كتاب النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (أو سيرة صلاح الدين) أهم كتاب أرخ لصلاح الدين الأيوبي ولعصره ولحروبه مع الفرنجة، وانتصاراته عليهم، ولتحريره للقدس، وذلك لأن صاحبه كان من أقرب الناس لصلاح الدين في السنوات الأخيرة، من حياة صلاح الدين، وهي سنوات حاسمة في الصراع العربي الفرنجي.‏


د.أحمد فوزي الهيب :
كتاب النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (أو سيرة صلاح الدين) أهم كتاب أرخ لصلاح الدين الأيوبي ولعصره ولحروبه مع الفرنجة، وانتصاراته عليهم، ولتحريره للقدس، وذلك لأن صاحبه كان من أقرب الناس لصلاح الدين في السنوات الأخيرة، من حياة صلاح الدين، وهي سنوات حاسمة في الصراع العربي الفرنجي.‏

ومثلما أدرك المؤرخون العرب، كابن خلكان وأبي شامة وابن واصل وغيرهم، مكانة الكتاب، فأكثروا من الاقتباس منه، أدرك الغربيون ذلك أيضاً، فعنوا به، وطبعوه وترجموه إلى لغاتهم منذ القرن الثامن عشر، عندما قام المستشرق الهولندي ألبرت شولتنس سنة 1732م بنشره مع ترجمة لاتينية له، ثم أعيد نشر هذه الطبعة بعد وفاة صاحبها شولتنس ثانية عام 1755، ثم ثالثة في ألمانيا عام 1790م، ثم أعاد دي سلان الفرنسي تحقيق الكتاب ليتلافى أخطاء الطبعات السابقة، وكذلك ترجمه أيضاً الإنجليزي كلود كوندر إلى لغته (1).‏

أما في البلاد العربية فقد طبع الكتاب بمصر عام 1317ه‍ (1899م) طبعة غير محققة، ثم طبع طبعات ثلاثاً في الأعوام 1903م و1905م و1927م (2)، وبعد ذلك حققه الدكتور جمال الدين الشيال وطبعه في القاهرة عام 1964 (3). وهذه هي التي اعتمدنا عليها في دراستنا هذه.‏
جعل ابن شداد كتابه في مقدمة وقسمين:‏
أما المقدمة (4):‏
فقد وضح فيها هدفه، وهو العبرة لأولي الأفهام، فكل حال لا بد من أن ينقضي، فلا يغتّر صاحب الحال الحسن، ولا ييأس صاحب السقيم (5)
ثم انتقل إلى تبيان هدفه الخاص، وهو أنه عندما رأى انتصارات صلاح الدين وجنده قد صدقت ما وصل إلينا من انتصارات الأجداد في اليرموك والقادسية، وأن جوده قد شهد بصحة ما وصل إلينا من أخبار الكرماء من الأسلاف، وأن ما رأت العين من صبره وصبر جنده على المكاره في سبيل الله، قد قوّى الإيمان لدى الناس، وأن عجائب انتصاراته أعظم من أن تتخيلها الأفكار، أو أن يعبر عنها لسان أو قلم. وعلى الرغم من أنها أعظم من أن تخفى، فلا يستطيع -وهو المطلع عليها المصاحب لصاحبها المعطى من فضله -إلا أن يبدي ما رآه بعينه بعد التحاقه بخدمته منذ عام 584ه‍ إلى وفاته (أي وفاة صلاح الدين) عام 589ه‍، ويروي ما سمعه من ثقة لا يشك في صدقه، وهذا القليل الذي رواه يستدل به على الكثير من الذي رآه وسمعه (6).‏

وبعد ذلك ذكر ابن شداد عنوان كتابه، وهو النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (7) نسبة إلى السلطان صلاح الدين وإلى اسمه، وهو يوسف.‏

