الشيخ عبد الزهراء الكعبي

الشيخ عبد الزهراء الكعبي 8.jpg


من أساليب التكريم التي سلكها أئمة أهل البيت عليهم السلام لتخليد أصحابهم ورفاقهم ربط أسمائهم بعمل من الأعمال الخالدة التي تمارس بمرور الليالي والأيام أبد الدهر ، كما خلد كميل بن زياد النخعي بدعاء أمير المؤمنين عليه السلام الذي يقرأ في كل ليلة جمعة فلا يقال عنه دعاء أمير المؤمنين وانما دعاء كميل .
وخلد أبو حمزة الثمالي بدعاء الإمام زين العابدين عليه السلام في أسحار شهر رمضان الشهير بدعاء أبي حمزة ، وهكذا نرى اقتران هذه الأسماء اللامعة لطلائع الجهاد والعقيدة بهذه الأعمال الجليلة الخالدة .
أما شيخ القراء الخطيب الراحل المغفور له الشيخ عبد الزهراء الكعبي فقد خلده الحسين بقراءة المقتل الذي يعتبر من أهم الوثائق التاريخية لملحمة كربلاء الدامية ، والتي تصور كيف رسم الحسين معالم الحرية والكرامة بدمه الزكي ، وكيف أرسى قواعد العقيدة ، واختط دروب النضال من أجل حماية مبادئ القرآن بإباء وشرف ، ثم تصور تلك الوثيقة الأعمال الوحشية والممارسات البربرية التي ارتكبتها السلطة الأموية الغاشمة بحق أهل بيت النبوة والتي تدلل على عقليتها الجاهلية وخستها ولؤمها عندما ارتكبت أبشع جريمة عرفها التاريخ بذبح أبناء رسول الله وسبي نساءهم وذراريهم ، وقراءة المقتل هي القصة الكاملة لتلك المأساة الرهيبة والحدث التاريخي المرعب .
وقد تفرد الكعبي في عرض قصة المقتل بطريقته الثاكلة وأسلوبه الحزين ، حتى أصبح المقتل ركناً من أركان الشعائر الحسينية ، وقطباً من أقطاب أعمال عاشوراء وفعالية هامة من فعاليات المنبر الحسيني .
وقد حاولت كوكبة من خطبائنا اللامعين تقليد الكعبي في قراءة المقتل وقد وفق بعضهم إلى حد ما ، ولكن تبقى إمارة المنبر الحسيني في قراءة المقتل للمرحوم الكعبي دون منازع .
وكان لا يزال يبث القسم الأول منه يوم العاشر من المحرم من العديد من إذاعات العالم الإسلامي ، ويبث القسم الثاني منه بذكرى الأربعين لمقتل سيد الشهداء عليه السلام .


مولده ووفاته :

بذكرى مولد الصديقة الزهراء عليها السلام في الخامس عشر من شهر جماد الأول في عام 1327 هـ ولد الشيخ الكعبي في كربلاء المقدسة ، وبذكرى وفاتها في الخامس عشر من شهر جماد أيضاً عام 1394 هـ الموافق 6 / 6 / 1973 وفد على ربه آمناً مطمئناً ، وبين الولادة والوفاة مسيرة طولها سبعاً وستين عاماً حافلة بالعطاء والعظمة وكأن الإرادة الإلهية شاءت أن تنطلق هذه المسيرة المظفرة مع الزهراء وولائها حتى أصبح عبد الزهراء اسماً على مسمى وكأن فيه قول القائل :

يا قوم قلبي عند زهراء يقصده السامع iiوالرائي
لا تدعني الا بيا iiعبدها فـانه أشـرف iiأسمائي


نسبه وأسرته :

هو أبو علي الشيخ عبد الزهراء بن الشيخ فلاح بن الشيخ عباس بن الشيخ وادي الكعبي نسبة إلى قبيلة بني كعب المنتهية إلى كعب بن لؤي بن وائل ، وقد نزحت أسرته من المشخاب واستوطنت كربلاء.



