لا يختلف اثنان في ان الشاعر الشعبي(الملا عبود الكرخي) يعد واحداْ من نوابغ هذا العصر في الشعر العامي. فقد كان مدرسة في هذا النوع من الشعر وله طريقة خاصة في نظمه، وهو يختار من لغة التفاهم ألفاظا واضحة دالة على معان جليلة وينتقي من الكلمات ما يألفه الحضري والبدوي وقد جمع في اسلوبه بين لغة العوام ومايقارب اللغة الفصحى تدريباْ للعوام على الفصيح من القول وهو اسلوب حديث في الأدب العامي، والأدب العامي في بلاد تتغلب عليها الأمية لا يقل شأناْ عن أدب الخواص.
ولد الشاعر الكرخي عام 1861 في جانب الكرخ من بغداد لأبٍ واسع الثراء يتاجر بالإبل والجلود. وقد ادخله والده الكتاتيب وهو في السادسة من عمره، وبعد ست سنوات ترك الكتاتيب وأخذ يرتاد حلقات الدرس في مساجد بغداد. وعندما بلغ الخامسة عشر من عمره دخل معترك الحياة العملية حيث كان يرافق والده في تجارته الى الدول الأخرى، وقد أججت هذه السفرات شاعريته فبدأ ينظم الشعر باللهجة البدوية. وعندما بلغ الخامسة والثلاثين من عمره توفي والده فعاد إلى بغداد واستقر بها حيث عمل في مجال نقل المسافرين وتجارة المواد الغذائية وقد كان وكيلاْ عاماْ لها.
كما انه كان يجيد التحدث باللغات الكردية والفارسية والتركية والألمانية التي أتقنها من خلال تعامله الدائم مع الشركات في هذه الدول أثناء عمله التجاري. وقد كانت له مواقفه الوطنية البارزة حيث التحق للقتال مع المجاهدين عندما قامت الثورة العربية عام 1916. وفي عهد الاحتلال الإنكليزي للعراق أخذ ينشد القصائد الوطنية في جامع الحيدرخانة، وكان ينظم المظاهرات ويقودها بنفسه. وفي عام 1927 أصدر جريدة(الكرخ) حيث لاقى بسببها الكثير من العنت فسجن وأوقف وسيق الى المحاكم عدة مرات. وقد عمل في ميدان الصحافة ستة عشر عاماْ أصدر خلالها عدة مطبوعات الى ان تدهورت صحته عام 1942 فأنقطع عن نظم الشعر ولازم بيته حتى وافته المنية عام 1946.
أما بالنسبة لحياته الخاصة فقد تزوج وهو في العشرين من عمره وبعد فترة توفيت زوجته فتزوج بثانية ثم توفيت فتزوج بثالثة فتوفيت أيضا فتزوج برابعة وكان عمره آنذاك ستين عاماْ، وقد أنجب من زيجاته خمس أولاد وثلاث بنات. وقد تناول في نظمه ونثره الوصف والمدح والرثاء والنقد والتفنيد والمزاح ولم يترك فرصة إلا انتهزها للتنبيه إلى ما شذ عنه القوم. ومن جملة مانبه إليه واهتم به وبقضيته المرأة بكل مالها وما عليها فهو يرى فيها أمه وأخته وزوجته وابنته حيث آزرها ونصرها بالثورة في وجه الظلم والطغيان المحيق بها بنظمه عدد من القصائد في مقدمتها رائعته الشهيرة(المجرشة) فقد عالج فيها تعاسة المرأة العراقية البائسة وشقائها في حياتها، كل ذلك بأساليب انتقادية لاذعة، حيث يصف المعاناة الحقيقية للمرأة بقوله :


ذبيت روحي عالجرش وادري الجرش ياذيها
ساعة واكسر المجرشة والعن أبو راعيها
ساعة واكسر المجرشة والعن أبو راعي الجرش
كعدت يا دادة أم البخت خلخالهة يدوي ويدش
وآني استادي لو زعل يمعش شعر راسي معش
هم هاي دنية وتنكضي واحساب اكو تاليهه



وقد قوبلت هذه القصيدة الرائعة بالاستحسان من الجميع حتى ان الشاعر معروف الرصافي ذكرها في إحدى قصائده التي أرسلها للكرخي فقد جاء فيها : وصف لنا ابنة بؤس ذات مجرشةٍ تقطع الليل في نوحٍٍ وتعديد.
وفي قصيدة أخرى نظمها عندما زار مدينتي البصرة والعمارة ولاحظ الحالة التعسة التي وصلت إليها المرأة العاملة هناك جاء فيها :


يحكلي أن اكسر العبرة بصدري واجذب أنا الحسرة
من شفت حالاْ البصرة زادت همومي عليه
المرأة فوك الراس تحمل طين والأخرى تحمْل
وثالثة أكوام تنشل زبل عند البلدية
ورابعة تجر السفينة وخامسة تدير المكينة
وسادسة الغبرة الحزينة خادمة للارمنية
وسابعة تحمل تراب وثامنة تكرب كراب
وتاسعة تحمل حجار وعاشرة تنزح آبار
حاملة الظيم ومرار وعطش والجوع وأذية
الله يقبلهه العوبة الصيف بنكة الشتة صوبة
وأخت رزنة بالرطوبة تنام نوم السرسرية


وفي سياق دفاعه عن المرأة وحقوقها عمل من جانب آخر على الوقوف بوجه كل دعاة الانحلال الأخلاقي والسفور، بعد ظهور بعض الدعوات لخلع الحجاب والذي تبناه البعض ومنهم الشاعر جميل صدقي الزهاوي حيث كتب قصيدة شهيرة جاء فيها :