ثم بيّن أنه جعله في قسمين:‏
أحدهما:‏
في مولده ومنشئه وخصائصه وأوصافه وأخلاقه المرضية وشمائله الراجحة في نظر الشرع الوفية. وهو صغير يبلغ عدد صفحاته تسعاً وعشرين صفحة.‏
ثانيهما:‏
في تقلبات الأحوال به ووقائعه وفتوحه وتواريخ ذلك إلى آخر حياته. وهو كبير يبلغ مئتين وأربع عشرة صفحة (8).‏
وتقسيم ابن شداد هذا، والذي صرّح به في مقدمته، ينفي بما لا يدع مجالاً للشك ما توهمه محمد درويش في مقدمة كتابه (اختيارات من كتاب النوادر السلطانية) (9) من أن ابن شداد قد جعل أول قسمي كتابه منذ ولادة صلاح الدين حتى التحاق ابن شداد به (10)،
والثاني: يبدأ بهذا التحاق وينتهي بوفاة السلطان عام 589ه‍ (11).‏
في القسم الأول:‏
ذكر ابن شداد أن مولد صلاح الدين كان عام 534ه‍ في قلعة تكريت، وأن والده أيوب بن شاذي كان والياً عليها، وكان كريماً أريحياً حليماً حسن الأخلاق، انتقل بعد ذلك مع ابنه وأخيه أسد الدين شيركوه إلى الموصل مقدّماً عند أتابك زنكي، ثم أعطي بعلبك، فانتقل إليها مع ابنه صلاح الدين الذي كان قد شب وبدت منه أمارات الخير، فأحبه نور الدين محمود وقرّبه حتى أرسله مع عمه إلى مصر (12).‏
ثم تحدث ابن شداد عن عقيدة صلاح الدين السليمة التي أخذها عن العلماء بالدليل، وأنه كان محافظاً على الصلاة بوقتها جماعة (13).
وأما الزكاة فإنها لم تجب عليه لأن عطاياه لم تمكنه من أن يملك نصابها، حتى إنه عندما توفي لم يخلف لورثته شيئاً قط ما عدا سبعة وأربعين درهماً وديناراً واحداً (14)
. كما كان حريصاً على صيام رمضان وقضاء ما فاته منه بسبب الجهاد ومقتضياته (15).
وأما بالنسبة إلى الحج فقد شغله عنه الجهاد المستمر، وكان يحب قراءة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وسماعهما، وكثيراً ما كانت تدمع عيناه في أثناء القراءة والسماع (16)، كما كان أيضاً كثير التعظيم لشعائر الدين حسن الظن بالله، كثير الاعتماد عليه (17)، عادلاً رؤوفاً رحيماً ناصراً للضعيف على القوي، يجلس للعدل كل اثنين وخميس مجلساً عاماً (18).
وأما كرمه فقد كان عظيماً يدل عليه أنه لم تجب عليه زكاة قط، وأنه لم يترك لورثته شيئاً (19). كما ضرب المثل الأعلى بشجاعته وقوة نفسه وشدة بأسه وعظيم ثباته، وكان لا بد من أن يطوف حول العدو يومياً مرة أو مرتين إذا كان قريباً منه (20).‏
ثم ذكر ابن شداد شدة اهتمام صلاح الدين بالجهاد، ولقد ألف له كتاباً عنه، كان كثير المطالعة له (21)، ويدلنا على ذلك ما أخبر به صلاح الدين ابن شداد، وهو:
"أنه متى ما يسر الله فتح بقية الساحل، قسمت البلاد، وأوصيت، وودعت، وركبت هذا البحر إلى جزائرهم، أتتبعهم فيها، حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت.."، فقال له ابن شداد: إنك سور الإسلام ومنعته، فلا ينبغي أن تخاطر بنفسك، فقال له: ما أشرف الميتات؟ فقال ابن شداد: الموت في سبيل الله، فقال له: غايتي أن أموت أشرف الميتات (22).‏
وبعد ذلك ذكر ابن شداد طرفاً من صبره واحتسابه، ونبذاً من حلمه وعفوه ومروءته ومكارم أخلاقه وعفوه، تؤكد صفاته الآنفة الذكر وتذكرنا بسيرة النبي (صلى الله عليه وسلم ) والخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين (23).‏
والقسم الثاني (24):‏

جعله ابن شداد في تقلبات أحوال صلاح الدين ووقائعه وفتوحاته حسب تسلسلها التاريخي، بدأه بتاريخ ذهابه (أي صلاح الدين) إلى مصر صحبة عمه أسد الدين شيركوه بأمر من نور الدين محمود نجدةً للوزير الفاطمي شاور، بعدما غلبه عدو له، اسمه ضرغام عام 558ه‍ (25).

