العلاقات الفكرية بين المغرب وإفريقيا جنوبي الصحراء عبرالعصور

إذا جاز لنا القول بأن موضوع "العلاقات الفكرية بين المغرب وإفريقيا جنوبي الصحراء عبر العصور " ما يزال بكرا، فإن ذلك لن يعفينا من الإقرار والاعتراف بالمجهودات الجادة التي بذلها زمرة من علماء المغرب بغاية التعريف بمحتويات مراكز التوثيق المغربية الخاصة منها والعامة، مما جعلنا نقف على الكثير من المواد المصدرية المخطوطة ذات الصلة بإفريقيا جنوبي الصحراء؛ أخص بالذكر منهم الأساتذة: محمد إبراهيم الكتاني، ومحمد المنوني، ومحمد حجي. فقد كان لهذه النخبة اللامعة الفضل الكبير في توجيه عناية الباحثين للذخائر المصدرية المتعلقة بتاريخ العلاقات فيما بين ضفتي الصحراء.

العلاقات الفكرية بين المغرب وإفريقيا جنوبي الصحراء عبر العصور وآمل من خلال هذه المساهمة المتواضعة أن أقف ـ خصوصا مع الباحثين الشباب المغاربة ـ على تاريخ المغرب في إطاره الإفريقي الواسع، حيث سنعرض لمختلف التطورات التي شهدتها العلاقات المغربية الإفريقية إلى نهاية القرن 19 للميلاد، مما سيعفينا من الخوض في المرحلة الاستعمارية بتعقيداتها وتشابكاتها الدولية.
ونتوخى بهذا الشأن، رصد مختلف المسالك والقنوات التي ساهمت في بلورة هذه العلاقات، سواء في جانبها التجاري أو الديني (نشر الإسلام) أو السياسي (السفارات، والصراعات) أو الاجتماعي (الرحلات العلمية والهجرات، والمصاهرة). وما من شك في أن مقاربة ما تقدم من جوانب، سيمهد لما نحن مقبلون عليه في القسم الثاني من الدراسة، حيث سنقتصر هنالك على استعراض العلاقات الثقافية ما بين المغرب ودول إفريقيا جنوبي الصحراء من خلال أعلامها المبرزين.
1 - تعريف مصطلح المغرب
2 - مسالك التواصل
2 - 1 التجارة
2 - 2 مركز سجلماسة
2 - 3 مركز تلمسان
2 - 4 مركز تنبكت
2 - 5 علاقات المغرب بالأقاليم الشمالية من نيجيريا
3 - الصراعات وسُبل تدبيرها الدبلوماسية
3 - 1 في عهد المرابطين
3 - 2 في عهد الموحدين
3 - 3 في عهد المرينيين
3 - 4 في عهد السعديين
4 - الهجرات
5 - انتشار الإسلام: الأسلمة
5 - 1 المذهب المالكي هبة بلاد المغربّ
5 - 2 نشر الطرق الصوفية في إفريقيا جنوبي الصحراء
6 - رجال العلم والمؤلفات
6 - 1 الرحلة السودانية البطوطية
6 - 2 علماء مغاربة أثروا في الحياة الثقافية لبلاد إفريقيا
6 - 3 الحركة المرابطية ودورها في نشر المذهب المالكي في إفريقيا
6 - 4 أولى القبائل السودانبة التي اعتنقت الإسلام على المذهب المالكي
6 - 5 كتاب "الشفا" ودوره في دعم الثقافة العربية الإسلامية في إفريقيا الغربية
7 - التصوف المغربي ودوره في الحياة الدينية في إفريقيا
7 - 1 الطريقة التجانية
7 - 2 الطريقة الإدريسية
خاتمة
1 - تعريف مصطلح المغرب
بادئ ذي بدء، أود تعريف مصطلح " المغرب" كما أفهمه وأتداوله. وقد يبدو من السذاجة الإقدام على مثل هذا الأمر أمام جمهور من المغاربة، غير أن حدود وجغرافية المغرب في الماضي الذي يشغلني، ليست كما هي عليه الآن.
فبالإضافة لما عليه حدوده الآن، كان المغرب ـ مثلا ـ يضم منطقة تلمسان التي ارتبطت به تاريخيا عبر علائق ثقافية وأخرى سياسية، إضافة للأندلس التي خضعت لسلطته زمن المرابطين والموحدين.
بهذه الحدود والأبعاد الجغرافية وقتئذ، انبنت وتبلورت وحدة سياسية مغربية راسخة، ذات بُعد ثقافي متفرّد، اغتنى وتعزز خلال القرن 13م وما بعده، بما حمله الوافدون إليه من المهاجرين الموريسكيين جراء حروب الاسترداد المسيحية بالأندلس ( La reconquista ).
وباعتبار أهمية العلاقات التاريخية الوثيقة التي جمعت بلاد المغرب ببلاد السودان، فإنها ستشكل محور انشغالنا واهتمامنا، دون إغفال العلاقات المغربية مع منطقة حوض النيل السوداني- المصري، خاصة في جانبها الصوفي خلال القرنين الأخيرين (19-20م).
2 - مسالك التواصل
2 - 1 التجارة
تشهد النقوش الصخرية المتناثرة في أجزاء مختلفة من الصحراء (منها صور عربات تجرها خيول) على حجم العلاقات التجارية فيما بين إفريقيا المدارية وحضارات حوض البحر المتوسط قبل العصر الإسلامي، كما تدلنا على آثار الطرق السّالكة فيما بين ضفتي الصحراء وقتئذ. وأهمها الطريق المنطلق من وادي درعة والمتجه نحو دلتا نهر النيجر، مرورا بمنطقة آدرار الموريتانية، ثم طريق الصحراء الوسطى، الذي يأخذنا من الجنوب التونسي وخليج سيرت، ويمر عبر مرتفعات الهـگـار إلى أن ينتهي إلى كوكو (= گـاو: Gao ) في الحوض الأوسط لنهر النيجر.
واللافت للنظر أن المسلمين الأوائل في علاقاتهم ببلاد السودان(2) اعتمدوا نفس المحاور المنوه بها، مما ساهم في تطوّرها. ونتيجة لذلك، ازدادت حيوية المراكز الحضرية الواقعة في محطاتها النهائية، مثل غانة وگـاو، اللتين شكلتا مهاد قيام دولتين سودانيتين بالمنطقة، مما أمّن الوضع السياسي المحلي، وأتاح بالتالي إمكانيات كبرى لاستقطاب تجار بلاد المغرب.
وتؤكد العديد من المؤشرات الدالة، أنه منذ وصول الإسلام إلى شمال إفريقيا، كانت للمغاربة مساهمة فعالة في التجارة الصحراوية. وفي هذا الإطار، ليس من قبيل الصدفة أن يستقر الخوارج الصفريون منذ منتصف القرن 8م بتافللت، حيث أنشأوا مدينة سجلماسة، التي ازدهرت بما توفر لها من ثمار النخيل ومواد فلاحية، فأصبحت طيلة ثمانية قرون قبلة التجار المقبلين على اجتياز الصحراء بغاية التعامل مع أهل بلاد السودان.
2 - 2 مركز سجلماسة
ويبدو أن المراكز أو المدن المسيّجة بالأسوار إلى جانب عدد من الأسواق النشيطة، التي ظهرت على امتداد حوض وادي درعة الغني بمواده الفلاحية، خاصة منها الثمور بأنواعه، شكلت دعامة اقتصادية قوية لسجلماسة؛ وبذلك باتت هي الأخرى، عبارة عن مستودع للسلع الرائجة في التجارة الصحراوية مما أهّلها لأن تستقطب القوافل المغربية، في انتظار انطلاقها نحو بلاد السودان.
2 - 3 مركز تلمسان
وعلى الجهة الشرقية الشمالية من سجلماسة، نشأت تلمسان على أنقاض المدينة الرومانية القديمة پـوماريا( Pommaria )، وشكلت بدورها قاعدة تجارية على غاية من الأهمية، حيث كان ينطلق منها: المسلك التجاري القاصد منطقة الحوض الأوسط لنهر النيجر، مرورا بواحات گـورارة وتوات. ثم المسلك المغذي للمراكز التجارية بحوض البحر الأبيض المتوسط خاصة منها ألميريا بالأندلس، فضلا عن المسلك الغربي المتوجه نحو مكناسة مرورا بفاس.
ويسود الاعتقاد أن جملة هذه المسالك التجارية الرابطة ما بين ضفتي الصحراء، لم تشهد تطورا متوازيا ومتزامنا، وإنما كانت البداية مع الطريق المنطلق من سجلماسة ووادي درعة في اتجاه آدرار، والذي ينتهي عند أودغشت الواقعة حاليا في تـگداوست الموريتانية. وانطلاقا من أودغشت في اتجاه الجنوب الشرقي، نجد الطريق الذي يصلها بعاصمة غانة القديمة على بعد ستة أيام، كما يصلها بما يوجد خلفها من أراضي خصبة على ضفاف نهر السنغال.
ومما سجّله الجغرافي والمؤرخ اليعقوبي حوالي عام 890م عن أحوال هذا المسلك، قوله:" ومن سجلماسة لمن سلك متوجها إلى القبلة يريد أ رض السودان من سائر بطون السودان يسير في مفازة وصحراء مقدار خمسين رحلة ثم يلقاه قوم يقال لهم أنبية من صنهاجة في صحراء ليس لهم قرار شأنهم كلهم أن يتلثموا بعمائمهم سنة فيهم ولا يلبسون قمصانا إنما يتشحون بثيابهم ومعاشهم من الإبل ليس لهم زرع ولا طعام ثم يصير إلى بلد يقال له غسط [= أودغشت] وهو واد ٍ عامر فيه المنازل وفيه ملك لهم لا دين له ولا شريعة يغزو بلاد السودان وممالكهم كثيرة."(3)
وبعد منتصف القرن 11م بقليل، سيمدنا الجغرافي الأندلسي أبو عبيد البكري بوصف دقيق لمجمل الطرق والمسالك التجارية العابرة للصحراء، كما سيحدثنا عن الظروف السياسية والاقتصادية لبلاد الصحراء والساحل وما وراءها من المجالات السودانية.(4)
2 - 4 مركز تنبكت
وفي خضم التطورات التي عرفتها التجارة الصحراوية خلال القرن 13م، برز مسلك جديد يربط ما بين سجلماسة ومملحة تغازة في قلب الصحراء، وينتهي جنوبا عند واحة ولاتة، بوابة إمبراطورية مالي الناشئة وقتئذ.(5) وقد كانت المدينة شعلة من العلم، زارها واستقر بها عدد من الفقهاء والعلماء بغاية التدريس وترسيخ الدعوة الإسلامية. وأثناء زيارة ابن بطوطة لمالي عام 1352، توقف رحالتنا بولاتة[=إيولاتن]، وخلّف لنا وصفا لمظاهر الحياة الإسلامية بها، أكد فيه وجود قاض بالمدينة.(6) وقد تطورت تلك المظاهر بشكل لافت، مما أهل ولاتة لأن تصبح مركزا مشعا لدراسة العلوم الإسلامية في القرون اللاحقة، وهذا ما كشف عنه كل من عبد الرحمن السعدي خلال القرن 17م، وابن بنان البرتلي عند نهاية القرن 18م.(7)
وعند نهاية القرن 14م، أخذت مدينة تنبكت تشهد تطورا ملحوظا بفعل اتصالها المباشر مع بلاد المغرب، وذلك من خلال المسلكين اللذين يشدانها إلى كل من تلمسان وسجلماسة. (8)وقد أقام بها ابن بطوطة مدة قصيرة إبان عودته للمغرب، ثم انصرف منها إلى گـاو (= كوكو)، فتكدا الغنية بمناجم النحاس، حيث يصدر منها إلى برنو وبلاد حوس الواقعتين حاليا في نيجيريا. ويظهر أن أهل تكدا من التجار المتمرّسين، حيث كانت لهم علاقات تجارية وثيقة مع مصر، وليبيا(فزان وغدامس)، وتونس، وتوات، فضلا عن مدن المغرب.
2 - 5 علاقات المغرب بالأقاليم الشمالية من نيجيريا
ويستفاد من الشهادات الأوروبية، أن علاقات المغرب لم تقتصر على ما تقدم من أقطار إفريقيا جنوبي الصحراء، بل طالت خلال القرن 16م، وربما قبل ذلك بقليل، حتى الأقاليم الشمالية من نيجيريا الحالية، مثل كنو وكاتسينا(= كشن). وهذا ما يؤكده المؤلف البندقي جيوفاني لورونزو بناء على معلومات حصل عليها (عام 1575م) من تاجر أوروبي عاش بكنو مدة. ومفاد الشهادة أن "كنو تعدّ بجانب فاس والقاهرة من أهم مدن إفريقيا، حتى إن الزائر لها ـ حسب المغاربة ـ لا يعدم بها أي شيء يطلبه، وهي تـقـع على رأس مثلث قاعدته فاس والقاهرة، وتبعد عنهما بنفس المسافة، إذ يلزمنا شهرين منها لبلوغ إحدى المدينتين".(9)
وعلى إثر اضطراب طريق الركب الحجي المغربي التقليدي، بسبب الصراعات الحادة ما بين العثمانيين والقوى الأوروبية في حوض البحر الأبيض المتوسط خلال النصف الأول من القرن 16، أصبحت بلاد حوس محطة توقف للحجاج المغاربة بعد عودتهم من الحجاز، وكانت لبعضهم جولات علمية بكنو ونواحيها. وبسبب ما رآه المغاربة من تهافت الناس هنالك على العلم، ومبالغتهم في عطاءاتهم في سبيل تحصيله، فضّل بعضهم الاستقرار بالمنطقة سنوات عديدة برسم التدريس.
3 - الصراعات وسُبل تدبيرها الدبلوماسية
على الرغم من النجاحات الباهرة والسريعة التي حققها الإسلام في توسعاته وفتوحاته الأولى بشمال إفريقيا، لم يقيض لأي جيش عربي اختراق الصحراء عموديا. وتدلنا الإشارات المقتضبة الواردة في كتابات مؤرخي الفتوح الإسلامية الأولى (مثل البلاذري وابن عبد الحكم)، أن التحركات العسكرية الإسلامية بالصحراء، (10)إنما كانت بغرض ضمان تعامل تجاري سلمي يؤمن سبل الحصول على الذهب السوداني.
وباعتبار هذا المعطى التاريخي، ظلت بلاد السودان(=إفريقيا الغربية) خلال القرون الإسلامية الأولى، بمنأى عن أي عملية عسكرية، مما حرم المنطقة من التعرُّب أو التّعريب. على أن الإسلام واللغة العربية، سيصلان للمنطقة عبر قنوات أخرى، تمثلت أساسا في نشاط التجار والدعاة المسلمين، الذين كانوا يرتادون بلاد السودان انطلاقا من مراكز الضفة الشمالية للصحراء، كما تمثلت لاحقا في نشاط الجالية المغاربية التي استقرت بالمنطقة بدعوة من الملوك السودان الوثنيين. لنترك جانبا هذه القضية على أن تكون لنا عودة إليها، ولنتابع ما نحن بصدده.

