من نفائس التراث الكردي


المخطوطات التي وصفها المستشرقة مرجريت رودينكو في كتابها الشهير ( وصف المخطوطات الكردية ) وبيان أهمية كل مخطوطة مع التعليقات الضرورية حولها
جودت هوشيا ر

تحتضن روسيا مجموعة نفيسة ونادرة من المخطوطات الكردية التي تمثل جانبا مهما من التراث الكردي وربما خير ما في هذا التراث من آثار أدبية كلاسيكية ونصوص فولكلورية ونتاجات لغوية وتأريخية وأثنوغرافية . وليس ذلك بالأمر الغريب ,

فقد كانت روسيا القيصرية الدولة الأوروبية الوحيدة التي لها حدود مشتركة مع كردستان وكانت السباقة الى اقامة العلاقات الوثيقة مع الكرد
بسبب موقع كردستان الستراتيجي المتأخم لحدود روسيا الجنوبية ولتأمين مصالحها السياسية والعسكرية والاقتصادية ، فقد كان لموقف الكرد خلال الحروب المتكررة بين روسيا وتركيا أحيانا وايران أحيانا أخرى تأثير لايستهان به على نتائج هذه الحروب . وبعد ضم مناطق ما وراء القفقاس الى الامبراطورية الروسية , إشتد اهتمام الروس بالكرد وبلادهم , وتجلى هذا الاهتمام في ظهور أعمال أستشراقية مهمة في روسيا عن الكرد وكردستان بحلول منتصف القرن التاسع عشر .

وكان لكل من أكاديمية العلوم الروسية والجمعية الجعرافية الروسية دور بارز فى هذا المجال . ويقتضينا الإنصاف هنا أن نؤكد بأن روسيا كانت المهد الأول للكردولوجيا بمفهومها العلمي المنهجي و تحتل مكان الصدارة في هذا الميدانالى عهد قريب, حيث أن ما قدمه الكردولوجيون الروس والسوفيت من بحوث ودراسات عن لغة وأدب وتأريخ وثقافة الكرد ومن أعمال علمية ديموغرافية وجيو بوليتيكية عن كردستان يتسم بالعمق و الموضوعية من حيث النوع و يبلغ أضعاف ما قدمه المستشرقون الغربيون من حيث الكم ، وقد بذل الكردولوجيون الروس الآوائل ( ليرخ , فيليامينوف – زيرنوف , يكيزياروف , زابا , اوربيلي , مينورسكي , نيكيتين ) جهودا" كبيرة لاستجلاء تأريخنا وثقافتنا ودراسة تراثنا واجتهدوا في التحليل ولفتوا الأنظار الى قضايا حيوية, لم يسبق لأحد في الكشف عنها وتفسيرها . وإننا ندين لهؤلاء الرواد بالكثير في مجال إثراء تراثنا الثقافي والغوص في منابعه الاصيلة وإلقاء الأضواء على جوانبه المختلفة , يدفعهم الى ذلك حب العلم والمعرفة والاعجاب بالشعب الكردي وخصاله الحميدة , التي تركت أعمق الأثر في نفوسهم . وأعتقد ان الجهد الذي بذله الكساندر زابا , لايدانيه أي جهد آخر , فقد حفظ لنا جزءا" مهما" من تراثنا الثقافي الذي شكل القاعدة الاساسية لدراسة هذا التراث على نحو منهجي من قبل الجيلين الثاني والثالث من الكورولوجيين الروس والسوفيت .

لقد عمل الكسندر زابا بصفة قنصل روسيا القيصرية في مدينتي ارضروم وسميرنا ( أزمير حاليا" ) طيلة (33 ) عاما" ( 1836 – 1869 ) , حيث قام بتكليف من أكاديمية العلوم الروسية , بدراسة اللغة الكردية ولهجاتها وجمع مواد و نصوص تتعلق بأدب وفولكلور و لغة وتأريخ الكرد وكذلك المخطوطات الكردية .

لم يكن زابا مجرد رجل دبلوماسي , بل مثقفا" موسوعيا" ذا نظرة تقدمية بالنسبة الى عصره وسياسة حكومته . وكانت مهمته عسيرة , تكتنفها الصعاب , فقد كان يتعين عليه , أن يتعلم اللغة الكردية ويطلع على التراث الكردى ويختلط بالمثقفين الكرد ويشجعهم على مساعدته في انجاز المهمة التي كلف بها من قبل الأكاديمية الروسية .