ثم تابع تأريخه للأحداث حسب توالي السنين، وتحدث فيما تحدث عن قضائه على الدولة الفاطمية، وتسلمّه مصر وإعادتها إلى الخلافة العباسية عام 567ه‍ (26) وإقامة العدل فيها، وتعاونه المخلص مع نور الدين في رد الفرنجة عن مصر التي كادت أن تسقط في أيديهم.‏ كما تحدث أيضاً عن فاجعة وفاة نور الدين، وما تركته من فوضى وفراغ لم يستطع ابنه الملك الصالح إسماعيل أن يملأه لصغر سنه وقلة حكمته وطمع حاشيته وجهلها (27)، وعما بذله صلاح الدين من جهد وصبر، حتى استطاع أن يملأ هذا الفراغ بتوحيده للشام ومصر، وبإعادة القوة إلى الجيوش العربية حتى استطاع أن يقلب ميزان القوة، وينتصر على الصليبيين نصراً حاسماً في معركة حطين التي حدثت في فلسطين عام 583ه‍، وقد وصفها ابن شداد وصفاً دقيقاً مفصلاً، بيّن فيه سمو أخلاق صلاح الدين وجنده وشجاعتهم، وما حل بالفرنجة من خسائر وخوف على الرغم من كثرة عددهم وعددهم، ويوضح هذا كل ما كتبه ابن شداد (28)، ونكتفي بهذين النصين، وهما:‏

"ونصبت الخيمة، وجلس (أي صلاح الدين) فرحاً مسروراً لما أنعم الله به عليه، ثم استحضر الملك جفري وأخاه والبرنس أرناط، وناول الملك جفري شربة من جلاب مثلج، فشرب منها، وكان على أشد حال من العطش، ثم ناول بعضها البرنس أرناط، فقال السلطان للترجمان، قل للملك: أنت الذي تسقيه، وإلا أنا ما سقيته. وكان على جميل عادة العرب وكريم أخلاقهم أن الأسير إذا أكل أو شرب من ماء لمن أسره أمن، فقصد بذلك الجري على مكارم الأخلاق.
ثم أمر بمسيرهم إلى موضع عين لنزولهم فمضوا وأكلوا شيئاً ثم عاد فاستحضرهم، ولم يبق عنده أحد سوى بعض الخدم، وأقعد الملك في الدهليز، واستحضر أرناط، وواقفه على ما قال، (أي عندما قال لقافلة من مصر نزلت عنده بالأمان في حالة صلح، فغدر بهم، واستخف بالنبي (صلى الله عليه وسلم )) (29)،
وقال له: هاأنذا أستنصر لمحمد (صلى الله عليه وسلم)، ثم عرض عليه الإسلام، فلم يفعل، ثم سل عليه النمجاه (30)، وضربه به فحل كتفه، وتمم عليه من حضر.. فلما رآه الملك.. لم يشك أنه يثنّي به، فاستحضره السلطان وطيب قلبه، وقال:
لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك، وأما هذا فإنه تجاوز حده، فجرى ما جرى (31).
والنص الثاني هو :
"ولقد حكى لي من أثق به أنه لقي بحوران شخصاً واحداً، معه طنب خيمة، فيه نيف وثلاثون أسيراً، يجرهم وحده لخذلان وقع عليهم (32) (أي على الفرنج).‏
إن انتصار صلاح الدين في حطين لم يجعله يؤثر الراحة والكسل مكتفياً به، وإنما كان له حافزاً، ليتحرك بسرعة، ويحرر قلعة طبرية وعكا وتبنين وبيروت وعسقلان (33)، ممهداً بها لتحرير القدس الذي حررها صلحاً الجمعة السابع والعشرين من رجب عام 583ه‍، في ذكرى الإسراء والمعراج، ولقد استبشر الناس بذلك التوافق بين المناسبتين، وكان يوماً مشهوداً.
وخرج الفرنجة من القدس، وبقي أهلها من النصارى فيها لم يمسهم سوء يرحبون بصلاح الدين. دفع أغنياء الفرنجة الفدية، وهي عشرة دنانير على الرجل، وخمسة على المرأة، واثنان على الطفل، وتحمل صلاح الدين دفع فدية فقراء الفرنجة الذين خذلهم ملوكهم وأغنياؤهم وأطلق سراحهم، وكان -حسب اتفاق الصلح -ينبغي أن يعدوا مماليك عبيداً، وأوصل كل من خرج من الفرنجة إلى مأمنهم (34).
ولا بد من أن يعقد الإنسان مقارنة بين تسامح صلاح الدين مع الفرنجة عند تحرير القدس ووحشية الفرنج عندما احتلوها، وما فعلوه من فظائع، تذكرنا بها فظائع اليهود فيها وفي جنين ونابلس وغيرها اليوم.‏
وسرعان ما غادر صلاح الدين القدس إلى "صور" يريد تحريرها، فحاصرها، إلا أن انتصار الأسطول الفرنجي على أسطوله ودخول الشتاء وتعب الجند وتذمر الأمراء جعله يرجئ ذلك إلى الربيع (35)، وفيه بدأ بحصار حصن كوكب القريب من صور عام 584ه‍ (36)، وهنا دخل ابن شداد في خدمته، ولقد صرّح ابن شداد أن جميع ما رواه من قبل إنما هو روايته عمن يثق به ممن شاهده، وأن ما سيرويه بعد ذلك مما رآه بعينه عامة (37).‏