3 - 1 في عهد المرابطين

تذكر المصنفات التاريخية المغربية، أن مجال صحراء صنهاجة اللثام شهد انطلاق حركة دينية خلال القرن 11م، عُرفت في المصادر بالحركة المرابطية، وحققت نجاحا دينيا وسياسيا كبيرين، مما جعلها تبسط نفوذها الديني والسياسي على المغرب والأندلس، فضلا عن معاقلها الصحراوية. وبذلك أقامت امبراطوية مالكية المذهب، كان لها نفوذ سياسي قوي في الجناح الغربي من العالم الإسلامي.

وقد كانت للحركة المرابطية منذ بدايتها علاقات وثيقة بالسودان المجاورين لهم من جهة الجنوب. واتسمت علاقات الطرفين بتعاون تجاري وسياسي عز نظيره، مما سمح بتدفق التأثيرات الإسلامية جنوبا. ونتيجة لذلك انتصر المذهب المالكي ببلاد السودان على حساب دوائر التأثير الخارجية سواء في صيغتها الصفرية أو الإباضية، التي كان لها السّبق في عملية نشر الإسلام ببلاد السودان منذ القرن الهجري الثاني(8م).

واللافت للنظر بهذا الشأن، أن زعماء الحركة لم يعتمدوا ركن الجهاد سبيلا في نشر الإسلام المالكي ببلاد السودان، وإنما اقتصر عملهم على الدعوة بالكلمة الطيبة، الأمر الذي ترك آثارا عميقة في نفوس السودان، مما عزّز مكانة الإسلام والمسلمين بينهم. ومهما قيل عن الغزو المرابطي لمملكة غانة، فإن الدراسة النقدية الدقيقة للمواد المصدرية المتوفرة، تحفزنا على الشك في هذا الغزو المزعوم.(11)

وفي إطار هذه العلاقات السلمية، رحبت مملكة غانة بالمسلمين المقيمين بين ظهرانيها، وأكثر من ذلك، كان ملك غانة الوثني يستعين بهم في تدبير شؤون الحكم، ويقلدهم المناصب العليا في بلده. وارتقت العلاقات الرسمية بين الطرفين إلى مستويات رفيعة، حيث يذكر صاحب الاستبصار أنه وقف على رسالة من ملك غانة موجهة ليوسف بن تاشفين (1062-1106م)، خاطبه فيها بأمير أغمات، مما يحمل على الظن بأن الرسالة وصلت قبل بناء مراكش عام 1070م.(12)

إن المكانة المعتبرة للإسلام والمسلمين في مملكة غانة، لا تشكل حالة استثنائية، بل لها ما يماثلها من النماذج الدالة في دول وممالك إفريقيا جنوبي الصحراء. فقد كانت مملكة الأشانتي الوثنية، تستعين بخبرات المسلمين في تدبير شؤون الحكم الرشيد، وكذلك فعل ملوك أيو ( Oyo : بنيجيريا الغربية) خلال القرن 14م. ونجد امتدادات لهذه السلوكات حتى لدى الممالك المسيحية بشرق إفريقيا، فقد كان الإمبراطور تيودور عاهل الحبشة يوظف في بلاطه كتّابا من العرب المسلمين بغاية إنشاء المراسلات التي استوجبتها علاقاته مع كل من مصر وحكام الأقاليم التابعة لها جنوبا إلى الخرطوم، وكذلك مع ملكة إنجلترا فيكتوريا.(13)

3 - 2 في عهد الموحدين

وعلى غرار المرابطين، استمرت العلاقات المغربية السودانية على عهد الموحدين، يشهد على ذلك الرسالة التي أرسلها والي سجلماسة (في مطلع القرن 13م) لملك غانة بشأن تيسير ظروف التجارة ما بين المملكتين، ونصها كما احتفظ به المؤرخ التلمساني أحمد المقري:" نحن نتجاور بالإحسان وإن تخالفنا في الأديان، ونتفق على السيرة المرضية، ونتألف على الرفق بالرعية، ومعلوم أن العدل من لوازم الملوك في حكم السياسة الفاضلة، والجور لا تعانيه إلاّ النفوس الشريرة الجاهلة. فقد بلغنا احتباس مساكين التجار ومنعهم من التصرف فيما هم بصدده. وتردد الجلاّبة إلى البلد مفيد لسكانها ومعين على التمكّن من استيطانها، ولو شئنا لاحتبسنا من في جهتنا من أهل تلك الناحية، لكن لا نتصوب فعله، ولا ينبغي لنا أن ننهي عن خلق ونأتي مثله والسلام".(14)

ولعل في هذه العلاقات الطيبة التي جمعت المغرب ببلاد السودان وقتئذ، ما حفز البلاط الموحدي على استقطاب أحد أدباء مملكة كانم (الواقعة على الحافة الشمالية لبحيرة التشاد)، الأديب أبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكانمي، الذي دخل يوما على الخليفة الموحدي يعقوب المنصور، فأنشده مادحا:

أزَالَ حِجَاَبه عنِّي وعَـيْنِي **** تراه من المَهَاَبَةِ في حِجَابِ

وقَـرَّبَني تَـفَضُّـلُه ولكن **** بَعُدْتُ مَهَابَةً عند اقْتِرابـي(15)

الهوامش:

(1) - نلفت نظر القارئ، أن البحاثة الأستاذ جان هنويك يحيل مرارا على الترجمة الفرنسية للشهادات والمقتطفات المصدرية المعتمدة لديه، والتي أوردها جوزيف كيوك في مدونته المشهورة. و سنردّ الشهادات المصدرية لأصلها العربي مع الإشارة لصفحات الترجمة الفرنسية في المدونة المذكورة:

- Joseph Cuoq, Recueil des sources Arabes concernant l’Afrique Occidental du 8 au 16esiècle (BILAD AL-SUDAN). Paris, CNRS, 2 éd, 19 7 5. p 48 . [ المترجم ]

(2) - تمتد حدود بلاد السودان أو بلاد التكرور من المحيط الأطلنتي(في جزئه السنغامبي) غربا إلى حواشي بحيرة التشاد شرقا، فيما تنتصب الحدود العمودية بين الضفة الجنوبية للصحراء الكبرى ومقدمة نطاق الغابات الاستوائية. وحسب الإحداثيات المعاصرة، تنحصر بلاد السودان فيما بين خط عرض 11 و17 شمالا. وإلى جانب الاصطلاحين الأصِـيلين المنوه بهما، يروج في الدراسات الأكاديمية وغيرها، عدد آخر من الاصطلاحات الحديثة التي تؤدي تقريبا نفس المعنى والدلالة، وهي: السودان الغربي، وإفريقيا الغربية، والسودان النيجيري، والسنغامبيا بمفهومها الواسع كما وظفه بوبكر باري في دراساته. [ المترجم]

(3) - اليعقوبي، كتاب البلدان، ص. 360. ومدونة كيوك، ص 48.

