أجدادهم من قبلهم وذلك في سبيل البقاء. ولذلك تحلّوا بكرم الضيافة وكانوا يتقاسمون على نحو عادل فيما بينهم إكرام واستضافة العابرين، ويؤمنون بحق كل إنسان بالماء وبالطعام إذا جاع، والأهم من ذلك خدمة البيت، وهذه المهمة أو الوظيفة تأصلت فيهم مثل سلوكهم ومواقفهم المباشرة والمستقيمة وعنايتهم بالشعر، من طبيعة حياة الصحراء ومن الهامش الضيق بينهم وبين الموت وقد أوصلوا خدمة البيت منذ فترة طويلة قبل الإسلام. وكان انتهاء تلك القواعد القديمة يعني انتهاك قوانين وقواعد الطبيعة ذاتها.

والتاريخ العربي حافل بالأمثلة عن التواضع، تواضع المكيين حتى بعد أن حكموا ربع العالم المتمدن، كان الواحد منهم لا يجد غضاضة إذا امتطى دليله حصانه أو حتى إذا امتطى عبده حصانه… وقصة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي أتى من الصحراء لاستلام مدينة القدس معروفة حيث كان يتبادل ركوب الجمل مع دليله.

وكان الخلفاء الأوائل يستقبلون سفراء الدول الكبرى آنذاك بملابسهم البسيطة، ويجلسون على الأرض بكل بساطة ويدعون بعضهم بعضاً للصلاة بالأسماء وبيوتهم بسيطة تخلو من أي ديكور أو زينة، وبهذا الأسلوب من الحياة قضوا على الحسد لأنهم كانوا متساوين تقريباً سواء من حيث المظهر والملابس أو البيوت والمنازل. هذه هي التقاليد الديمقراطية التي كانت شائعة بين رجالات قريش المسؤولين عن خدمة بيت الله في مكة. وهي نفس تقاليد الخلفاء الأوائل في المدينة. تواضع يتجدد كل عام في الحج عند الوقوف خشوعاً بين يدي الله.

لكن الخلفاء اللاحقين ابتعدوا عن هذه البساطة وهذا التواضع وتميزوا عن أتباعهم (مواطنيهم) فحدث الانشقاق والانقسام في الإسلام وظهر الخوارج وبعدهم الشيعة وعانى الإسلام كثيراً من هذه الإنشقاقات طيلة قرون. لقد كان الأمويون الذين يتحدثون من أصلاب المصرفيين المكيين والذين خدموا كقادة عسكريين في الجيوش الإسلامية في سورية هم أول من وجه ضربة للبساطة والتواضع العربيين، لكن الزعماء الروحيين أحفاد سدنة الكعبة هم الذين انتصروا في النهاية.

إن واحداً لا يدعيّ هذه الأيام بأنه من أحفاد المصرفي المكي (أبو سفيان) أو أحفاده الملوك الأمويين الذين حكموا دمشق والأندلس كما أن واحداً لا يعرف أين اختفت هذه السلالة. وعلى العكس من ذلك فإن أحفاد سدنة الكعبة وهم أحفاد الرسول محمد (r ) من ابنته فاطمة التي أنجبت الحسن والحسين ما زالوا يحكمون أراضي عربية(20).

* * *

أمراء بني جرهم في مكة

1-جرهم بن جهل 74 ق.م – 44 ق.م

2-عبد ياليل بن جرهم 44 ق.م – 14 ق.م

3-جرهم بن عبد ياليل 14 ق.م – 16 م

4-عبد المدان بن جرهم 16 م – 46 م

5-بكيل بن عبد المدان 46 م – 76 م

6-عبد المسيح بن بكيل

ويعتقد أن اسمه عمرو (وعبد المسيح لقبه) – التاريخ غير مؤكد

7-مضاض الأكبر بن عمرو عبد المسيح 106 م – 136 م

8-عمرو بن مضاض 136 م – 170 م

9-الحارث بن مضاض

10-عمرو بن الحارث(21)

11-بشر بن الحارث

12-مضاض الأصغر بن عمرو بن مضاض 170 م – 206 م



وفي عام 207 منيت جرهم بالهزيمة فارتحلت عن مكة (أما مصدر المعلومات التي أوردناها هنا فهو: أ.ب. كوسين دي بيرسيفال: مقالات في التاريخ العربي الجزء الثالث صفحة 95 وكذلك كتاب ابن خلدون الشهير (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والبربر).

وقبل اختتام الفصل الأول لا بد من تثبيت قصة لم يذكرها مؤلف هذا الكتاب سواء لأهميتها أو طرافتها. فبعد أن انطلق عمرو بن الحارث بن مضّاض الجرهمي بمن معه من جرهم إلى اليمن، حزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزناً شديداً، وبعد أعوام نزل عمرو بن الحارث في أرض الحجاز فضلت له إبل، فبغاها حتى أتى الحرم وأراد دخوله حتى يأخذ إبله. فنادى عمرو بن لحي (زعيم مكة بعد خروج جرهم) "من وجد جرهمياً ولم يقتله قطعت يده" فسمع ذلك عمرو بن الحارث فغادر مكة متخفياً وأشرف على جبل من جبال مكة حيث رأى إبله تنحر ويوزع لحمها فانصرف يائساً خائفاً ذليلاً وأبعد في الأرض وبغربته يضرب المثل
راجع الموقع الرئيسي لهذا النقل


alal-bayt.com - alal-bayt Resources and Information. This ***site is for sale!