تابع صلاح الدين تحرير البلاد من الفرنجة، حتى لم يبق معهم من المدن المنيعة سوى صور التي صارت مكان تجمعهم وإنطاكية وطرابلس. ولقد تم ذلك خلال عام ونصف (38)، وهي فترة قياسية. وكان سبب هذه الانتصارات المتلاحقة أنه كان قائداً عسكرياً شجاعاً ونبيلاً في آن واحد، وميزته الكبرى -كما يقول د /شاكر مصطفى -كانت بتقاه، ببساطة فكرة، بكرمه، بوفائه بالعهود حتى للأعداء، بمثاليته، وبأنه نموذج خاص من رجال الحرب والسياسة (39).‏
أجج تحرير القدس نار الحقد في أوربة، فأرسلت الحملة الفرنجية الثالثة يقودها ريتشارد قلب الأسد ملك الإنجليز، وفيليب أوغست ملك فرنسة وفريديريك باربروسا إمبراطور الألمان (40).‏

وكان من الضروري أن أتابع سيرة صلاح الدين مفصلة، وأتحدث عن صور البطولة النبيلة النادرة إلا أن ضيق المجال يدفعني إلى أن أبلغ سريعاً نهايتها، وهو صلح الرملة عام 588ه‍ الذي مهدت إليه مفاوضات استمرت خمسة عشر شهراً، قام بها اثنان وأربعون وفداً، كان البادئ في طلبها دوماً ريتشارد. وقد اتفق الطرفان على أن تبقى في يد الفرنجة يافا وقيسارية وأرسوف وحيفا وعكا، وتكون عسقلان خراباً، واللد والرملة مناصفة، وأن تكون بلاد الإسماعيلية في هدنة صلاح الدين، أي معه، وإنطاكية وطرابلس في هدنة الفرنج أي معهم (41)، وحرص صلاح الدين في هذا الصلح على ما يلي:‏

1-أن تكون مدته محدودة بثلاث سنوات وثلاثة أشهر.‏
2-أن يحصر الفرنج في أضيق بقعة ممكنة.‏
3-أن تبقى الجبال بيده، ليبقى الفرنجة بالأماكن المنخفضة فيكونوا تحت رحمته.‏
4-أن ينقذ أكثر ما يمكن إنقاذه من مكاسب حطين.‏
5-أن يفتح القدس للحجاج الفرنجة دائماً، بعدما رفض طلب ريتشارد أن يأخذوا موافقته على ذلك، ليريهم السماحة والحرية والحضارة الحقة.‏
6-أن يستمر في تقوية حصون القدس وغيرها استعداداً لتحرير كامل الأرض المحتلة بعد انتهاء الهدنة (42).‏
سعد الجميع بهذا الصلح ما عدا صلاح الدين، لأنه لم يره محققاً ما يصبو إليه من تحرير الأرض كاملة من الاحتلال الفرنجي، لذلك بعد أن اطمأن إلى عودة ريتشارد إلى بلاده أمر بتقوية حصون القدس وغيرها من القلاع (43)
، ثم دخل دمشق بعد غياب أربع سنوات، فاستقبله أهلها استقبالاً فريداً، لم يستقبلوا به أحداً من قبل (44)، ولكن بقاءه فيها لم يطل، إذ مرض مرضاً اشتد به يوماً بعد يوم، وكان ابن شداد والقاضي الفاضل يلازمانه، وفي الليلة الثانية عشرة من مرضه، وهي ليلة الأربعاء 27 من صفر عام 589ه‍ ازداد ضعفاً، وأسلم في فجرها روحه إلى بارئها، وكان يوماً لم يصب المسلمون بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدين (45) وبوفاته -رحمه الله -انتهى ابن شداد من جمع أخباره -كما صرح بذلك في نهاية كتابه (46) -وبعدها بزمن بدأ بتبييضها في كتابه هذا.‏
قصد ابن شداد في كتابه هذا ثلاثة أمور، بيّنها في آخر كتابه، بالإضافة إلى ما بيّنه في أول كتابه، وهي:‏
- حث الناس على الترحم على صلاح الدين، وأن يجزيه الله ما هو أهله.‏
- ذكر محاسنه وتخليدها.‏
- أن يحسن خلفاؤه من بعده الاقتداء به وإكمال ما بدأه (47).‏