وبرغم كل هذه المصاعب , استطاع زابا أن يجمع حوله مجموعة من خيرة العلماء والأدباء في كردستان الشمالية وفي مدينة أرضروم على وجه الخصوص , وفي مقدمتهم الملا محمود البايزيدي .

وتقول المستشرقة الرائدة مرجريت رودينكو ( 1930 – 1976 ) م نقلا" عن زابا - ان البايزيدي ولد على الأرجح في آواخر القرن الثامن عشر بين عامي ( 1797 – 1799 )- وتأريخ وفاته أكثر غموضا" حيث ورد فى بعض المصادر الكردية انه توفي عام 1860 في حين ان ثمة مخطوطات مدونة بخط يده تعود الى عام 1867 م . وكنا اول من صحح تأريخ وفاة البايزيدى ،فى مقالنا المكرس لترجمة حياته واعماله.

لقد قام البايويدي بأعمال جليلة في توثيق التراث الكردي وجمع المخطوطات الكردية واستنساخها وفي تأليف عدد من الكتب باللغة الكردية عن أدب وتأريخ وأثنوغرافيا وفولكلور الكرد . وكان على مدى سنوات عديدة الساعد الأيمن لألكساندر زابا وقد اثمرت جهودهما المشتركة عن جمع مجموعة من أنفس وأندر المخطوطات الكردية الأصيلة التي تضم خير ما في التراث الكردي من آثار ادبية كلاسيكية ونتاجات لغوية وأثنوغرافية وتأريخية ونصوص فولكلورية من الأدب الشعبي الكردي .

وقد ظلت هذه المخطوطات والمخطوطات الكردية الاخرى التي جمعها المستشرقون الروس , في زوايا النسيان في خزائن مدينة بطرسبورغ ( عاصمة روسيا القيصرية والتي كانت تتركز فيها الدراسات الاستشراقية في روسيا القيصرية وفيها المقر الرئيس لاكاديمية العلوم الروسية ) . نقول أن هذه المخطوطات بقيت حبيسة خزائن ولم يعرف بوجودها الا بعض منتسبي معهد الاستشراق أو بتعبير اكثر دقة بعض المسؤولين عن حفظها وربما كانت ستبقى كذلك لولا ان امتدت اليها يد كريمة لعالمة تدرك القيمة الفكرية العظيمة للكنوز والدور الثمينة التي تتضمنها هذه المخطوطات هي يد المستشرقة الروسية الرائدة مرجريت رودينكو , فأخرجتها الى النور ونفضت عنها غبارالسنين والاهمال والجمود , وكشفت النقاب عن محتوياتها وذلك في عام 1957 حين نشرت دراسة قيمة تحت عنوان ( مجموعة الكساندر زابا من المخطوطات الكردية ) ثم أصدرت في عام 1961 كتابها الشهير ( المجموعة اللينينغرادية من المخطوطات الكردية ) ورودينكو هي التي لفتت أنظار الباحثين الآخرين الى وجود عدد كبير من المخطوطات الكردية في خزائن لينينغراد ( بطرسبورغ حاليا" ) ولم تكتف رودينكو بذلك بل كرست حياتها الخصبة وطاقتها العلمية الكبيرة لتحقيق وترجمة ونشر أهم النتاجات الشعرية والنثرية التي تتضمنها هذه المخطوطات وكانت رودينكو قد حصلت على شهادة الدكتوراه ( كانديدات ) في عام 1954 عن واحدة من د رر التراث الكردي وهي القصة الشعرية ( مم و زين ) لأعظم شاعر كردي هو الشاعر والفيلسوف والمفكر الخالد أحمد خاني والذي تعتبر نتاجاته الشعرية ذروة تطور الشعر الكردي في القرن السابع عشر ورائد مدرسة أدبية متميزة ولدت بين جوانحها الشعور القومي الكردي والتطلعات القومية المشروعة للأمة الكردية، وفي عام 1962أصدرت رودينكو كتابا" جامعا" وشاملا عن ملحمة ( مم و زين ) وقامت بدراسة مقارنة لنصوصها الفولكلورية والادبية وترجمتها الى اللغة الروسية مع مقدمة قيمة وتعليقات ذكية وقد اصبح هذا الكتاب مرجعا و مصدرا للباحثين الأخرين وبضمنهم الباحثين الكرد الذين تناولوا هذه القصة الشعرية بالبحث والتحليل فى السنوات اللاحقة ولم يستطع احد منهم فى حقيقة الأمر التخلص من تأثير رودينكو القوى.


منقول