(4) - أبو عبيد البكري ، كتاب المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، وهو الجزء الخامس من المسالك والممالك. باريس: ميزونوف 1965. حققه وترجمه للفرنسية: دوسلان. صص156-183. ومدونة كيوك: صص 82-109. كما ينظر: - V. Monteil, «Al-Bakrî (Cordoue 1068) : Routier de l’Afrique blanche et noire», Bull. de l’I. F. A. N., XXX (1968), 39-116.

(5) - توجد ولاتة حاليا في أقصى الجنوب الشرقي لموريتانيا.

(6) - توفر مدينة سودانية على قاض وقتئذ (القرن 14م)، يعد مؤشرا قويا على مدى رسوخ وتطور التجربة الإسلامية بها.

(7) - عبد الرحمن السعدي، تاريخ السودان باريس: ميزونوف، ط. II ، 1981. تحقيق وترجمة للفرنسية: هوداس وبنوة. ابن بنان البرتلي، فتح الشكور في معرفة علماء التكرور . بيروت: دار الغرب لإسلامي1981. تحقيق: إبراهيم الكتاني ومحمد حجي.

(8) - تنبكت ← تلمسان عبر توات وگورارة /تنبكت ← سجلماسة ومدن حوض وادي درعة عبر مملحة تغازة.

(9) - « Can ò est une destrois villes de l’Afrique, les autres étant Fès et le Caire, dont les Mauresdisent qu’il n’y a chose au monde que l’on n’y trouve. Elle est placée sur untriangle à égale distance de Fès et du Caire, chacune d’elle étant distantel’une de l’autre de deux mois de route».Voir in D. Lange et S. Berthoud, L’intérieur de l’Afrique Occidentale d’après Giovanni Lorenzo Anania (XVIesiècle), Cahier d’histoire mondiale, XIV (1972), 339.

(10) - إشارة للفتوحات الإسلامية الأولى التي قادها عقبة بن نافع الفهري ببلاد المغرب فيما بين عامي 50 و62 من الهجرة (670-681م). [ المترجم]

(11) - D. Conrad et H. Fisher, «The conquest that never was: Ghanaand the Almoravids, 1076: I. The Arabic sources », History in Africa, IX (1982), 21-59.

(12) - مجهول، كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار، الدار البيضاء: دار النشر المغربية، 1985. نشر وتعليق: سعد زغلول عبد الحميد، ص 219 . ومدونة كيوك، ص 177.

(13) - Voir Sven Rubenson (avec la collaboration de Getatchew Haileet John Hunwick), Acta Aethiopica I :Correspondence and Treaties, 1800-1854, Northwestern University Press / Addis Ababa University Press, 1987.

(14) - أحمد المقري، نفح الطيب. بيروت 1968. المجلد الثالث، ص 105.

(15)- أخذا عن الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى. الدرالبيضاء، 1955. ج.5، ص 103

وفي عهد الدولة السعدية، حافظ أحمد المنصور الذهبي (ت. 1603م) على علاقاته مع مملكة كانم- برنو. وقد تطورت علاقات البلدين بشكل متسارع، خاصة بعدما رفض الباب العالي العثماني، طلب ماي إدريس عاهل كانم- برنو تزويده بالسلاح الناري بغاية إقامة الجهاد في المناطق الوثنية ببلاد السودان. وعلى إثر ذلك توجهت سفارة لمراكش لتحقيق نفس الغرض، فاستقبل أحمد المنصور سفير ماي إدريس، وأخبره أن ركن الجهاد لا يصح شرعا دون رعاية من إمرة المؤمنين، لذلك طلب منه البيعة باعتباره أميرا للمؤمنين. وبعد تبادل لسفارات عديدة بين العاهلين، أرسل ماي إدريس وثيقة البيعة لأحمد المنصور، غير أن السفير الذي حملها توفي في طريقه إلى المغرب، ولا نعلم ما إذا كان عاهل كانم- برنو ماي إدريس (1564-1596م) حصل على المساعدة العسكرية التي طلبها.
3-3- في عهد المرينيين
وإذا عدنا لغرب بلاد السودان خلال القرن 14م، سنلاحظ مع ابن خلدون أن العلاقات المغربية السودانية، تطورت بشكل لم يسبق له مثيل، حيث سارت بين السلاطين من ملوك بني مرين وملوك إمبراطورية مالي العديد من السفارات. ويظهر أن السلطان أبا الحسن المريني (1330-1349م) بجانب عاهل امبراطورية مالي منسى موسى (1312-1337م)، كان لهما الدور البالغ في تقعيد أسس هذه العلاقة وبناء عمارتها،" [فـ] توارث تلك الوصلة أعقابهما" على قول ابن خلدون، الذي كان شاهدا ومتتبعا للكثير من أحوال العلاقات المرينية المالية، والسفارات المتبادلة بين البلاطين.
وقد لا نجد نصا أفصح في التعبير عن ظروف وحيثيات هذه المرحلة، مثلما عبر عنها مؤرخنا صاحب العبر، حينما قال:" كان بين السلطان منسى موسى وبين ملك المغرب لعهده من بني مرين السلطان أبي الحسن مواصلة ومهاداة سفرت بينهما فيها الأعلام من رجال الدولتين واستجاد صاحب المغرب من متاع وطنه وتحف ممالكه مما تحدث عنه الناس [...] ولما استولى السلطان أبو الحسن على المغرب الأوسط وغلب بني زيان على ملكهم، عظم قدره وطال ذكره وشاعت أخباره في الآفاق. وسما السلطان منسى موسى إلى مخاطبة السلطان أبي الحسن [...] فأوفد عليه جماعة من أهل مملكته مع ترجمان من الملثمين المجاورين لبلادهم من صنهاجة، فوفدوا على السلطان أبي الحسن في سبيل التهنئة بالظفر [عام1337م]. ونزع [ أبو الحسن] إلى مذهبه في الفخر، فانتخب طرفا من متاع المغرب وماعونه وشيئا من ذخيرة داره. وأسنى الهدية وعين رجالا من أهل دولته [...] أوفدهم بها على ملك مالي، وتوغل [الرّكب] في القفر إلى بلد مالي بعد الجهد وطول الشّقة، وأحسن منسى سليمان [1341-1361م] مبرتهم ومنقلبهم وعادوا إلى مرسلهم في وفد من كبار مالي يعظمون سلطان الحسن ويوجبون حقّه ويؤدون طاعته ويذكرون من خضوع مُرسلهم وقيامه بحق السلطان أبي الحسن واعتماله في مرضاته ما استوصاهم به".(1)
ولعل خير ما يترجم المستوى الرفيع الذي بلغته العلاقات المرينية المالية، إنما يكمن في الحفل الديني الذي صنعه السطان منسى سليمان بعاصمة ملكه برسم التعزية في فقدان السلطان أبي الحسن المريني. ووافق إقامة الحفل الديني، وجود ابن بطوطة بالعاصمة نياني في أحد شهور عام 1353م، فدعاه السلطان المالي لحضور وقائع التعزية، فتأثر رحالتنا غاية التأثر بهذه المبادرة التي ظلت عالقة بذهنه، فسجلها ضمن ما سجله عن مملكة مالي المسلمة.
والغالب على الظن، أن الشاعر الأندلسي أبا إسحاق الساحلي الذي تعرف عليه منسى موسى بمكة أثناء حجته المشهورة عام 1324م، ثم استقدمه معه لمالي في السنة الموالية بغاية الاستفادة من علمه وخبرته الهندسية في العمارة، كان له دور لا يستهان به في توطيد العلاقات بين البلاطين المريني والمالي. ذلك أن الساحلي أثناء إقامته واستقراره بعاصمة مالي، كان يتردد على المغرب، بل إنه دخل يوما على السلطان أبي الحسن المريني، وأنشده قصيدة شعرية، حفزه فيها على ضم تلمسان.(2)
3-4- في عهد السعديين
وعلى عهد السعديين، استمرت العلاقات المغربية السودانية على نفس الوثيرة خلال القرن 16م، وتوطدت مع العديد من الممالك والإمارات الواقعة على الضفة الجنوبية للصحراء، منها ما أشرنا إليه سابقا بخصوص مملكة كانم-برنو، ومنها المستجدة مثل تلك التي قامت بين السعديين ومملكة أغاديس، ثم مملكة كِبي الواقعة شمال شرق بلاد حوس.(3)
وما من شك في أن أهم العلاقات الديبلوماسية التي نسجها السعديون مع بلاد السودان، إنما تمثلت في تلك التي ربطتهم بمملكة سنغاي على عهد الأسكيين(1493-1591). على أن ما أحاط بهذه التجربة من صعوبات مختلفة، وما ترتب عليها من مخلفات، أدت في نهاية المطاف بأحمد المنصور للقيام بحملة عسكرية، استعمل عليها القائد جودر باشا عام 1591م، استهدفت ضم مملكة سنغاي. وتشكلت بذلك وحدة مغربية شملت مجال سنغاي، مما سمح أكثر من أي وقت مضى بتوثيق وترسيخ عرى التواصل بين جميع جهات الدولة السعدية.
وقد قام بالمنطقة السودانية من الدولة السعدية، نظام حكم عرف تحت اسم الرُّماة، اتخذ من مدينة تنبكت مقر سلطته. وكلما دعت الضرورة، كان أحمد المنصور الذهبي يعيّن على رأس النظام أحد قواد جنده المخلصين، يُطلَق عليهم الباشوات.
3-5- في عهد العلويين
وعلى إثر انهيار الدولة السعدية، خاصة بعد وفاة أحمد المنصور الذهبي عام 1603م، أخذ الباشوات(الرّماة) يستقلون بنفوذهم عن السلطة المركزية بمراكش. وجراء الأحوال الداخلية والمستجدات الدولية، فإنه باستثناء المحاولات الجادة للسلطان مولاي إسماعيل (1672-1727م)، لم يتوفق سلاطين الدولة العلوية في تجديد وإنعاش العلاقات السياسية مع تنبكت باعتبارها القلب النابض لمنطقة الحوض الأوسط لنهر النيجر؛ لكن العلاقات التجارية والثقافية الروحية، ظلت على ما كانت عليه، وهذا ما يفسر استنجاد السودان وفقهاء تنبكت (عام 1893م) بالسلطان العلوي مولاي الحسن بغاية درء وصد الغزو الاستعماري الفرنسي للمنطقة.(4)
4 ـ الهجرات
تمثل التحركات البشرية والهجرات القبلية، القناة الثالثة التي ساهمت في إخصاب العلاقات المغربية السودانية. فمنذ القرون الإسلامية الأولى، شكل الفضاء الجغرافي الممتد من نهر السنغال والحوض الأوسط لنهر النيجر إلى الأندلس، مجالا سهلا ومتيسرا لتحركات القبائل الصنهاجية.(5) ولعل أوضح شاهد أو نموذج يعكس هذه السيولة البشرية في المجالات المعنية، يتجلى في شواهد قبور گـاو الرخامية، التي صنعت في أغلبها بألميريا الأندلسية، ثم عبرت البحر الأبيض المتوسط والصحراء إلى أن وصلت للمدينة السنغائية في ملتقى القرنين 11 و12م.
والكثير من هذه الشواهد تحمل أسماء عربية لأمراء وأميرات سنغيين، كما رسم على بعضها آيات من القرآن الكريم. ويظهر أن بعض هذه الشواهد هي من صنع محلّي، حاول تمثّل النموذج المستورد على المستوى الفني ومنه رسم الخط.(6)
وشهدت المنطقة هجرات واسعة فيما بين القرن 14 و16م، إذ خلال هذه الفترة تنامى زحف قبائل بني هلال العربية في اتجاه المحيط الأطلنتي، ثم تدافعت بعض فروعها (حسان) من الجنوب المغربي إلى الصحراء، فزاحمت القبائل الصنهاجية المنتشرة هنالك منذ قرون عديدة. وبعد ذلك داخلتها بوسائل سلمية (مثل المصاهرة والتحالف) أو حربية عسكرية(حرب شرببه). ونتيجة لهذا التثاقف والاحتكاك مختلف الأبعاد بين العناصر العربية والأمازيغية، ظهرت ثقافة المور [ = Maures ] أو البيضان،(7) التي تستعمل لهجة عربية مختلطة بالعديد من الكلمات المحلية الزناگية، و هي اللهجة التي أصبحت تعرف بـ الحسانية.
وعلى المستوى الاجتماعي– السياسي، انقسم المجتمع البيضاني منذئذ إلى ثلاث فئات متمايزة في وظائفها، ثم ترسخ التقسيم أو التراتب الاجتماعي بعد حرب شرببه أواخر القرن 17م، وظل قائما إلى حين دخول الاستعمار الفرنسي للمنطقة؛ والفئات المعنية، هي: حسان والزوايا و اللحمة أو ازناگـة.(8)
وكانت حياة القبائل المحاربة من حسان تقوم على الترحال وتربية الماشية والغزو والنهب. فيما كانت قبائل الزوايا (جمع زاوي) مختصة ومهتمة بالشأن الديني والتعليم الإسلامي، مما أهلها لتولي الخطط الدينية. وقد ارتبط اسم الزوايا بالعديد من المراكز الحضرية التي أنشأوها، واستقر الكثير منهم بها، مثل وادان وشنقيط وتيشيت وولاتة.
وترتبط هذه المراكز بشبكة من الطرق الواصلة فيما بينها، كما أنها تشكل في جملتها حلقة وصل بين المغرب وبلاد الصحراء. ويظهر أن زوايا منطقة القبلة(= الـگـبلة)،(9) كان لهم دور هام وحاسم في نشر الثقافة المغربية العربية الإسلامية بمنطقة السنغامبيا وما يوجد وراءها من جهات وأقاليم، وامتد تأثيرهم الديني والثقافي بعد نهاية القرن 17م، ليشمل الحوض الأوسط لنهر النيجر.
وحينما برزت قبيلة كنتة التي تدعي الأصل العربي شأن الكثير من قبائل الصحراء، وأصبحت تمثل قوة قبلية وثقافية – دينية ضاربة في جل المجالات الصحراوية من شرق منطقة القبلة إلى تنبكت، أخذت تلعب دور الوسيط فيما بين ضفتي الصحراء خلال القرنيين 18 و19م، خاصة فيما بين واحات توات وأزواد وتنبكت. وكان لأسرة البكاي الكنتية بتنبكت علاقات وطيدة بعلماء وفقهاء المغرب، وتمكنت بفضل نفوذها الروحي والتجاري من أن تلعب دورا بالغ الأهمية بمنطقة الساحل والصحراء وبلاد السودان خلال القرن 19م، إن على المستوى الديني أو السياسي.(10)