دراسته وخطابته :

تعلم مبادئ القراءة والكتابة بالطرق التقليدية عند الكتاب وحفظ القرآن كله في سن مبكرة عند الشيخ محمد السراج في الصحن الحسيني الشريف ، ثم تلقى علومه الدينية في حوزة كربلاء على أفاضل الأساتذة وطلائع العلماء ، فقد أخذ أوليات العلوم على العلامة الشيخ علي الرماحي ، ثم درس الفقه وأصوله على يد العلامة الشيخ محمد الخطيب ، وتتلمذ في المنطق على الشيخ جعفر الرشتي ، وفي علم العروض على الشيخ عبد الحسين الحويزي ، ثم أصبح هو من أساتذة الحوزة النابهين يلقى دروسه في الفقه الإسلامي واللغة العربية على مجموعة من طلبة العلوم الدينية .
أما خطابته فقد تلقاها عن خطيب كربلاء الشهير الشيخ محسن أبو الحب ، والخطيب المؤلف الشيخ محمد مهدي المازندراني ومارس عمله بإتقان وإخلاص حتى أصبح من أبرز الخطباء العراقيين ومن أساتذة المنبر المبرزين ، وقد تخرج عليه جيل من مفاخر خطباء المنبر الحسيني كان في طليعتهم الخطيب الشهير الشيخ عبد الحميد المهاجر والشيخ ضياء الزبيدي والشيخ علي حيدر والشيخ أحمد معرفة وغيرهم من الجيل المعاصر وذكر أحد تلامذته أن أكثر من خمسين خطيباً تأثروا بأسلوبه وطريقته في الخطابة ، وكان يحرص على إعداد جيل من الخطباء متسلح بثقافة دينية صحيحة وكان ينفق جل وقته في توجيه وتربية الخطاء الناشئين ويغدق عليهم بسخاء من مكارم أخلاقه وما يحتاجونه من خبرة منبرية واسعة .
ومما يدمي القلب حسرة وأسفاً ألا نجد ممن يتصدر إمارة المنبر الحسيني رعاية أو توجيهاً أو احتضاناً للجيل الجديد من الخطباء بشكل مركز ومنتظم برغم الحاجة الماسة للرعاية والتوجيه ، وأن يبخل على أبنائه وتلامذته حتى ببعض الوقت أو الجاه لتقديم المساعدة الضرورية الميسورة لديه ، بل على العكس من ذلك تماماً ، فإذا نبغ أحد من هؤلاء الخطباء بكفائته وجهوده الخاصة ، وأصبح في مكانة مرموقة ، وموضع إعجاب في قابلياته وطاقاته المنبرية ، يبادر بسلبية وتشنج في تعامله وقد يتجاوز ذلك إلى العدوانية والمهاترات لتحطيم من يتقدم في هذا المضمار دون وازع من ضمير أو رادع من شرف ، وذلك خلاف الخلق الحسيني ، والتربية الدينية التي يدعو إليها سيد الشهداء عليه السلام ، وما ذلك إلا لضيق الأفق ، وضعف الشخصية واحتكار المهنة ، وعدم التفكير المسؤول عن مستقبل المنبر الحسيني وماله من رسالة مقدسة وأثر بالغ في التربية والإعلام وفق مبادئ آل محمد ، وسوف يسجل التاريخ على صفاته حساباً غاضباً على هؤلاء الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وسوف تلاحقهم ظلامة زملائهم وتلامذتهم من خدمة الحسين في الدنيا والآخرة .
أجل كان شيخنا المترجم خطيباً مربياً مخلصاً في خدمته لسيد الشهداء ، وثنيت له وسادة المنبر الحسيني في كربلاء ، ثم دعي خطيباً لإحياء المواسم الحسينية في كل من الكويت والبحرين والإحساء والقطيف ولبنان وغيرها ، وطبق صيته الأرجاء بقراءة المقتل الحسيني الشهير .



