دولة الموحدين.. ملامح بداية
حدود دولة الموحدين بالمغرب والأندلس
ظهر المهدي بن تومرت في القرن السادس الهجري، وبدأ دعوته الإصلاحية في المغرب؛ فدعا الناس إلى التوحيد الخالص، ولهذا أُطلق على أنصاره اسم "الموحدين"، وسُميت الدولة التي قامت على دعوته دولة "الموحدين"، وجهر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعا لنفسه على أنه المهدي المنتظر والإمام المعصوم الذي يحكم بين الناس بالعدل، واتخذ منهجا في الفقه يقوم على الدراسة المباشرة للقرآن والسنة دون دراسة فروع المسائل الفقهية التي كانت سائدة في المغرب على المذهب المالكي. وكان المهدي بن تومرت يطوف بمدن المغرب يدعو الناس إلى الإصلاح والالتزام بالشرع ومحاربة البدع والمنكرات، وقد لاقت دعوته قبولا بين الناس، فالتفوا حوله أينما نزل. وفي إحدى جولاته التقى بعبد المؤمن علي الكومي، وكان اللقاء في "ملالة" بجانب ميناء "بجاية" شرقي الجزائر.
نشأة عبد المؤمن علي الكومي
وأبو محمد بن علي الكومي من أصل بربري، ولد في قرية "تاجرا" الجزائرية التي تبعد نحو ثلاثة أميال عن مرسى "هنين" على ساحل البحر المتوسط، ولا يُعرف على سبيل اليقين تاريخ مولده. وفي قريته حفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ودرس شيئا من الفقه والسيرة النبوية، ثم رحل إلى تلمسان، وكانت من حواضر العلم، وتلقى العلم على عدد من كبار العلماء، في مقدمتهم الشيخ "عبد السلام التونسي" إمام عصره في الفقه والحديث والتفسير، ثم استعد للرحلة إلى المشرق؛ طلبا للمزيد من المعرفة. وقبل الرحيل سمع بوجود فقيه جليل يتحدث الناس عن علمه الغزير، فاشتاق إلى رؤيته، فاتجه إليه حيث يقيم في بلدة "ملالة" القريبة من "بجاية" بمسافة قليلة. وفي هذا اللقاء أُعجب عبد المؤمن بشخصية "ابن تومرت" وغزارة علمه وقدرته على حشد الأنصار والأتباع، وتخلى عن فكرة السفر إلى المشرق، ولزم ابن تومرت، ودرس على يديْه، وكان عالما كبيرا وفقيها متبّحرا، ودرس في المغرب، ورحل إلى المشرق، وقابل العلماء، وأخذ عنهم، ثم توثقت الصلة بين الرجلين، ثم غادرا "ملالة"، واتجها إلى "فاس"، وفي أثناء الرحلة لم يكف المهدى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكسر آلات اللهو، وإراقة الخمر حتى وصل إلى مدينة فاس، فأقام بها يدرّس العلم إلى سنة (514هـ= 1120م)، ثم ارتحل ومعه عبد المؤمن بن علي الكومي إلى مراكش عاصمة دولة المرابطين، فأقاما بها في (ربيع الأول 515هـ = 1221م).
بداية الصدام مع دولة المرابطين
أقام المهدي بن تومرت في مراكش وأخذ في الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعترض على سياسة الدولة في بعض الأمور التي رآها مخالفة للشرع، ووعظ السلطان حين قابله في المسجد وطالبه بتغيير المنكر، فلما استفحل أمره وتجمع الناس حوله دعا الأمير "علي بن يوسف" العلماء إلى مناظرته فغلبهم بقوة لسانه وحدّة ذكائه وسعة علمه، ولم يجد الأمير مفرًا من طرده من عاصمته، معتقدا أن ذلك كافٍ لزوال خطره على سلطانه، واتجه المهدى بأتباعه إلى "تينملل" وبدأ في تنظيمهم وإعدادهم، وجعلهم في طبقات على رأسها الجماعة التي تمثل أعلى سلطة في حكومته، وهي تتألف من عشرة رجال، كان من بينهم عبد المؤمن بن علي الكومي، ثم أخذ البيعة لنفسه في (غرة المحرم 516هـ= 12 من مارس 1122م)، واستعد لمواجهة المرابطين بجذب الأتباع والأنصار وتجهيز الحملات العسكرية التي حققت بعض الانتصارات، وشارك المهدي في تسع غزوات منها، ولكنها لم تكن كافية لتقويض الحكم المرابطي، وشجعت هذه الانتصارات زعيم الموحدين فأرسل حملة كبيرة بلغت 40 ألف جندي لمهاجمة مراكش عاصمة المرابطين والاستيلاء عليها، ولكنها لقيت هزيمة ساحقة سنة (524 هـ= 1130م) في معركة سميت بمعركة "البحيرة"، على مقربة من أسوار مراكش، وقُتل معظم الجيش الموحدي، ولم ينج من القتل سوى عدد قليل، تسلل تحت جنح الظلام إلى "تينملل"، ولما وصلت أنباء الهزيمة إلى المهدي الذي كان مريضا ساءت صحته وخاب أمله ثم لم يلبث أن توفي في (13 رمضان 524هـ= 20 من أغسطس 1130م).