5 ـ انتشار الإسلام: الأسلمة
ألمعت سابقا للتأثيرات الثقافية المغربية التي بلغت إفريقيا الغربية عبر الفقهاء والعلماء والدعاة المسلمين. ومظاهر التأثير التي أود التوقف عندها، تتمثل في ثلاثة عناصر، وهي: الكتابة العربية والرسم بالخط العربي، والمذهب المالكي، والطرق الصوفية.
لا شك أن مختلف طرائق رسم الخط العربي المنتشرة في الصحراء وإفريقيا الغربية، إنما تجد جذورها أو تنهل من الرسم الموسوم بالخط المغربي. ويبدو أن سبل انتقاله إلى نيجيريا والحوض الأوسط لنهر النيجر، تم انطلاقا من طرابلس الغرب والقيروان، بينما انتقل لبلدان منطقة السنغامبيا(11) من المغرب الأقصى والأندلس مرورا ببلاد شنقيط. ولم يستقر الرسم المغربي بإفريقيا الغربية على حاله، بل خضع واستجاب للحاجيات الروحية والمادية المحلية، فصبغه النسّاخ هنالك بتحويرات فنية خاصة ومميزة.
ويمكننا القول إن أهل المنطقة، استعملوا الحرف العربي مع التغييرات التي أدخلوها، للتعبير عن ثقافتهم الأم. فعلى سبيل المثال استعانت لغات ولهجات الولوف والفلان والحوس بالحرف العربي قبل وصول الأوروبيين للمنطقة، وقبل إدخال الألفبائية الرومانية إليها. وبذلك توفر لنا أدب إفريقي خالص مكتوب بالحرف العربي يعرف بالأدب الأعجمي، وهو بحاجة شديدة للدراسة العميقة، مثلما الأمر بالنسبة لموضوع انتشار استعمال الحرف العربي بإفريقيا الغربية والتطورات التي شهدها رسمه. وتدلنا مجموع هذه المظاهر على إنسية مغربية بالغة التأثير في إفريقيا، ومَجمَع الباحثين مدعو لأن يخصّها بقدر كبير من الاهتمام والبحث العلمي.(12)
5-1- المذهب المالكي هبة بلاد المغرب
أعتقد أن المذهب المالكي هبة بلاد المغرب. ظهر أول الأمر بالمدينة المنورة، غير أن الغرب الإسلامي شكل التربة الخصبة التي احتضنته ورعته إلى أن استقام عوده واشتد عضده. وكان لمدارس القيروان وقرطبة، فيما بين القرن 9 و القرن 11م، الدور الرائد بهذا الشأن.
وقبل قيام الحركة المرابطية، لم يكن المذهب المالكي سائدا في المغرب الأقصى، لكنه لم يكن غائبا، حيث كان حضوره مزاحما بقوة من المذاهب والنحل الأخرى، مثل المذهب الشيعي والخارجي، دون الحديث عن هرطقة برغواطة بتامسنا.
وحينما انتصر المذهب المالكي بصفة نهائية بشمال إفريقيا، انتقلت سيادته لإفريقيا الغربية منذ بداية القرن 12م، وذلك بحكم مالكية التجار والدعاة والفقهاء الذين عملوا على نشر الإسلام فيما وراء الصحراء. وكذلك بحكم فعالية القبائل السودانية التي اعتنقت الإسلام المالكي مبكرا، ثم أخذت تنشره بين بني جلدتها، نخص بالذكر منهم قبيل الديولا (وريث الماندينغ: Manding )، الذي اشتهر بممارسة التجارة في بلاد السودان طيلة العصر الوسيط.
5-2- لطرق الصوفية بإفريقيا جنوبي الصحراء
وعلى غرار عمل المغاربة على نشر الإسلام المالكي بإفريقيا جنوبي الصحراء، فقد كان لهم كذلك الدور الحاسم في نشر الطرق الصوفية بها، خاصة منها الشاذلية والتجانية، اللتين اصطبغتا بروح مغربية خالصة. كما عرفت الطريقة القادرية، التي نشأت ببغداد وانتقلت لبلاد المغرب، انتشارا ملحوظا في الحوض الأوسط لنهر النيجر بعد القرن 17م، وذلك على يد المريدين من الأسرة الكنتية.
وما من شك في أن هناك شخصيتين كان لهما فضل كبير في الانتشار الواسع للطريقة التجانية بإفريقيا الغربية خلال القرن 19م وما بعده. أولهما، الشيخ الحاج عمر بن سعيد الفوتي (ت.1864)، الذي تزعم حركة إصلاحية وجهادية بالمنطقة، وخلف لنا كتابه الموسوم بـ " رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم".(13) وثانيهما، الزعيم السنغالي الشيخ إبراهيم نياس (ت. 1975)، الذي عمل واجتهد في نشر الطريقة ببلده الأصلي وما جاوره من بلدان مثل غانا وشمال نيجيريا، حيث يوجد الكثير من مريديه.
وبالنسبة للطريقة القادرية، يُعدّ الشيخ عثمان بن فودي أو عثمان بن فوديو كما هو شائع لدى أهل حوس (ت. 1817)، الشخصية البارزة التي ساهمت بحظ وافر في انتشارها. والشيخ عثمان من أصل فلاني، ازداد عام 1754 شمال شرق نيجيريا الحالية. وفي عام 1804، قاد حركة جهادية ضد ملوك وأمراء بلاد حوس، وتمكّن في نهاية المطاف من تأسيس دولة مركزية شملت الفضاء الثقافي الحوسي وهوامشه، وعُرفت بالدولة السّـكتية نسبة لاسم العاصمة: سُكُتُ.(14)
وبالنظر للدور الكبير الذي لعبه الشيخ عثمان في تاريخ الحياة الدينية والثقافية والسياسية في المجال الحوسي وهوامشه، فإن أصداء ذكراه، وذكرى أعماله الجليلة ما تزال حية في ذاكرة النيجيريين لحد الآن؛ والكثير من أبناء وأحفاد الأمراء الذين عيّنهم الشيخ ورتّبهم على رأس الجهات والأقاليم يتمتعون إلى الوقت الراهن بتقدير كبير لدى الأهالي، وإن افتقدوا السلطة السياسية.
وقد خلّف الشيخ عثمان وأخوه عبد الله وابنه محمد بلّ ما يزيد عن ثلاثمائة مؤلف، غالبا ما يعود فيها السند على العلماء المغاربة، مما يبرز مدى تأثرهم بالإنتاج العلمي المغربي سواء في جانبه الفقهي أو الصوفي.(15)
وإذا كانت التأثيرات في العلاقات ما بين ضفتي الصحراء غالبا ما تأتي من الشمال، فإننا لا نعدم بعض الحالات الاستثنائية، منها نموذج رحلة الولي أحمد اليمني، الذي خرج عام 1668م من زاوية بقرية صغيرة على النيل الأزرق (بجمهورية السودان)، وجال في إفريقيا من أقصاها الشرقي إلى أقصاها الغربي.
وأثناء تجواله كان يقصد أهل الصلاح ورجال التصوف والمريدين، حيث زار الكثير منهم في بَرْنُو والإير، وحينما بلغ فاس، تعلق بمريدي الزاوية الدلائية، مما جعل أحدهم: محمد المسناوي يكتب نبذة عنه، لم يتم بعد تحقيقها وإخراجها. (16) ومن أولياء الله العارفين الذين التقى بهم أحمد اليمني في رحلاته، نجد ولي الله سيدي عبد الله بن عبد الجليل البرنوي، الذي ذاعت كراماته واشتهرت في المغرب بفضل رواية أحمد اليمني، وبفضل ما كتبه عنه أحمد بن عبد الحي الحلبي، وهو رجل شامي الأصل كما يظهر من نسبته، اتخذ من فاس مستقرا له. ومضمون التأليف يندرج ضمن الكتابات المناقبية، حمل عنوان:" ريحان القلوب فيما للشيخ عبد الله البرنوي من أسرار الغيوب".(17)