ولعل من المفيد أن نختم بحثنا هذا ببعض الملاحظات، وهي:‏
- لم يكن ابن شداد مؤرخاً جامداً سلبياً بالنسبة إلى صلاح الدين أو الفرنجة، لأنه كان محباً لصلاح الدين معجباً به جداً، وكارهاً للفرنجة المحتلين.‏
- لكن هذا الحب والبغض لم يؤثرا في صدقه وإنصافه لأعداء صلاح الدين، ونجد ذلك في مثل تأريخه لانتصار صلاح الدين في ميافيارقين إذ يقول: (فحاصرها وقاتلها قتالاً شديداً، ونصب عليها مجانيق، وكان بها رجل، يقال له الأسد، وما قصر في حفظها، ولكن الأقدار لا تغلب فملكها السلطان) (48). كما يبدو أيضاً في إسناده نصر صلاح الدين إلى الله، ونرى ذلك في مثل قوله (وعصمه الله منهم) و(أدخل في قلوبهم الخوف والرعب) (49).‏

- ولقد ظهر الحب والكره في لوازم ابن شداد التي كان يكررها، مثل (رحمه الله) (50) و(قدس الله روحه) (51)، بعد ذكر صلاح الدين ونور الدين وغيرهما، وفي تعاطفه مع صلاح الدين ودفاعه عن اجتهاداته، ومثل قوله بعد ذكر الفرنجة أو واحد منهم (خذلهم الله) (52) و(لعنه الله)(53). ولكن هذا لم يمنعه من إنصافهم ووصف شجاعتهم، مثل وصفه لملك الإنكتار (54).‏
- ومن لوازمه اللافتة للنظر، أنه عندما يذكر مدينة محتلة يتبعها بجملة (يسر الله فتحها) (55)، وعندما يذكر مدينة مهددة يتبعها بجملة (حفظها الله) أو (حرسها الله) (56)، أو بكلمة (المحروسة) (57).‏
- ومن لوازمه أيضاً إكثاره من ذكر الآيات القرآنية (58)، والأحاديث النبوية الشريفة في أثناء كتابه (59).‏
- ومن ملاحظاتنا أيضاً دقته، فقد كان يذكر في تاريخه اليوم والشهر والعام (60)، أو الشهر والسنة فقط (61)، وربما ذكر الوقت، صباحاً كان أو مساء، أو بعد صلاة الفجر (62). وهذا يعني أنه كان يسجل الأحداث ويؤرخها يوماً بعد يوم، أو ساعة بعد ساعة. كما تبدو دقته في نقله لعبارات كاملة لصلاح الدين أو لغيره.‏
- تصويره لبعض العادات والتقاليد لدى الطرفين، مثل وصفه لمجلس العدل الذي كان يجلسه صلاح الدين يومين أسبوعاً ويحضره القضاة والأمراء (63)، ومثل وصفه لبعض تقاليد الفرنج، مثل قولـه: ( ومن عاداتهم أنهم يتشاورون للحرب على ظهور الخيل، وأنهم قد نصّوا على عشرة أنفس منهم وحكموهم، فأي شيء أشاروا به لا يخالفونهم) (64)، وقوله في وصف علم الفرنجة: (وعلم العدو مرتفع على عجلة هو مغروس فيها، وهي تسحب بالبغال، وهم يذبون عن العلم، وهو عال جداً كالمنارة، خرقته بياض، ملمع بحمرة على شكل صلبان.) (65)، كما أشار أيضاً إلى نشوء صداقات بين بعض أفراد الجيشين العربي والفرنجي (66).‏