اسفري فالحجاب يا ابنة فهرٍ هو داءٌ في الاجتماع وخيم
اسفري فالسفور صبحٌ بهيٌ والحجاب ليلُ بهيم

فكان رده قوياً حيث اشترك في عدة مناقشات حادة على صفحات الجرائد البغدادية مع دعاة السفور وكان له عدة قصائد يرد فيها على هؤلاء حيث كتب قصيدة بعنوان(السافرة) جاء فيها:


بنت الحمولة شلهت ذرعانهه وكصت شعرهه وكصٌرت فستانهه
تمشي رهيفة ولابسة التنورة للركبة تشبه ناكة المطبورة
بالبيت جانت كل وكت مستورة ماشافهة السقة ولاجيرانهه
لنسوان اوربة النجيبة تنتمي وتركت الدارية وثوب الهاشمي
ملبوسهة بالصيف ململ دائمي جواريب لحمي وطايرات اردانهه
جسمي نحل يا ناس روحي تمرمرت من هالعمل وأفكاري مني اتشتت
وسفة على أهل العراق الاصبحت من غير بركع سافره نسوانهه

وفي قصيدة أخرى يرد فيها على كاتبة من دعاة السفور معروفة آنذاك باسم(لامعة) جاء فيها :

يا أديبة (لامعة) شعري النثرج دافعة
حقج ومامن فائدة من عندنا يا سيدة
لازال نفسج رايدة فوتي وبابج واسعة
قرينا بشرحج يامرة انتي عتيكة سافرة
ومن المحقق باهرة وبوب الخلايك قارعة
ماينركع شكج وسِع ما يقبل اخياط وركِع
وبالأمة صار اكبر صدِع والسبب انتي الصادعة


هذا هو شاعرنا الكرخي في نصرته للمرأة الانسانة بكل ما لديها من كرامة وكبرياء وعزت نفس ضد كل من يحاول ان يظلمها او يلوث تاريخها ومواقفها فكان شعره انتفاضة ضد كل المفاهيم الخاطئة السائدة في المجتمع.
لقد كان الكرخي إنساناً بكل معنى الكلمة ' مخلصاً لكل قضيةٍ يرفع لواء الدفاع عنها ' ساعياً إلى إحقاق الحق في كل زمان ومكان ' لذلك حق له أن يكون في مقدمة رجالات عصره اللذين تركوا آثاراً قيمةً بين الناس على اختلاف مستوياتهم وأفكارهم..

قد كسب الملا عبود الكرخي بلهجته العراقية الدارجة والساخرة في أحيان كثيرة من مرارة الواقع وتقلبات السياسة حب وتفاعل العراقيين ومازال البعض من قصائده خالدة في ضمير ووجدان هذا الشعب لحد الآن .
ومن آراءه العميقة والطريفة هو العلاقة بين العراق واشقائه العرب والتي يبدو من خلالها أن التاريخ يعيد نفسه كما يقال وليت الملا عبود حي في زماننا هذا ورأى ما نراه ممن نسميهم بالأشقاء لأضاف ربما كلمة أخرى لمقولة أن التاريخ يعيد نفسه (ولكن أسوأ مما كان) .

يبدو أن العراق والعراقيين بصورة خاصة كان قدرهم الدائم أن يتفاعلوا مع قضايا امتهم وقضايا شعوبها في حين ينقلب الأمر رأسا على عقب حينما تكون القضية عراقية ويراد من اشقاء العراق أن يقفوا بجانبه في محنته.
الملاحظ في طيات تلك العلاقة انها حملت لنا من زمن الملا عبود الكرخي نفس المواقف السلبية ونفس التجاهل والتي تحولت في عصرنا الحاضر إلى ما هو أسوأ حين لايقف معك من تدعوه شقيقا فقط بل يقف على الضد تماما من تطلعاتك وآمالك في الحرية والخلاص فهل كان قدر العراقيين دائما أن مشكلتهم تكمن في اهتمامهم بقضايا الغير أكثر من اهتمامهم بقضاياهم أم ان في الامر مسألة شائكة تتعلق بعقدة النقص العربي وانانيته تجاه العراقيين كونهم أكثر وعيا وحرصا من غيرهم .

كل مشكلة في أي قطر عربي كان العرب يظهرونها في بلدانهم وكأنها مشكلة قومية فيما يحبس العراقيون انفاسهم ألما وحسرة وحيرة تجاه قضيتهم التي لا يبدوا أنها تحرك شيئا في الضمير العربي و لا تظهر صوتا في صمت المقابر العربية وقد التقطت لنا ذاكرة شاعرنا الكبير هذه الالتقاطة الذكية حينما أنشد :-


ومن (سعد زغلول) مات قلبنه كل الكائنات

بالجبايش جاينات صارت و(راوه و عانه)

ويوم مات (المنفلوطي) كثر همًي وقل قنوطي

موتي ياروحي وشوطي لأن مملؤه رعانه

وعندنا (ريس الوزارة) أفزع أوروبا انتحاره

بطل (سعدوني ) اعتباره راقي سيد عالي شانه

(بجرايدهم) خبر ذكروا مختصر ازيد م كتبوا

ما اهتموا ما اعتبروا اعتباره بربع آنه



اشارة إلى انتحار عبد المحسن السعدون رئيس الوزراء العراقي آنذاك وتجاهل العرب كل ما يتعلق بالشأن العراقي منذ ذلك الزمن .

منقول