الهوامش:
(1) - ابن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدإ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن والاهم من السلطان الأكبر. بـيـروت: دار الكتاب اللبناني، 1968. المجلد 6، صص 416-417. والمجلد 7، صص 554-555. ومدونة كيوك، صص 348-351.
(2) - J. O. Hunwick, « An Andalusian in Mali : a contrbution to the biography of Abu Ishâq al-Sâhilî, c. 1290-1346», Paideuma, XXXVI (1990),59-66.
(3) - John O. Hunwick, A little-known diplomatic episode in the history of Kebbi (c. 1594), Journal of the Historical Society of Nigeria, V, 4 (1971), 575-81.
(4) - يظهر أن البحاثة القدير جان هنويك، ربما قفز سهوا على العلاقات المغربية السودانية على عهد الوطاسيين. ذلك أنه في سياق العلاقات الحميمية التي جمعت بين الأسر الحاكمة في كل من المغرب و بلاد السودان، حاول الوطاسيون ملوك فاس إنع ـ اش هذه العلاقات التقليدية ، فبادر محمد الوطاسي البرتغالي بإرسال سفارة إلى الحاج أسكيا محمد (1493-1528م) . وكان ممن سار في الوفد السّـفاري المغربي الحسن الوزان المعروف بليون الإفريقي، الذي دوّن وسجّـل لنا الكثير من مشاهداته وملاحظاته حول بلاد السودان في مؤلفه المشهور:" وصف إفريقيا ". [المترجم]
(5) - تقدم لنا المواد المصدرية العربية خلال العصر الوسيط، لوحة ذات قيمة معتبرة بخصوص التوزيع الجغرافي للقبيل الصنهاجي لمتونة. ذلك أنه فضلا عن مواقهم الصحراوية المعهودة وتنقلاتهم في المغرب المرابطي بما فيه الأندلس، يمكننا أن نجد آثارهم في أعماق بلاد السودان بجني أو نياني مثلا، أو في الحواضر السودانية من الحوض الأوسط لنهر النيجر إلى المحيط الأطلسي جنوب نهر السنغال، خاصة في منطقتي فوت تور وفوت جلو. [المترجم]
(6) - J. Sauvaget, « Les épitaphes Royales de Gao » , Bull. de l’I. F. A. N., XII (1940), 418-440.
ـ وجل الأسماء المنقوشة والمرسومة ذات شحنة دينية بالغة، حيث تحيلنا على أسماء الصحابة أو الخلفاء الراشدين، أو زوجات الرسول(صلعم). [المترجم]
(7) - استعملت المصادر العربية القرسطوية مصطلح "البيضان" للدلالة على مجموع القبائل الصحراوية المنتشرة فيما بين المحيط الأطلسي إلى حواف بحيرة التشاد. والتوظيف هنا يعتمد تمييزهم عن السودان المجاورين لهم من جهة الجنوب. بيد أن الاصطلاح منذ مطلع القرن 18م عرف تطورا في شحنته الدلالية، فأصبح دالا على بعد ثقافي أكثر منه عرقي.[ المترجم]
(8) - حسان: يحتكرون القوة العسكرية ويمارسون السلطة السياسية بالغصب والغزو، ضمن ما عرف بالنظام الأميري. الزويا: اختصوا بالعلم والتعليم والقضاء والفتوى، الأمر الذي جعلهم يحتكرون المعرفة الدينية، مما وفر لهم سلطة رمزية فاعلة داخل المجتمع البيضاني. اللّحمة أو ازناگـة: وهم الأتباع أو القبائل الغارمة، يعملون في الأنشطة الاقتصادية، خاصة في مجال الرعي، ويقومون بخدمة حسان والزوايا مقابل توفير الحماية لهم. [المترجم]
(9) - كلمة القبلة في المصادر العربية القرسطوية (كما مر بنا في نص اليعقوبي) تعني الجنوب. لكنها في الثقافة البيضانية، تستعمل للدلالة على المنطقة الجنوبية الغربية من بلاد شنقيط (= موريتانيا الحالية)، أي المنطقة المنحصرة فيما بين المحيط الأطلنتي ونهر السنغال. [ المترجم]
(10) - شكلت هذه القضية موضوع أطروحة متميزة، لباحثة مغربية، تمت مناقشتها مؤخرا برسم نيل الدكتوراه بباريس. انظر:
- Zahra Tamouh, Le Maroc et le Soudan au XIXe siècle. Contribution à une histoire régionale. Thèse de 3e cycle, Université de Panthéon- Sorbonne (Paris I), 1982.
(11) - بصفة عامة، فإن منطقة السينغامبيا، تضم مجموع الدول الواقعة بين نهري السينغال والنيجر، وتمتد أفقيا من المحيط الأطلسي لتشمل عددا من الدول، منها: السنغال ومالي وغينيا وسيراليون وساحل العاج وغانا ونيجيريا والنيجر...الخ. وقد كان الباحث بوباكر باري، من أبرز المؤرخين الأفارقة الذين روجوا لاستعمال المصطلح بمفهوم جغرافي- استراتيجي، أكثر منه تاريخي، حيث يضم بالنسبة له حوالي 16 دولة. [المترجم]
(12) - الدراسة الوحيدة التي أنجزت لحد الآن حول الموضوع، هي لبيفار:
- A. D. H . Bivar, «The Arabic calligraphy of West Africa», African ******** Review, VI (1968), 3-15.
(13) - للاستزادة حول الموضوع، يمكن الرجوع للدراسة القيمة التي أنجزها الأستاذ الباحث أحمد الأزمي: الطريقة التجانية في المغرب والسودان الغربي خلال القرن 19م. الرباط: منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 2000. [المترجم]
(14) - فودي: تعني في لغة الفلان الفقيه. وبالنسبة لمراحل وأطوار جهاد الشيخ عثمان بن فودي، فقد تناولها ابنه محمد بلّ في كتابه الموسوم ب: " إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور ". وقد اشتغلت عليه الباحثة بهيجة الشاذلي وحققته، برسم نيل د.د.ع.، جامعة محمد الخامس بالرباط، السنة الجامعية 1989-1990. وبعد التصحيح والمقابلة بنسخ جديدة، صدر هذا العمل ضمن منشورات معهد الدراسات الإفريقية بالرباط، 1996 .
(15) - تجدر الإشارة هنا أن الكثير من مخطوطات هؤلاء الأعلام الثلاثة،، متوفرة بالخزانات المغربية.
(16) - المخطوط محفوظ في الخزانة العامة بالرباط، ورقمه، د 6/471.
(17) - توجد نسخة فريدة من المخطوط، تحتفظ بها إحدى الخزانات المغربية الخاصة. انظر: محمد إبراهيم الكتاني، مصادر تاريخ إفريقيا من خلال المخطوطات المغربية. الرباط: منشورات الأكاديمية المغربية، العدد الرابع، 1987. ص 242.