الكومي زعيمًا للموحدين
تحمل عبد المؤمن علي الكومي أعباء الدعوة عقب وفاة أستاذه، وكانت المسئولية جسيمة بعد الهزيمة المدوّية التي لحقت بالموحدين، واستطاع في صبر وأناة أن يعيد تنظيم شئون دعوته ويجند أنصارا جددا، واستغرق منه ذلك نحو عام ونصف حتى إذا آنس في نفسه قوة وثقة بدأ في الاستعداد لمناوشة المرابطين، وظل يناوشهم دون الدخول في معارك حاسمة، واستمر هذا الوضع حتى سنة (534هـ= 1130م)، وكان عبد المؤمن في أثناء هذه الفترة يعمل على زيادة نشر الدعوة الموحدية وجذب قبائل جديدة للدخول في طاعته وتوسيع رقعة دولته كلما سمحت له الظروف، وبخاصة في الجهات الجنوبية والشرقية من المغرب.
سقوط دولة المرابطين
رأى عبد المؤمن أن الفرصة قد سنحت للقضاء على المرابطين، فآثر أن يسرع في ذلك، وأن يبدأ بمهاجمتهم في قلب دولتهم، فجهز جيشًا عظيمًا لهذا الغرض، وخرج به من قاعدته "تينملل" سنة (534 هـ = 1140م)، واتجه إلى شرق المغرب وجنوبه الشرقي؛ لإخضاع القبائل لدعوته، بعيدًا عن مراكش مركز جيش المرابطين القوي، وأنفق عبد المؤمن في غزوته الكبرى أكثر من سبع سنوات متصلة، أبدى فيها ضروبًا من الحيل الحربية والمهارة العسكرية؛ وهو ما جعل الجيش المرابطي يحل به الوهن دون أن يلتقي معه في لقاءات حاسمة ومعارك فاصلة. وفي أثناء هذه الغزوة توفي علي بن يوسف سلطان دولة المرابطين سنة (537هـ = 1142م) وخلفه ابنه تاشفين، لكنه لم يتمكن من مقاومة جيش عبد المؤمن، الذي تمكن من دخول تلمسان سنة (539هـ=1144)، فتراجع تاشفين، إلى مدينة "وهران"، فلحقه جيش الموحدين، وحاصروا المدينة وأشعلوا النيران على باب حصنها، ولما حاول تاشفين الهروب من الحصن سقط من على فرسه ميتًا في (27 من رمضان 539 هـ = 23 من مارس 1145م)، ودخل الموحدون مدينة وهران، وقتلوا من كان بها من المرابطين. بعد وهران تطلع عبد المؤمن إلى فتح مدينة فاس، فاتجه إليها، وضرب حولها حصارًا شديدًا، ظل سبعة أشهر، وعانى أهلها من قسوة الحصار، واضطر واليها إلى التسليم فدخلها الموحدون في (14 من ذي القعدة 540 هـ = 5 من مايو 1145م). ثم دخلت كل من مدينتي سبتة وسلا في طاعة الموحدين قبل أن يتجهوا إلى تراشك لفتحها، وكان يعتصم بها إسحاق بن علي بن تاشفين، وضرب الموحدون حصارًا حول المدينة دام أكثر من تسعة أشهر، أبدى المدافعون عن المدينة ضروبًا من الشجاعة والبسالة، لكنها لم تغن عنهم شيئًا، واستولى الموحدون على المدينة في (18من شوال 541هـ = 24 من مارس 1147م)، وقتلوا إسحاق بن علي آخر أمراء المرابطين بعد أن وقع أسيرًا، وبذلك سقطت دولة المرابطين، وقامت دولة جديدة تحت سلطان عبد المؤمن بن علي الكومي الذي تلقب بلقب "خليفة".
