شرف الخصومة


لقد استمعت الى حديث الشيخ «شايش الخريشة» احد رجالات الاردن الذين ورثوا من نضال أهل البادية الاصالة وصدق الكلمة، ووقفت على مجموعة من القيم النبيلة والنادرة، تصلح للتذكير في زمن تعز فيه الرجولة وصدق المواقف، فيقول ان جده «حديثة» قتل رجلا من قبيلة «عنزه»، وفات على ذلك وقت طويل، ثم قدر له ان يخرج الى الصيد، ومعه الصقر وبعض الشباب.

فطار «الصقر» وغاب وطال انتظاره ولم يعد، واستمرت عملية البحث عنه في شعاب الصحراء حتى أخذ العطش منهم مأخذا عظيما، وتراءى لهم عن بعد بيوت من الشعر، فقال «حديثة» امكثوا هنا حتى آتي لكم بالماء.

وكانت المفاجأة عند اقتراب «حديثة» من بيوت الشعر وقوله السلام عليكم، ان قام اليه رجلان، وامسكا بزمام فرسه وقالا له: تفضل يا حديثة، فقال مذهولا: من حديثة، انا رجل عابر سبيل اريد الماء، ولكن الرجال كانوا يتصرفون على وجه يوحي بالثقة، ثم اتوا بمن معه ايضا.

وهنا سأل «حديثة» القوم عن سبب هذا الاعتقال، فقالوا له: انت قتلت رجلا منا! فأنكر حديثة هذا الاتهام على وجه السرعة، ولكنهم لم يكثروا الجدال وقالوا المسألة بسيطة، نريد منك ان تتوجه الى القبلة، وان تقسم بالله العظيم ما قتلته، ولقنه الرجل كيفية القسم: قل: «والله العظيم ما شققت له جلدا، ولا أهرقت له دما» .. وفي هذه اللحظة الحرجة توجه «حديثة» نحو القبلة وأقسم قائلا: «والله العظيم، انا الذي رميت، والله هو الذي قتل».

عبارة بدوية بهذا المعنى

وهنا وقف القوم جميعا في لحظة صمت، مصحوبة بالتهليل والقلوب تخفق، وكانت المفاجأة الكبيرة ان اصحاب البيت هم أهل القتيل، وبادروا بالعفو، واطلقوا سراحه احسانا، لله ولرسوله، بعد هذا الاعتراف.

هذه الحادثة تعيد الانسان الى عالم المثاليات، التي تظهر فيه قيم الصدق ومعاني الرجولة وشرف الخصومة، التي لا يعرفها أبناء اليوم الا من خلال الروايات والقصص التاريخية العابرة.

هذه الحادثة تذكرنا جميعا «بشرف الخصومة» عندما نختلف ونصبح خصوما في ميدان السياسة، ويشتد الحوار وتعلو الاصوات، ويغلظ القول.
.................................
منقول من جريد الرأي