6 ـ رجال العلم والمؤلفات
ما توقفنا عنده من قضايا خلال القسم الأول من هذه الدراسة، يعدّ تمهيدا لما نحن بصدده، حيث إن القسم الثاني يمثل بيت القصيد في انشغالاتي العلمية. وأود في البداية أن أشدّد على أن جل عناصر الجالية المغربية، ممن استقروا ببلاد السودان (من تجار وفقهاء ودعاة) غير معلومين لدينا، إذ نجهل الكثير عنهم. وغني عن التذكير، أن الفضل يرجع لهم في إخصاب الحياة الدينية وتنمية حال الثقافة العربية الإسلامية بالمراكز الحضرية السودانية منذ استقرارهم بها. وأكثر من ذلك يمكننا تأكيد أن المدن التي قامت عند نهاية الضفة الجنوبية للصحراء خلال القرنين 10 و11 للميلاد، مثل أودغشت وسَني القريبة من گـاو، إنما شيّدها رجال من أصل مغربي.
وما تطرحه المواد المصدرية من إشارات فقيرة وضحلة بخصوص دور هؤلاء الأعلام، لا يفصح سوى عن نسبة ضئيلة من مجموع الأعمال الجليلة التي قاموا بها في بلاد السودان. غير أن ذلك لن يمنعنا من تتبع آثارهم وهم يجتازون الصحراء، ويقاومون عدوانيتها البالغة في سبيل الاستقرار بين ظهراني السودان بغاية تحقيق الأهداف التي طوقوا بها أنفسهم.
وقد كان علينا أن ننتظر إلى غاية القرن 14م، لنقع على آثار مصدرية دالة على الأدوار الإيجابية التي قامت بها عناصر الجالية المغربية المقيمة في حواضر إفريقيا الغربية. ولا ريب أن أهمها، يتمثل في الشهادات التي خلفها الرحالة المغربي ابن بطوطة عن المنطقة، وذلك على إثر زيارته لبلاد السودان عام 1352م. وللتذكير فقد كانت الرحلة السودانية البطوطية، خاتمة سياحته خارج حدود المغرب المريني.
6-1- الرحلة السودانية البطوطية
وانطلاقا من سجلماسة في طريقه إلى نياني عاصمة مملكة مالي، توقف رحالتنا بولاتة (=إيولاتن)، ولقي هنالك رجلا فاضلا من مدينة سلا يدعى ابن بداء، كان قد كاتبه من قبل بشأن كراء منزل له بالمدينة. ثم واصل طريقه في اتجاه عاصمة المملكة السودانية، وحين دخوله إليها استقر بحي البيضان الذي يقطنه المغاربة مع عناصر عربية مصرية. ومما استحضره رحالتنا بهذا الشأن قوله:" كنت كتبت قبل ذلك لجماعة البيضان، وكبيرهم محمد بن الفقيه الجزولي وشمس الدين بن النقويش المصري ليكتروا لي دارا [...] فوصلت إلى مدينة مالي حضرة ملك السودان، فنزلت عند مقبرتها ووصلت إلى محلة البيضان وقصدت محمد بن الفقيه فوجدته قد اكترى لي دارا إزاء داره فتوجهت إليها وجاء صهره الفقيه المقرئ عبد الواحد بشمعة وطعام ثم جاء ابن الفقيه إليّ من الغد وشمس الدين بن النويقش وعلي الزودي المراكشي وهو من الطلبة".(1)
وفي طريق العودة إلى المغرب، مرّ ابن بطوطة بـگـاو ولقي هنالك عددا من المغاربة، منهم محمد بن عمر المكناسي والحاج محمد الوجدي والفقيه محمد الفيلالي إمام مسجد البيضان بالمدينة. ومن گـاو انتقل إلى تكدا القريبة من منطقة الإير، ولفت نظره وفرة مناجم النحاس بها، واهتمام الناس بصناعة هذا المعدن. وبتكدا أقام في منزل قريب من منزل شيخ المغاربة: سعيد بن علي الجزولي. ومنها قفل راجعا إلى المغرب، مرورا بتوات رفقة قافلة مغربية.
والكثير من المعلومات الأصيلة عن مملكة مالي وأحوالها في منتصف القرن 14م، الواردة في الموسوعة الضخمة للعمري "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار"، أسندها المؤلف لرجل من جهة دكالة بالمغرب: الشيخ الثقة أبو عثمان سعيد الدكالي، الذي أقام ببلاد السودان مدة 35 سنة. ونفس الأمر نلاحظه مع ابن خلدون أثناء استعراضه لتاريخ مملكة مالي، حيث اعتمد هو الآخر على رواية رجل من أهل سجلماسة: القاضي الثقة أبو عبد الله محمد بن وانسول، الذي استعمله أهل گـاو في خطة القضاء بالمدينة. فليس غريبا والحالة هذه، أن يتقلّد منصب الكتابة في بلاط الدولة السنغائية خلال القرنيين 15 و16م، كتّاب جلهم من أصل مغربي.
6-2- علماء مغاربة أثروا في الحياة الثقافية لبلاد إفريقيا
وانطلاقا من القرن 15 وإلى غاية القرن 19م، ستتصاعد أهمية معلوماتنا عن هؤلاء الأعلام من الرجال المغاربة الذين كان لهم دور بالغ التأثير في الحياة الدينية والثقافية ببلاد السودان منذ القرن 11م، نذكر منهم:
*- العالم المغربي القَوْري، الذي انتقل الكثير من تلامذته لبلاد السودان بغرض التدريس. ومحمد بن القاسم بن محمد القوري المتوفى عام 872هـ/ 1467م، من أصل أندلسي، هاجرت عائلته إلى المغرب واستقرت بمكناس، وبها ولد وتابع دراسته الأولى. وبعد ذلك استقر بفاس، وبها اشتهر علمه وذاع صيته كعالم في الفقه والتفسير والطب، بل إنه تقلد خطة الإفتاء بفاس، وكان "آخر أئمة الصوفية المحققين الجامعين لعلمي الحقيقة والشريعة" (2) على قول العلامة أحمد باب. ويعدّ القوري من تلامذة الشيخ أحمد زروق (ت. 899م).(3)
*- الشيخ ابن غازي، خطيب مسجد مكناس ثم مسجد القرويين بفاس، وهو شيخ مخلوف البلبالي الذي سنتحدث عنه بعد قليل.
*- القاضي عبد الله بن أحمد الزموري، المؤرخ وشارح "كتاب الشفا" للقاضي عياض. قام برحلة لولاتة، ودرّس هنالك، وممن تتلمذ على يديه الشيخ النحوي، ابن قاضي تنبكت أندغ محمد، وهذا الأخير تتلمذ على يديه بدوره عدد كبير من علماء تنبكت، وتوفي الزموري بعد 888 هـ.(4)
*- الفقيه الحافظ مخلوف البلبالي، نسبة لواحة تابلبالت على الضفة الشمالية للصحراء، أخذ عنه الكثير من الطلبة بولاته وفاس، ثم رحل برسم التدريس في أكبر مدن شمال نيجيريا: كنو وكاتسينا (= كشن)، فضلا عن تنبكت. وفي آخر حياته عاد إلى المغرب واشتغل بالتدريس في مراكش، قبل أن يقتل مسموما بعد عام 1534.(5)
*- عبد الرحمن القصري، اشتهر بسقّين، تتلمذ على يدي كل من الشيخين مخلوف البلبالي وأحمد زروق. أمضى معظم شبابه بالمغرب، ثم رحل إلى المشرق في طلب العلم. وبعد أداء فريضة الحج، توقف بمصر لاستكمال دراسته، ومنها توجه إلى إفريقيا الغربية، فدخل مدينة كنو. ومما جاء في ترجمته عند محمد ابن جعفر الكتاني:" دخل [عبد الرحمن سقين] كنو وغيرها وحدّث بمحضر ملوكهم وأجلوه للتحدث على الفرشُ الرفيعة ووصلوه الصلات الجزيلة من جوار وغيرها[...] فمما أهدي إليه وأعطاه سلطانهم يوم لقيه، خمسون صرة من التبر في كل واحدة خمسمائة مثقال. ولد له هناك بعض الأولاد لسنين كثيرة".(6)وبعد جولاته العلمية بمدن بلاد حوس عاد لفاس، حيث عمل خطيبا بمسجد الأندلسيين، ثم سرعان ما تقلد خطة الإفتاء بالمدينة، وبها توفي عام 956هـ.
وهناك جانب ثان أكثر تعقيدا، نود التوقف عنده بهذا الشأن، لأنه يعبر عن حالة مخصوصة، ويبرهن في ذات الوقت على أن الدور الديني والعلمي الذي قام به هؤلاء الفقهاء والتجار والدعاة المغاربة، لم يقتصر نجاحه على الساحة الصحراوية وما وراءها من البلدان السودانية، وإنما عادت ثمرات هذا النجاح بالفائدة على أهل المغرب أنفسهم.

6-3- الحركة المرابطية ودورها في نشر المذهب المالكي في إفريقيا
وليس أحسن من نموذج الحركة المرابطية للتّدليل على ما نرومه من قصد. فقد قامت هذه الحركة ببلاد الصحراء في منتصف الطريق بين المغرب وبلاد السودان خلال القرن 11م. ونحن نعلم أن أصل الحركة قام في إطار كنفدرالية صنهاجة التي تشكلت أساسا من لمتونة وجدالة ومسوفة. ويظهر أن الإسلام انتشر بين القبائل الصنهاجية خلال القرنيين 9 و10 للميلاد، غير أن إسلامهم كان وقتئذ سطحيا، إذ لم تكن لهم معرفة عميقة بحدود الدين.
وربما كانت هذه الحالة الدينية المتواضعة لصنهاجة، أحد العوامل الأساسية التي حفزت زعيم الحلف، الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي للتوقف بالقيروان أثناء عودته من رحلته الحجية، بهدف لقاء شيخ المالكية بها أبي عمران الفاسي(ت. 1039م).
وأثناء لقاء الرجلين، طلب الأمير من الشيخ المالكي أن ينفذ معه إلى صحراء صنهاجة أحد تلامذته بغاية تعميق فهم قومه لقواعد الشريعة. وشاءت الظروف أن يُنتخب عبد الله بن ياسين الجزولي المالكي للقيام بالمهمة، فوجدها فرصة سانحة، لترسيخ المذهب المالكي بالصحراء، والقضاء على المذاهب والنحل المنافسة، مثل المذهب الشيعي أو الخارجي.
وحينما بسطت الدولة المرابطية نفوذها على الصحراء والمغرب والأندلس، ازدادت قوة ونفوذ المذهب المالكي، باعتباره المذهب الرسمي للدولة، وترسخ وجوده على امتداد الرقعة الجغرافية الواقعة في ظل نفوذهم.
6-4- أولى القبائل السودانية التي اعتنقت الإسلام على المذهب المالكي
ومن القبائل السودانية الأولى التي اعتنقت الإسلام على المذهب المالكي، قبيل الديولا، أحد فروع السونَنْكي أو الساراكولي، ومعنى اسم الديولا في اللهجة المحلية: التّجار. وبالفعل، فقد كان الديولا يتمتعون بحيوية ونشاط بالغ في مجال التجارة ببلاد السودان، ونتيجة لذلك كانت لهم علاقات مع تجار المغرب، حيث كانوا يحملون إليهم الذهب، ويقايضونه بمعدن ممالح الصحراء.
ونتيجة لهذه الاحتكاكات الاجتماعية والاقتصادية، أصبحت بعض فئات الديولا مختصة في التعليم الإسلامي، كما أخذته عن المرابطين المالكيين. وبالنظر لطبيعة وظيفتهم التجارية، فقد كانوا يتنقلون ويتجولون في أعماق بلاد السودان، وهذا ما يفسر قِدم الإسلام في العديد من حواضر دلتا النيجر مثل جني وكَابرة، أو زاغة التي زارها ابن بطوطة، ووصف أهلها بأنهم " قدماء في الإسلام، لهم ديانة وطلب للعلم".(7)
وفي نفس السياق، يحتفظ مؤرخ تنبكت عبد الرحمن السعدي بذكرى طيبة عن أهل كابرة في باب العلم والصلاح. ومما ذكره أثناء ترجمته للقاضي مودب محمد الكابري (من أهل القرن 9هـ/15م)، عند انتقاله من كابرة إلى تنبكت: " وتنبكت حافلة يومئذ بالطلبة السودانيين أهل المغرب [= يقصد الغرب] المجتهدين في العلم والصلاح حتى قيل إن معه [ أي مودب محمد] في روضته ثلاثون كابريا مدفونون، كلهم عالمون صالحون".(8)
ولم تكن مكانة مدينة جنّي في هذا الباب بأقل مما كانت عليه الحال في زاغة، بل ربما فاقتها وتفوقت عليها إن على المستوى الديني أو التجاري، يقول عنها عبد الرحمن السعدي:" [وجني] مدينة عظيمة ميمونة مباركة ذات سعة وبركة [...] وهي سوق عظيمة من أسواق المسلمين وفيها يلتقي أرباب الملح من معدن تغازة وأرباب الذهب من معدن بيط [...] ومن أجل هذه المدينة المباركة تأتي الرفاق من جميع الآفاق إلى تنبكت[...] وقد ساق الله تعالى لهذه المدينة المباركة سكانا من العلماء والصالحين من غير أهلها من قبائل شتى وبلاد شتى".(9)
وكما يفصح نص السعدي، فقد كانت العلاقات التجارية والثقافية وثيقة وقوية فيما بين تنبكت وجني، وكان علماء وفقهاء المدينتين في حركة دؤوبة بينهما. ومن أشهر العائلات العلمية التي توطنت تنبكت، وأنجبت لها قضاتها وأئمتها خلال القرن 16م، عائلة أقيت التي يرجع نسبها القبلي لمسوفة، وتعود أصولها للأمير المرابطي أبي بكر بن عمر (ت.1087م). والعائلة الثانية تنحدر من أحد علماء جني المنتسبين للديولا، عُرف بـبغيع، دخل تنبكت خلال القرن 16م، وهنالك اشتهر ولديه أحمد ومحمد بالعلم والصلاح.
ومحمد بغيع هو الذي أصبح فيما بعد شيخ وأستاذ أحمد باب(1556-1627)، الفقيه العلامة الذي فاقت شهرته بلاد السودان، وبلغت بلاد المغرب والمشرق. وقد أخذ عنه أحمد باب الفقه المالكي، والتفسير والنحو وغيرها من العلوم الإسلامية السائدة وقتئذ. (10) وبناء على سلسلة الأخذ، نلاحظ أن المعرفة المغربية انتقلت إلى صنهاجة الصحراء الرّحل، ومنهم انتقلت إلى علماء وفقهاء بلاد السودان، ثم عادت لتستقر في تنبكت لدى صنهاجة الحضر أو الحضريين.
ولم تخمد القصة عند هذا الحد، ذلك أنه في سياق الأحداث المترتبة عن الحملة التي قادها جودر باشا عام 1591م، (11) تمّ ترحيل العلامة أحمد باب إلى مراكش عام 1593، ودامت مدة إقامته الجبرية بها زهاء ثلاث عشرة سنة. وإذا كانت الاعتبارات السياسية قد أملت على السلطة السعدية اتخاذ مثل هذا التدبير، فإنها في المقابل لم تقلل من شأنه العلمي، بل على العكس من ذلك فتحت له من الأبواب ـ ما لم يكن متاحا له ببلده الأصلي ـ، فتفرغ للتأليف وتصدّر للتدريس والفتوى. وبموازاة ذلك كان يلح على زيارة عدد من أضرحة الأولياء بمراكش وفاس وأغمات. وممن أخذ عنه واستفاد من علمه بالمغرب، قاضي فاس أبو القاسم بن أبي نعيم الغساني، وقاضي مكناسة أبو العباس أحمد بن القاضي، ومفتي مراكش عبد الواحد بن أحمد الرگراگي، ومؤرخ تلمسان أحمد المقري.
الهوامش:
(1) - ابن بطوطة، الرحلة، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، بيروت: مؤسسة الرسالـة، ط. 4، 1985. حققه وعلق وقدم له: علي المنتـصر الكـتـاني. ج 2، صص780- 781. مدونة كيوك، ص 301.
(2) - نفس المصدر، ص 85.
(3) - أحمد باب نيل الابتهاج، القاهرة 1932-33. صص318-320
(4) - نفس المصدر، ص 161.
(5) - نفس المصدر، ص 344.
(6) - محمد بن جعفر الكتاني، سلوة الأنفاس ومحدثات الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس. فاس 1316هـ/ 1898-9. الجزء الثاني، ص 160.
(7) - ابن بطوطة، تحفة النظار، ص 779. مدونة كيوك، ص 300.
(8) - عبد الرحمن السعدي، تاريخ السودان، ص 47-48. والترجمة الفرنسية ص 78
(9) - نفس المصدر، ص 11-12. وص 22 من الترجمة الفرنسية.
(10) - يقدم لنا أحمد باب في "النيل" ترجمة وافية لشيخه محمد بغيع، انظرها في ص341-342. وبالنسبة لترجمة أحمد باب، ينظر: ـ ابن بنان البرتلي، فتح الشكور فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور. بيروت: دار الغرب الإسلامي1981. تحقيق: إبراهيم الكتاني ومحمد حجي. صص31-37. كما ينظر كذلك:
ـ J. O. Hunwick, A new source for the biography of Ahmed B ậbậ al-Tinbukti ( 1556-1627), Bull. School of Oriental& African Studies, XVII (1964), 568-593.
(11) - إلى غاية دخول الاستعمار الفرنسي، تعتبر الحملة العسكرية السعدية أول وآخر صدام عسكري من هذا الحجم على امتداد تاريخ العلاقات بين ضفتي الصحراء كما احتفظت به المواد المصدرية المختلفة. [المترجم]