استكمال الفتح
انتهز جماعة من الزعماء الأندلسيين فرصة انشغال المرابطين بحرب الموحدين بالمغرب، فثاروا على ولاتهم التابعين لدولة المرابطين، وأعلنوا أنفسهم حكامًا واستبدوا بالأمر، وتنازعوا فيما بينهم يحارب بعضهم بعضًا. فلما تمكن عبد المؤمن بن علي من بسط نفوذه على المغرب بدأ في إرسال جيش إلى الأندلس سنة (541هـ = 1146م)، فاستعاد إشبيلية واتخذها الموحدون حاضرة لهم في الأندلس، ونجح يوسف بن علي قائد جيش الموحدين من بسط نفوذه على بطليوس وشمنترية، وقادس، وشلب، ثم دخلت قرطبة وجيان في طاعة الموحدين سنة (543هـ= 1148م)، واستعادوا "المرية" سنة (552هـ = 1157م) من يد الأسبان المسيحيين، وبذلك توحدت بقية الأندلس الإسلامية تحت سلطانهم، وعين عبد المؤمن ابنه "أبا سعيد عثمان" واليًا عليها. وفي سنة (555 هـ = 1160م) أمر عبد المؤمن ابنه ببناء حصن ومدينة على سفح جبل طارق الذي سُمّي بجبل الفتح –ولا تزال قطعة من هذا البناء باقية إلى اليوم في جبل طارق وتعرف بالحصن العربي- وعلى إثر ذلك عبر عبد المؤمن من طنجة إلى الأندلس ونزل بجبل الفتح، وأقام شهرين أشرف خلالهما على أحوال الأندلس ثم عاد إلى مراكش. وقبل أن يعبر عبد المؤمن إلى الأندلس كان قد تمكن في سنة (547 هـ = 1152م) من فتح المغرب الأوسط وضم إلى دولته الجزائر وبجاية وقلعة بني حماد، وجعل ابنه عبد الله واليًا على المغرب الأوسط، وعهد إليه بمواصلة الفتوح شرقًا، فنجح فيما عُهد إليه، كما نجح في القضاء على النورمانديين الصليبيين وطردهم من تونس التي كانوا قد احتلوها. وفي أواخر أيام عبد المؤمن حدث تمرد في شرق الأندلس، فأسرع إلى هناك وقمع الثائرين وقضى على الفتنة، ثم عاد إلى المغرب، وعندما وصل إلى "سلا" نزل به المرض، ولم يلبث أن توفي في (10 من جمادى الآخرة 558 = 16 من مايو 1162م) ودفن في "تينملل" بجوار قبر المهدي بن تومرت.
عبد المؤمن بن علي في التاريخ
حكم عبد المؤمن بن علي أربعًا وثلاثين سنة تعد من أزهى عصور المغرب، ورث عن ابن تومرت حركة ثائرة فحولها إلى دولة، ومد سلطانها حتى شلمت المغرب كله وما بقي من الأندلس ووضع لها القواعد والنظم الإدارية التي تمكن من تسيير أمور الدولة وإدارة شئونها. ويحفظ التاريخ رسالة طويلة بعث بها عبد المؤمن إلى أهل الأندلس، تعد دستورًا لنظم الحكم الموحدية، أكد فيها على اتصال الولاة بالناس دون وساطة، ودعا إلى أن تكون العقوبة على قدر الجريمة، ولا يطبق الإعدام على أي شخص دون الرجوع إلى الخليفة ورفع تفاصيل جريمته إليه، وحث الولاة على محاربة صنع الخمر، وألا يفرضوا غرامات أو مكوس على رعيتهم إلا بإذن منه. ونظم عبد المؤمن أمور دولته وجعل لها مؤسسات، فللعدل والنظر في الشكايات وزير، ولأعمال الحرب والجهاد وزير يسمى "صاحب السيف"، وللثغور وزير، وللشرطة رئيس يسمى "الحاكم"، وجعل للكتابة والمراسلات وزيرًا من أهل الرأي والبلاغة، وكان لعبد المؤمن مجلس خاص للنظر والمشاورة يحضره الفقهاء ونواب القبائل وكبار رجال الدولة. وعني عبد المؤمن بن علي بالجيش حتى صار من أعظم الجيوش في وقته، وكان هو نفسه قائًدا عظيمًا وجنديًا ممتازًا، يشاطر جنوده مشقة الطريق وتقشف الحياة العسكرية، واجتمع له من الجيوش الجرارة ما لم يجتمع لملوك المغرب مثله، حيث حقق به انتصارات رائعة. وشهد عصره حركة إصلاح اجتماعي، فحارب المنكرات بلا هوادة، واشتد في محاربة الخمر وإنزال العقوبة على شاربيها، وكان حريصًا على أن تقام الصلوات في مواقيتها، وأن تجمع الزكاة وتصرف في مصارفها الشرعية. وكان عبد المؤمن إلى جانب براعته الإدارية والعسكرية، فقيهًا حافظًا لأحاديث رسول الله، له بصر بالنحو واللغة والأدب، محبًا لأهل العلم، لا يُعرف عنه ميل إلى اللهو، بل كان جادًا وافر العقل، مسلمًا شديد الغيرة على الدين، متحمسًا لكل ما يصلحه.