- ونجد في الكتاب أيضاً عدداً من الوثائق الهامة التي توضح العلاقات بين صلاح الدين والدول المجاورة مثل الأرمن والبيزنطيين (67).‏ - لم يوقف صلاح الدين حروبه مع الفرنجة في أثناء مفاوضات الصلح معهم (68)، لأنه كان يعتقد أن القوي في الحرب قوي في مفاوضات الصلح، وأنه كلما حقق مكاسب أكثر، كان موقفه التفاوضي أقوى، وحق فيه مكاسب أعظم.‏
- لم يوقع صلاح الدين صلح الرملة مع الفرنجة إلا مضطراً، بسبب إلحاح أمرائه وقادته وجنوده الذين ما كانوا يملكون همته وقوته وقدرته على المتابعة وصبره وعزيمته، وأما رأيه في استمرار الجهاد، فقد صرح به بقوله: (والمصلحة ألا نزال على الجهاد حتى نخرجهم من الساحل أو يأتينا الموت) (69).‏
- على الرغم من أن ابن شداد قد كتب مسودات كتابه في حين وقوعها وفي أثناء حياة صلاح الدين، فإنه كتب مبيضاتها بعد وفاة صلاح الدين وفي السنوات الأخيرة من حياته، بعدما ترك العمل الرسمي، وتفرغ للعلم، قبيل وفاته بأقل من ستة أعوام. يدلنا على ذلك لازمته (رحمه الله) بعد ذكر صلاح الدين الذي توفي عام 589ه‍ ولازمته (يسر الله فتحه) بعد ذكره لبيت المقدس. مما يعني أنه قد كتب هذا بعدما سلم الملك الكامل بن العادل الأيوبي عام 626ه‍ القدس إلى قائد الحملة الصليبية السادسة إمبراطور الألمان فريدريك (70)،
وأضاع جهود عمه صلاح الدين العظيمة في سبيل تحريرها. ولكنها حررت ثانية بعد قليل عام 637ه‍ بيد الملك الناصر الأيوبي داود أمير الكرك (71). ثم سلمها للصليبيين مرة أخرى الملك الصالح أيوب والملك الصالح إسماعيل عام 641ه‍ (72)، ليحررها ثالثة الملك الصالح نجم الدين أيوب نفسه، الذي كان قد سلمها، بمساعدة الخوارزمية عام 642ه‍. وهذا التسليم والتحرير المتكرر والسهل للقدس يدل على أن كلا الطرفين الأيوبي والفرنجي قد ضعف، وأن عهد الملوك الكبار الأقوياء قد ولى.‏

- أسلوب ابن شداد في كتابه هذا من (السهل الممتنع)، ولولا وجود بعض الألفاظ الأعجمية التي كانت سائدة آنذاك مثل اليزك (73) والجاليش (74) والمنجنيق (75) والبطسة (76) والنمجاه وغير ذلك من الألفاظ لكان الكتاب يبدو من حيث الأسلوب وكأنه لكاتب معاصر تقريباً، ولنأخذ مثالاً لذلك قوله في ذكر عيسى العوام
"ومن نوادر هذه الوقعة أن عواماً مسلماً كان يقال له: عيسى، وكان يدخل إلى البلد بالكتب والنفقات على وسطه ليلاً على غرة من العدو، وكان يغوص ويخرج من الجانب الآخر من مراكب العدو.." (77). وحتى يزداد وضوح إشراق أسلوبه على الرغم من وجود بعض السجع اللطيف أحياناً قليلة، نقارنه بأسلوب العماد الكاتب الأصفهاني رفيقه في خدمة صلاح الدين،
ولنأخذ مثلاً لذلك هذين السطرين من كتابه (الفتح القسّي في الفتح القُدسي)، وهو كتاب في تاريخ صلاح الدين أيضاً (لما عرف ملك الإنكتير أن العسكر قد اجتمع، والخرق عليه قد اتسع، وأن القدس قد امتنع، وأن العذاب به وقع، خضع وخشع، وقصّر الطمع.." (78)
ولقد أثر ابن شداد بأسلوبه السهل الممتنع هذا على تلاميذه وغيره مثل ابن خلكان وابن واصل وأبي شامة.‏
وربما يظن ظان أن ابن شداد قد دفعه حبه لصلاح الدين إلى أن يبالغ في رسم هذه الصورة المثالية الزاهدة النقية التي قلما شهد لها التاريخ الإنساني مثيلاً، فنرد على ظنه بما كتبه المؤرخون والمستشرقون الغربيون المنصفون عنه، و منهم المستشرق الفرنسي البير شاندور الذي ألف كتاباً عنه، جعل عنوانه (صلاح الدين الأيوبي البطل الأنقى في الإسلام) (79). ولعل من المفيد هنا أن أذكّر بآخر الكتب العظيمة التي قرأتها عنه، وهو (صلاح الدين الفارس المجاهد والملك الزاهد المفترى عليه) وهو آخر الكتب التي ألفها د. شاكر مصطفى قبل وفاته رحمه الله (80).‏