وههنا، تجدر الإشارة إلى أن أحمد باب أيام إقامته بالمغرب، أنتج جل وأهم مؤلفاته، بما فيها " نيل الابتهاج" الذي ترجم فيه لرجالات المذهب المالكي، ومختصره " كفاية المحتاج". ويدلنا هذا المؤشر ـ أكثر من غيره ـ على مدى التكامل الثقافي بين المغرب وإفريقيا الغربية.
6-5- كتاب "الشفا" ودوره في دعم الثقافة العربية الإسلامية في إفريقيا الغربية
إن كلّ من تقصّى تاريخ الثقافة العربية الإسلامية بإفريقيا الغربية، لا يمكنه بأي حال أن يتجاهل الدور الحاسم للمغرب بهذا الشأن. فقد كانت المصنفات المغربية ـ في جل العلوم السائدة وقتئذ ـ رائجة ومعتمدة في مناهج التدريس وحلقات العلم بالمنطقة، كما أن أسماء العلماء والفقهاء المغاربة كانت تتردد في مؤلفات السودان بطريقة تلقائية ومعتبرة، مما يؤكد مكانتها الجوهرية في سندهم العلمي والصوفي. وسنقتصر هنا على طرح نموذج على سبيل المثال والتمثيل لا غير.
فقد كان كتاب الشفا للقاضي عياض بن موسى(ت. 1149م) متداولا في حلقات الدرس بتنبكت منذ القرن 14م، كما كانت قراءته في الأعياد والمناسبات الدينية عادة جارية لدى السودان. وإلى غاية القرن العشرين ظل الكتاب معتبرا لديهم، حيث أذكر أني حضرت حفلا دينيا صنعه أحد علماء تنبكت في شهر رمضان من العام الهجري 1386 ( ديسمبر 1966)، وتخلل الحفل قراءة كتاب الشفا، ثم شرح له باللغة السّنغية. وكانت للرحالة الإيكوسي الأصل منـگـو بارك، تجربة مماثلة في أحد قرى مالي عام 1797.(1)لقد كان "للـشـفـا" تأثير واسع في المنطقة، يتجاوز كل ما يمكن أن ننتظره من السودان بخصوص اعتبارهم وتقديرهم الكبير لمصنفات الأمداح النبوية، ولذلك يعدّ من حيث الأهمية ثالث المؤلفات المعتبرة في مناهج التدريس الأساسية لدى الديولا، حيث يأتي مباشرة بعد موطأ مالك بن أنس، وتفسير الجلالين.(2)
ويتناول "كتاب الشفا" في صفحاته الأخيرة مسألة الكفر والتكفير، وقد استحضر الفقيه المغيلي(ت. حوالي 1509م) نفس المعالجة التي طرحها القاضي عياض أثناء جوابه على أسئلة سلطان سنغاي، الحاج أسكيا محمد(1493-1528). وكان هذا الأخير قد طلب فتوى بشأن تكفيـر عمل الملك الذي سبقه، سُنِّي عـلي (1464-1492)، ونجح في غرضه، إذ تمّ تكفير سني علي بسبب ما كان يأتيه من أعمال غير شرعية، حيث كان حسب السلطان الحاج أسكيا محمد يستحل الحرام، ولا يصوم رمضان ولا يقيم الصلاة بقواعدها المعروفة. وقد شنّع بهذه الأعمال مؤرخا تنبكت: محمود كعت وعبد الرحمن السعدي، إذ كثيرا ما لقبوه بالظالم الفاجر أو الفاسق.(3)
ونفس الحجج التي طرحها الفقيه المصلح محمد بن عبد الكريم المغيلي بشأن الكفر والتكفير في نهاية القرن 15م، تم تداولها في القرن 19م من لدن زعماء الحركات الإصلاحية ببلاد السودان مثل الشيخ عثمان بن فودي والشيخ الحاج عمر الفوتي. إذ حاول كلاهما التأكيد على أن ممارسة الجهاد ضد كل من يأتي أعمال الكفر، أمر جائز شرعا، وذلك على الرغم من ادعاء الأعداء السياسيين لهما بأنهم مسلمون ينتمون لأمة ودار الإسلام، مما يوجب إسقاط الجهاد شرعا.(4)
ويتضح مما تقدم أن كتاب الشفا للقاضي عياض كان له تأثير واسع في إفريقيا الغربية، سواء فيما يتعلق بجانبه الروحي أو الفقهي التشريعي، حيث اعتُمِد في معالجة مسألة الكفر والتكفير. ولهذا احتل مكانة متميزة (بعد القرآن الكريم، وصحيح البخاري، ومختصر خليل) في قلب وعقل السودان، وهي مكانة ما تزال فاعلة ومؤثرة لحد الآن.
7- التصوف المغربي وتأثيراته في الحياة الدينية بإفريقيا
القضية الأخيرة التي أود تناولها في هذه المحاضرة، تتعلق بالتصوف المغربي، وتأثيراته العميقة في الحياة الدينية بإفريقيا. وسنتناول المسألة من خلال شخصيتين ذات وزن معتبر: سيدي أحمد التجاني، وسيدي أحمد بن إدريس الفاسي، المعروف بالعرايشي.
7-1- الطريقة التجانية
ازداد سيدي أحمد التجاني بقرية عين ماضي بالجزائر عام 1737، غير أن الفترة الأخيرة من حياته(حوالي 25 سنة)، وهي الفترة الهامة في سيرة الرجل وتكوينه الصوفي، قضّاها بفاس، حيث أنشأ بها زاويته التجانية، وبها يوجد مرقده وضريحه(ت. 1815).
وعلى الرغم من أن الفيض الروحي للطريقة التجانية، ينهل من تراث التصوف الإسلامي، خاصة من كتابات الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي (ت.1240)، فإن سيدي أحمد التجاني كان يعتبر نفسه، خاتم الأولياء وقطب الأقطاب، باعتبار رؤيته للرسول (صلعم)، وأخذه ورد طريقته عنه دون واسطة شيخ أو وليّ.(5)
انتقلت الطريقة التجانية إلى إفريقيا الغربية، عبر بعض المريدين الشناقطة من قبيلة إيدّ أُوعْلِ، نخص بالذكر منهم محمد الحافظ العلوي الشنقيطي (ت.1838م). وكانت العادة الجارية في طلب العلم لدى أهل السنغال وغيرهم من أهالي السودان الفرنسي، الانتقال إلى محاضر العلم الشنقيطية، ثم بعد ذلك يرحلون للمراكز العلمية المغربية. وعبر هذه القناة، عرفت التجانية طريقها الأول بين السودان جنوب نهر السنغال، ومنهم الحاج عمر بن سعيد الفوتي(1794-1864).
على أن الرحلة الحجية للشيخ عمر بن سعيد، وفّرت له بالحجاز فرصة لقاء ومصاحبة أحد أركان الطريقة التجانية، وهو المغربي محمد الغالي بوطالب التجاني(توفي بالحجاز عام 1829م)، حيث صاحبه مدة من الزمن وأصبح من مريديه المخلصين، مما جعل محمد الغالي ينصبه ويعينه خليفة للطريقة التجانية ببلاد السودان. وعند عودة الحاج عمر لبلده، واستقراره بفوت جالون، أخذ يعطي الورد التجاني لأصحابه، وينصب المقدمين عليهم. فشاع أمره في منتصف القرن 19م؛ ثم طمح لتأسيس دولة إسلامية تجانية، عرفت نجاحا كبيرا على المستوى الروحي بالسودان الغربي، لكنها اصدمت على المستوى السياسي بطموحات ومكائد الاستعمار الفرنسي، فضلا عن مناورات الأمراء والزعماء المحليين المنافسين. فانهارت الدولة العمرية التجانية على إثر دخول العسكر الفرنسي للعاصمة: سيـگو أو سِـگُ، عام 1892.(6)
وللتجانية فروع عديدة بالسنغال، أهمها الفرع الذي أنشأه إبراهيم نياس في عشرة الثلاثين من القرن العشرين، وعرفت باسمه. وقبل القيام برحلته الحجية عام 1937، توقف إبراهيم نياس ـ كعادة السنغاليين ـ بفاس، حيث التقى بشيخ التجانية بها، سيدي سكيرج (ت.1964). وتذكر روايات أن هذا الأخير، كان له الفضل في انتماء نياس للطريقة التجانية، بينما تفصح أخرى عن أنه كان من مريدي الطريقة قبل وصوله لفاس، وأن اللقاء بين الرجلين، إنما جاء لترسيخ مكانة الشيخ نياس، حينما نعته سيدي سكيرج بـ " غوث الزمان".
ومهما يكن من أمر اختلاف الرويات بهذا الشأن، فإن الشيخ إبراهيم نياس يعد أحد الأعلام البارزين الذين كان لهم فضل كبير في نشر الطريقة التجانية بالسنغال، وفي غيرها من دول إفريقيا الغربية بفضل تجواله بها ودعوته لها، خاصة في غانا وشمال نيجيريا، حيث نجد الآلاف المؤلفة من المريدين التابعين للطريقة التجانية الإبراهيمية.(7) وللتجانية مريدون في أقطار إفريقية أخرى، مثل مصر وجمهورية السودان، حيث توجد فروع عديدة للطريقة.
7-2- الطريقة الإدريسية
والشخصية المغربية الثانية التي كان لها إشعاع صوفي بإفريقيا خلال القرن 19 للميلاد، وجايلت سيدي أحمد التجاني، تتعلق بالشيخ سيدي أحمد بن إدريس، الذي أمضى معظم حياته خارج المغرب. وعلى الرغم من التقدير والاعتبار الذي حظي به من جانب رجال التصوف، فقد ظل مجهولا لدى الجمهور العريض، ربما بسبب شخصيته الغامضة والمثيرة للقلق.