(1) سفر الخروج 37 – 25: "ونظروا وإذا قافلة إسماعيلية مقبلة من جلعاد وجمالهم حاملة كثيراء وبلساناً ولاذناً ذاهبين بها إلى مصر".
(2) انظر القائمة في نهاية هذا الفصل عن أمراء بني جرهم في مكة وقد بدأت إماراتهم بعد فترة طويلة من أيام إبراهيم (عليه السلام) التي يقدرها السيد ليونارد دولي بأنها تعود إلى ألفي سنة ق.م.
(3) يقول الجغرافي العربي (المقدسي) الذي عاش في القرن العاشر: إنه تذوق ماء زمزم في زيارته إلى مكة فوجده غير مستساغ، لكنه في زيارته الثانية وجد مذاقه ممتازاً. أما الرحالة الذين زاروا مكة بعد المقدسي فتختلف أراء بعضهم عن بعض. فقد كتب علي بك العباسي عن ماء زمزم: "رغم عمق البئر وحرارة الطقس لكنه أشد سخونة من الهواء بل إنه يشبه الماء الدافئ وهو ما يوحي بوجود سبب ما لهذه السخونة في قاع البئر" ويباع الماء للحجاج في أوان خاصة حتى يعودوا به إلى بلادهم أي أنه مثل مياه نهر الأردن بالنسبة للمسيحيين. وزمزم باللغة العربية تعني نوعاً من الأصوات.
(4) ويقول العرب: إن إسماعيل كان أول رجل يروض الخيول البرية.
(5) يعتقد العلماء أن الحجر الأسود من أصل نيزكي (أي أنه جزء من شهاب).
(6) تجدر الإشارة هنا بأن المؤلف يتحدث عن فترة الثلاثينيات من هذا القرن حيث كان الجهل منتشراً على نطاق واسع في الجزيرة العربية.
(7) المكتبة التاريخية لديودوراس الصقلي، الكتاب الثالث الفصل (31) وكان ديودوراس قد توفي عام 57م.
(8) ما زال رجال قبيلة حرب الذين يقطنون حتى يومنا في هذه المنطقة يعرفون بالاسم الذي أطلق عليهم جيرانهم الشماليون وهو (آكلوا الصمغ) لأنهم يعلكون صمغ الشجر ويطعمون جمالهم من أوراق الزنابق التي يؤمنون بأن لها خواص علاجية.
(9) تاريخ هيرودتس، الكتاب الثالث الفصل (8) إصدار رولينسون.
(10) تنمو الكرمة بوفرة في الطائف وما جاورها وكانت الخمر وخاصة النبيذ تصنع هناك في أوائل القرن التاسع عشر. أنظر: ج. ل. بيركهارت وغيره.
(11) نعيد التذكير بأن المؤلف يتحدث عن مرحلة ثلاثينات هذا القرن لكننا مع ذلك نشكك في كلام.
(12) آل عمران الآيات (95، 96)
(13) ل. دي أوليري (الجزيرة العربية قبل محمد) ص 191.
(14) يخطئ المؤلف هنا لأن المقولة مبتسرة وأصلها (الولد للفراش وللعاهر الحجر) وهي من المبادئ الفقهية التي تدين الزواج المؤقت وتعتبره بمثابة السفاح.
(15) هـ لايمنز (التقاليد في مكة)
(16) يعتقد البروفيسور فيليب حتى في كتابه (تاريخ العرب) أن اصل عادة صندوق قبيلة الرولة ليس له علاقة بخيم الجلد الحمراء التي كانت شائعة في أيام الجاهلية.
(17) كان الخليفة الثالث عثمان بن عفان (ر) هو الذي أوعز ببناء ميناء جدة عام 646م.
(18) هـ لايمنز (التنظيمات العسكرية العربية في مكة).
(19) أصبح اسمها العقبة وما زالت أما ميناء إيلات الإسرائيلي فكان اسمه (أم الرشراش).
(20) تجدر الإشارة هنا بأن الكتاب صدر قبل فترة طويلة من القضاء على الأسرة الهاشمية المالكة في العراق عام 1958 (تغمدهم الله جميعاً برحمته).
(21) يؤكد ابن خلدون أن عمرو بن الحارث كان زعيماً قبلياً ليس من بني جرهم بل من خزاعة التي أتت بعدهم. وثمة إجماع على أن عمرو بن لحيّ هو أول زعيم لخزاعة التي حلت محل جرهم ويقال: إنه الذي أحضر صنم (هُبل) إلى مكة من سورية أو ربما العراق.
(22) السيرة النبوية، لابن هشام الجزء الأول ص114 – 115.
(23) يعني إسماعيل عليه السلام وذلك أنه تزوج امرأة من جرهم.