الكعبي والأدب العربي :

يتبادر إلى الذهن عندما يذكر الشيخ الكعبي (مقتل الحسين) وخطابة المنبر إلا أن للشيخ الخطيب باع طويل في الأدب العربي بقسميه الفصيح والدارج ، فقد ذكر المرجاني في كتابه خطباء المنبر أن له ديوان شعر تحت عنوان (دموع الأسى) لايزال مخطوطاً في مكتبته بكربلاء ، ولا يعلم ذا اعتراه التلف أو الضياع في ظل الظروف الراهنة ، ومن نماذج شعره قال مؤرخاً مسجداً في كربلاء :

ذا مـسجد قـد جـددت iiبـناءه أكــارم أهـل عـلا iiوسـؤدد
سـعى بـه عبد الأمير ذو العلى مـن قـد سما بالعز هام iiالفرقد
وشـاطرته فـي الـبناء iiعصبة تـرجو بـذاك الفوز يوم الموعد
يـا داخـلاً فـيه اذكر الله iiهدىً وبـعده صـلي عـلى iiمـحمد
واسـتـغفر الله وأرخ iiقـائـلاً شادوا على التقوى أساس المسجد

وقال في مدح شبيب المالكي :

رأيـت الـمكارم iiجذلانه تـميس فـقلت لها iiمالك
فـقالت شـبيبكم شبَّ بي فأصبح دون الورى مالكي
فـأكرم به من فتىً iiمالكٍ نـمته الـعلا لبني iiمالك

ورأيت في مجموعة خطية عند الخطيب السيد طاهر السيد حسن ملحم أبياتاً في مدح الإمام الصادق عليه السلام لشيخنا المترجم :

لأبـي الـكاظم الإمام iiأيادٍ سـابقات نـعمُّ كـلَّ البرية
أظـهر الله فيه شرعة iiطه بـعد إخـفائها فعادت بهية
رويـت عـنه للأنام iiعلوم هي كانت من قبل ذاك خفية
فـحفظنا تلك العلوم ومن iiذا قـد عرفنا بالفرقة iiالجعفرية


وقرأت في مقال للسيد كاظم النقيب في تأبين الكعبي أنه يحفظ له من الشعر البيتين التاليين :

ليس الشجاع الذي يرمي العدا بـشبا بتاره بالطعن iiوالحرب
بل الشجاع إن نفسه iiطمحت إلى الرذائل ساواها مع iiالربِّ


وذكر له الخطيب السيد مصطفى آل طعمة بيتين من قصيدة في مدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام :

خـليفة طـه فـي البرية iiحيدرٌ ولـيس سـواه فـي الأنام iiأميرُ
إذا امتار أهل الأرض كيلاً فإنني سـوى حـبة تالله لـستُ iiأميرُ


وقد نشرت له مجموعة من المقالات في مجلة صوت المبلغين الكربلائية ، وله مكتبة ضخمة تربو على العشرة آلاف كتاب ، وليس له تأليف مطبوع سوى المقتل .


المحطة الأخيرة :

في ليلة الجمعة بكربلاء سكت صوت الكعبي فجأة ، ذلك الصوت الذي كان للتو يجلجل ناعياً أُم الأئمة بمجلس عزائها ، وتعطلت تلك الحنجرة الخارقة التي تصدح بحزن في مصاب سيد الشهداء عليه السلام لنصف قرن من الزمن ، وتوقف ذلك القلب الطيب العطوف ، واطفأت تلك الروح المتوثبة ، وخمدت تلك الشعلة الحسينية المتوهجة .
لقد هجمت عليه المنية ، وباغته ريب المنون ، بعد أن حضر مجلس الفاتحة لأحد معارفه ، وارتقى المنبر يؤبن الزهراء بذكرى وفاتها ، وبعد فراغه أحس بدوار واضطراب نفسي شديد نقل على أثره إلى المستشفى الحسيني ، وبعد إسعافه عادوا به إلى داره في حي الحسين ، وهناك صعدت روحه إلى بارئها ، ولفظ نفسه الأخير ، والتحق بركب الحسين مع الشهداء والصديقين .
وفي صبيحة الحدث الجلل والخسارة الفادحة هبت كربلاء عن بكرة أبيها ، وزحفت الجماهير من كل حدب وصوب لتشيع خطيبها العظم ، فحملت نشعه على الرؤوس ورفعت جنازته على الأكف ، وكان يوماً مشهوداً ضجت به الناس ضجة واحدة ، وحنت حنة ثاكلة تشيعه الدموع الساخنة ، والزفرات اللاهبة ، وأصوات تسجيلاته تخترق الأفق نعياً وحزناً حتى أنزلوه في مثواه الأخير على وعلى روحك الطيب وجسدك الطاهر ، طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم وفزتم والله فوزاً عظيما .