ونتطلع من خلال الدراسة الحديثة التي أنجزها الأستاذ الإنجليزي الأصل: أوفاي(8) (O’Fahey)، وكذلك من خلال الأبحاث التي يجريها نخبة من الباحثين النرويجيين المنتمين لجامعة بيرگر( Berger )، أن تكشف لنا عن الجوانب المغمورة في حياة وسيرة الشيخ سيدي أحمد بن إدريس، وأن تلقي المزيد من الضوء بما يعرّف به لدى جمهور المهتمين والمختصين.
وتصدر طريقة الشيخ سيدي أحمد بن إدريس في سلوكها عن النهج النبوي، بحيث يتم تربية المريد على السنة النبوية بصرامة بالغة. وهذا ما جعل الطريقة تجد قبولا حتى بين العلماء المناهضين للتصوف والطرقية، باستثناء الوهابيين بالحجاز.
قلنا قبل قليل، إن سيدي أحمد بن إدريس قد أمضى معظم حياته خارج المغرب، حيث أقام مدة طويلة بالحجاز وجنوب مصر، ثم أمضى بقية حياته في اليمن. وخلال تنقلاته وجولاته التقى بعدد من العلماء والفقهاء المسلمين، وتدريجيا أخذ نهجه وسلوكه ينتشر ويتوسع بين المريدين بشكل محدود في [جمهورية] السودان وجنوب مصر. والواقع أن الطريقة التي اتخذت اسمه (الإدريسية)، لم تظهر ولم تعرف شهرتها ـ التي أصبحت عليها ـ إلا بعد وفاته، وذلك من خلال عدد من مريديه، الذين استقلوا وأقاموا عدة زوايا باسمهم الخاص في نواحي مختلفة من إفريقيا؛ أشهرها، الطريقة السنوسية بليبيا.
وخلال الربع الأخير من القرن 19م، شهدت الطريقة السنوسية انتشارا واسعا في التشاد والنيجر وشمال نيجيريا ودارفور. كما وجدت قبولا في أعالي حوض النيل، بسبب عمل أحد المكّيين من مريدي الشيخ سيدي أحمد بن إدريس، يُدعى محمد عثمان المرغيني. وكان المرغيني قد جال في السودان المصري مدة طويلة بغاية كسب المريدين، ثم أسس زاوية أطلق عليها اسم "الخاتمية"، أصبح لها شأن كبير في الحياة الدينية والسياسية بالمنطقة.
وفي القرن الإفريقي الذي يجمع كلا من إيريثيريا وإثيوبيا والصومال، خرجت زاويتان من رحم النهج الإدريسي: الأحمدية والصالحية؛ وهاته الأخيرة، ليست سوى زاوية مستقلة عن الزاوية "الرشيدية" بالسودان.(9) وتوجد حاليا العديد من الزوايا أو الفروع التي تمتح من النهج الإدريسي، منتشرة في شمال شرق إفريقيا، بل إننا نجد بعض المريدين لها في أصقاع بعيدة، مثل الهند وماليزيا.
وغني عن البيان أن النموذجين اللذين استحضرناهما (الطريقة التجانية والإدريسية)، لا يمثلان إلا النزر القليل من الروح الصوفية التي فاضت عن المغرب، وتجاوزت حدوده الجغرافية إلى كافة أنحاء العالم الإسلامي، مثلما الحال مع طريقة أبي الحسن الشاذلي( القرن 13م)، التي انتشرت بمصر والمشرق الإسلامي، غير أنها لم تعرف نجاحا واسعا ـ مثل التجانية ـ في دول إفريقيا جنوبي الصحراء.(10)
خاتمة
وأخيرا، أقول بأني حاولت مقاربة موضوع شاسع ما يزال بحاجة للدرس والتقصي الدقيقين، وما توقفت عنده لا يمثل سوى ملامح عامة، تحصّلت لدي من خلال تجربتي في حقل الدراسات الإفريقية. فالأكيد أن العلاقات الثقافية والاقتصادية والسياسية بين المغرب ودول إفريقيا جنوبي الصحراء موغلة في القدم. وحينما بلغ الإسلام المغرب الأقصى وأخذت بشائره تظلل الصحراء وما وراءها من بلاد السودان، بات التأثير المغربي على المستوى الثقافي ـ في مختلف الأبعاد التي مرّت بناـ، أكثر وضوحا ورسوخا. وحينما نضجت تجربة الإسلام والثقافة العربية الإسلامية بالسوداني الغربي، لم يجد السودانيون بدا من الرجوع بزادهم العلمي إلى ينابيعه الأصلية، وبذلك ساهموا في إخصاب الحياة الثقافية المغربية.
وما شدنا من التأثيرات المتبادلة بين ضفتي الصحراء مما فرضه موضوع المحاضرة، لا يقلل في شيء من أمر العلاقات الثقافية الزاخرة والمتواصلة عبر التاريخ بين المغرب ومصر أو الحجاز. فالأفكار والنخبة المتنورة على اختلاف مشاربها المعرفية والعرفانية في العالم الإسلامي لا تعترف بالحدود الوطنية ولا بنوع الجنس أو لون جلده.
وأود في الختام أن أدعو الجيل الجديد من الباحثين الشباب المغاربة لبذل المزيد من الجهود بهدف التعريف بتاريخ العلاقات الثقافية بين المغرب ودول إفريقيا جنوبي الصحراء، حتى نكتب صفحة جديدة من تاريخ إفريقيا.
الهوامش:
(1) - Travels in the Interior Districts of Africa Performed in the Years 1795, 1796 and 1797 with an Account of a Subsequent Mission to that Country in 1805, 3e édition, Londres, 1816, t. I, pp. 478-9
(2) - G. Wilks, « The transmission of Islamic learning in the Western Sudan », in Jack Goody (éd.), Literacy in Traditionel Societies, Cambridge University Press, 1968.
(3) - J. O. Hunwick, Shari’a in Songhay: the Replies of al-Maghili to the Questions of Askia al-Hâjj Muhammad, Oxford University Press, 1985, pp18-19.(text arabe)73-74.
(4) - الشيخ عثمان ناظر الشيخ محمد الأمين أمير برنو وجاهد ضد أمراء حوس، والحاج عمر الفوتي ناظر الشيخ أحمد البكاي وجاهد ضد أمير ماسن شيخو أحمدو، بسبب مساندته لأمير وثني سوداني كان في صراع مع الحاج عمر. انظر وراجع: محمد بل، إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور. الرباط: منشورات معهد الدراسات الإفريقية 1996. تحقيق بهيجة الشاذلي. صص 70-75، 81-96، 140-141، 232-248. الحاج عمر عمر بن سعيد الفوتي، بيان ما وقع. نشره وترجمه للفرنسية مهيبو وترييو:
- Mahibou, S. M. et Triaud, J. L., Voilà ce qui est arrivé, Paris, CNRS, 1983.
(5) - انظر: الحاج عمر بن سعيد، رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم، مصر 1963. الباب العاشر. (نشر على هامش جواهر المعاني لعلي حرازم).
(6) - بخصوص سيرة الحاج عمر، والتطورات التي عرفتها دولته سلما وحربا مع الإمارات والدول السودانية من جهة، أو مع الاستعمار الفرنسي من جهة ثانية، ينظر:
_ B. G. Martin, «Notes sur l’origine de la tarîqa des Tigâniyya et sur les débuts d’al-Hâĝĝ Umar», Revue des Etudes Islamiques XXXVII (1969), 267-290; Fernand Dumont, L’Anti-Sultan ou al-Hajj omar Tall du Fouta, Dakar- Abidjan : Les Nouvelles Editions, 1974; David Robinson, The Holy War of Umar Tall : the Western Sudan in the midnineteenth century, Oxford : The Clarendon Press, 1985.
(7) - Ousmane Kane, « La confrérie Tijaniya Ibrahimiyya de kano et ses liens avec la zawiya mère de Kaolack », in Islam et Sociétés au sud de Sahara, III (1989), 27-40, et les références citées là – dedans.
(8) - Enigmatic Saint , Ahmad Ibn Idrîs and the Idrîsî Tradition, Londres: Christopher Hurst/ Evanston: Northwestern University Press, 1990.
ـ وراجع مضمون الهامش رقم 53.[المترجم]
(9) - Nichole Grandin, « Les turuq au Soudan, dans la Corne de l’Afrique et en Afrique orientale» dans les Ordres Mystiques dans l’Islam : cheminements et situation actuelle, publié sous la direction de A. Popovic et G. Veinstein, Paris : Editions de l’E. H. E. S. S., 1986, pp. 165-204.
(10) ـ ينظر بهذا الشأن الدراسة القيمة التي أنجزتها الأستاذة الباحثة زكية الزوانات عام 1998 عن الولي الصالح عبد السلام بن مشيش، شيخ الطريقة الشاذلية[المترجم]:
- Zakia Zouanat, Ibn Mash ish : Maître d’al-Shādhili, Casablanca : Imprimerie Najah el jadida, 1998.

من موقع
http://dev.habous.gov.ma/Ar/detail.aspx?ID=624&z=8&p=8