وأخيراً إن ابن شداد في كتابه العظيم هذا استطاع أن يرسم لمعاصريه ولمن جاء بعدهم صورة نادرة لقائد فذ، بلغ الغاية في الإيمان الخالص النقي والأخلاق والثقافة والسياسة والقيادة والإدارة والعدل والشجاعة والحكمة والكرم والمروءة والعدل والصبر والوفاء والأناة والإرادة والجهد والحسم والرقة والنبل وعدم اليأس، لم تنسه قوته وانتصاراته تبعيته للخلافة العباسية ببغداد على ضعفها، وبالإضافة إلى ذلك كله نجده ملتزماً بعادات العرب وكريم أخلاقهم، ويبدو ذلك في قول ابن شداد عنه: (وكان على جميل عادة العرب وكريم أخلاقهم.) (81) وفي عرضه الإسلام على (أرناط) على الرغم من غدره قبل أن يقتله (82). إن أخلاق الدعاة الأتقياء الأنقياء المتصلين بالسماء كانت تسبق في قلبه وفعله صفات السلطان والقائد في السلم والحرب.‏

لذلك أثرت هذه الخلال الكريمة في كثير من رجالاته تأثيراً كبيراً، وإن لم يستطيعوا أن يبلغوا مبلغه فيها، مثل أخيه العادل وأبنائه الظاهر والأفضل والعزيز وابن أخيه المظفر والقاضي الفاضل وابن شداد وغيرهم من الجنود العاديين الذين فضلوا أن يغرقوا سفينتهم بأيديهم، وأن يغرقوا معها، حتى لا تقع في أيدي العدو ويفيد منها (83)، كما أثرت في الناس العاديين أيضاً، مثل ذلك الرجل الدمشقي الذي اخترع ناراً أحرقت الأبراج المتحركة التي صنعها الفرنجة للهجوم على المسلمين، وقاومت نيرانهم، واستعصت عليها، حتى كادوا يخسرون أمامها (84)، ثم توارى عن الأنظار معتذراً عن قبول أي جزاء أو شكر مكتفياً بثواب الله.‏
***************************
المراجع والمصادر:‏

-اختيارات من كتاب النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية‏ محمد درويش، وزارة الثقافة، دمشق 1987.‏

-الأدب في العصر الأيوبي،‏

محمد زغلول سلام، منشأة المعارف، الإسكندرية 1997.‏

-الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، ط6، 1984.‏

-البداية والنهاية‏

ابن كثير، ت. مجموعة من المحققين، دار الكتب العلمية، بيروت 1985.‏

-تتمة المختصر (تاريخ ابن الوردي)‏

ابن الوردي، ت. أحمد رفعت البدراوي، دار المعرفة، بيروت 1970.‏

-الروضتين في أخبار الدولتين‏

أبو شامة، ت. محمد حلمي محمد أحمد، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1956.‏

-زبدة الحلب من تاريخ حلب‏

كمال الدين بن العديم، ت. سهيل زكار، دار الكتاب العربي، دمشق 1997.‏

-صلاح الدين الأيوبي البطل في الأنقى في الإسلام‏

البيرشاندور، تر. سعيد أبو الحسن، دار طلاس، دمشق، ط2، 1993.‏

-صلاح الدين الفارس المجاهد والملك الزاهد المفدى عليه‏

شاكر مصطفى، دار القلم، دمشق 1998.‏

-الفتح القسي في الفتح القدسي‏

العماد الكاتب الأصفهاني، المطبعة الخيرية، القاهرة 1322‍ه‍.‏

-مفرج الكروب في أخبار بني أيوب (الجزء الرابع)‏

ابن واصل الحموي، ت. حسنين محمد ربيع، وزارة الثقافة، القاهرة 1972.‏

-النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة‏

ابن تغري بردي، وزارة الثقافة، القاهرة 1963.‏

-النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (سيرة صلاح الدين)‏

بهاء الدين ابن شداد، ت. جمال الدين الشيال، الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1964.‏

-وفيات الأعيان‏

ابن خلكان، ت. إحسان عباس، دار صادر بيروت 1968.‏

-مجلة الذخائر‏

بيروت، العدد 9، شتاء 3002.‏

Dozy. Supp. Dict.Arab Paris 1927-‏

******************

الحواشي :


(1)-مجلة الذخائر، العدد 9 عام 2002 ص 277 وما بعدها.‏

(2)-المرجع السابق ص 281.‏

(3)-طبعته في القاهرة الدار المصرية للتأليف والترجمة عام 1964 طبعة أولى، وليست طبعة ثانية كما ذكرت سفانة الجبوري في بحثها بمجلة الذخائر العدد 9 ص 282، وعنوانه (كتاب النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية لبهاء الدين بن شداد بين مخطوطاته وطبعاته).‏

(4)-تبدأ من ص3 من الكتاب.‏

(5)-النوادر السلطانية 3.‏

(6)-المصدر السابق 3 -4.‏

(7)-المصدر السابق 4.‏

(8) -المصدر السابق.‏

(9) -اختيارات من كتاب النوادر السلطانية 15.‏

(10) -النوادر السلطانية من 6 -34.‏ (11) -المصدر نفسه من 35 إلى 248.‏

(12) -المصدر نفسه 6.‏

(13) -المصدر نفسه 7.‏

(14) -المصدر نفسه 8، 17.‏

(15) -المصدر نفسه 8.‏

(16) -المصدر نفسه 9 -10.‏ (17) - لمصدر نفسه 10.‏

(18) -المصدر نفسه 13.‏

(19) -المصدر نفسه 17.‏

(20) -لمصدر نفسه 19.‏

(21) -المصدر نفسه 21.‏

(22) -المصدر نفسه 23.‏

(23) -المصدر نفسه 24 -34.‏

(24) -المصدر نفسه 35.‏

(25) -المصدر نفسه 36.‏

(26) -المصدر نفسه 45.‏

(27) -المصدر نفسه 75 وما بعدها.‏

(28) -المصدر نفسه.‏

(29) -المصدر نفسه 78.‏

(30) -خنجر مقوس يشبه السيف القصير (DOZY SUP. DICT. ARAB).‏

(31) -النوادر السلطانية 78 -79.‏

(32) -المصدر نفسه 77.‏

(33) -المصدر نفسه 79 -80.‏

(34) -المصدر نفسه 81 -82.‏

(35) -المصدر نفسه 83 -84.‏

(36) -المصدر نفسه 84.‏

(37) -المصدر نفسه 87.‏

(38) -المصدر نفسه 87 وما بعدها.‏

(39) -صلاح الدين الفارس المجاهد 422.‏

(40) -النوادر السلطانية 115 وما بعدها، صلاح الدين الفارس المجاهد 283.‏

(41) -النوادر السلطانية 232 وما بعدها.‏

(42) -صلاح الدين الفارسي المجاهد 325 -350.‏ (43) -النوادر السلطانية 237.‏

(44) -المصدر السابق 240 -241.‏

(45) -المصدر السابق 243 - 247.‏

(46) -المصدر السابق 247.‏

(47) -المصدر السابق.‏

(48) -المصدر السابق 69 -89 -167 وغيرها.‏

(49) -المصدر السابق 49.‏ (50) -المصدر السابق 135.‏ (51) -المصدر السابق 105.‏

(52) -المصدر السابق 135.‏

(53) -المصدر السابق 154.‏

(54) -المصدر السابق 157 -158.‏

(55) -المصدر السابق 132.‏

(56) -المصدر السابق 81.‏

(57) -المصدر السابق 72.‏

(58) -المصدر السابق 28.‏

(59) -المصدر السابق 31.‏

(60) -المصدر السابق 202.‏

(61) -المصدر السابق 132.‏

(62) -المصدر السابق 246.‏

(63) -المصدر السابق 13.‏

(64) -المصدر السابق 12.‏

(65) -المصدر السابق 149.‏

(66) -المصدر السابق 227.‏

(67) -المصدر السابق (124 -126) (132 -133).‏

(68)-المصدر السابق 204.‏

(69) - المصدر السابق 203.‏

(70) -تتمة المختصر 2 /222.‏

(71) - المصدر السابق 2 /247.‏

(72) - المصدر السابق 2 /253.‏

(73) -مقدمة الجيش (DOZY. SUPP. DICT ARAB).‏

(74) -الراية العظيمة، ثم تحول معناها إلى مقدمة القلب في الجيش أو الطليعة (المصدر السابق).‏

(75) -آلة من آلات الحصار تقذف الحجارة (المصدر السابق).‏

(76) -السفينة الكبيرة، النوادر السلطانية 49 حاشية1.‏

(77) -النوادر السلطانية 135.‏

(78) -الفتح القسي 339.‏

(79) -طبعته دار طلاس، دمشق طبعة أولى 1988، وثانية عام 1993.‏

(80) -طبعته دار القلم، دمشق 1998م.‏

(81) -النوادر السلطانية 78.‏

(82) -المصدر السابق.‏

(83) -المصدر السابق 161.‏

(84) -المصدر السابق 120.‏

***********************


مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-

دمشق العدد 93 و 94 - السنة الرابعة والعشرون - آذار وحزيران

2004 - المحرم وربيع الثاني 1424