معركة العقاب.. نهاية دولة الموحدين
قامت دولة الموحدين في المغرب في القرن السادس الهجري على أساس دعوة دينية خالصة، تلتزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتستهدف إقامة خلافة إسلامية تعود بالمسلمين إلى عهد الخلفاء الراشدين، وكان يقود هذه الدعوة الإصلاحية الشيخ "محمد بن تومرت"، وجمع حوله الأتباع إليه، ثم قام تلميذه "عبد المؤمن بن علي الكومي" بمتابعة دعوته، وتنظيم الأعوان، ودخل في صراع مع دولة المرابطين دام أكثر من خمسة عشر عامًا، إلى أن نجح في إحكام قبضته على المغرب الأقصى، ودخول مراكش عاصمة المرابطين في سنة (541هـ= 1146)، معلنًا شروق دولة جديدة، هي دولة الموحدين.
الموحدون بالأندلس
وبعد نجاح "عبد المؤمن بن علي" في إقامة دولته بالمغرب، وإرساء دعائمها، ووضع نظمها وقوانينها ـ اتجه إلى الأندلس لضمها إلى دولته، وتنظيم شئونها والدفاع عنها ضد هجمات النصارى، فنجم في ذلك، وأقام على قواعد الأندلس رجالاً من آل بيته. الموحدون بالأندلس
وبعد وفاته سنة (558 هـ= 1163م) خلفه ابنه "يوسف" فاستكمل سياسية أبيه، ووطّد نفوذ دولته في الأندلس، وبعث إليها بالجيوش لتأمين ثغورها، وتقوية إماراتها، وفي إحدى غزواتها فيها سنة (579 هـ= 1183م) أصيب بسهم عند أسوار "شنترين"، فرجع إلى مراكش مصابًا، وقضى نحبه بها سنة (580هـ= 1184م). بطل معركة الأرك
ولي "يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن" خلافة دولة الموحدين بعد أبيه، وتلقب بالمنصور، وكان قائدًا ماهرًا، وسياسيًا قديرًا، ورجل دولة من الطراز الأول، ويعد من أبطال المسلمين العظام في القرن السادس الهجري. وقد أولى المنصور الموحدي عناية فائقة بالأندلس، وتأمينها ضد هجمات مملكتي قشتالة وليون المسيحيتين، واتخذ من عقد معاهدات الصلح معها سبيلاً إلى تحقيق الأمن في الأندلس، ثم اضطرته الأحداث إلى خوض المعارك ضدهما حين نقضا المعاهدات ونكثا بالعهود وهاجما أراضي المسلمين، وكانت معركة "الأرك" التي خلّدها التاريخ هو بطلها الأول، ووقعت أحداثها في (التاسع من شعبان 591هـ= 18 من يوليو 1195م) عند حصن الأرك، وأسفرت عن نصر مؤزر للمسلمين، وانكسار حدة الهجمات النصرانية بعد أن خسرت القوات القشتالية نحو ثلاثين ألفا، وسيأتي تفاصيل ذلك الحدث العظيم في يومه من شهر شعبان.
عناية يوسف وابنه المنصور بالأندلس
لم تقتصر عناية الموحدين بتوفير الأمن والحماية للأندلس، وتقوية ثغورها وقواعدها، وإنما تعدى الاهتمام إلى الارتقاء بالأندلس والنهوض به، ورعاية مظاهر النهضة فيه، فأقام الخليفة "يوسف بن علي" بعض المشروعات في إشبيلية، لعل من أشهرها بناء القنطرة على نهر الوادي الكبير، وتأسيس جامع إشبيلية الأعظم سنة (567 هـ= 1172م)، ثم أتم ابنه المنصور مئذنته الكبيرة سنة (584هـ= 1188م)، لا تزال هذه المئذنة قائمة حتى الآن، وتعرف باسم "لا خيرا لدا" ويبلغ ارتفاعها 96 مترًا.
ما قبل موقعة العقاب
بعد هزيمة "ألفونسو الثامن" ملك قشتالة وليون في معركة الأرك عقد هدنة بين المسلمين والنصارى سنة (594هـ= 1198م)، غير أن تلك الهزيمة كانت تؤرق مضجعه، وتثير في نفسه نوازع الانتقام، ومحو أثار هزيمته المخزية، فانتهز فرصة الهدنة في تحصين قلاع بلاده الواقعة على الحدود، ونبذ الفرقة والخصام مع خصومه من ملوك النصارى، حتى إذا وجد في نفسه القوة، نقض المعاهدة، وأغار على بلاد المسلمين، فعاث فسادًا في أراضي جيان وبياسة وأجزاء من مرسية. ولم يكن أمام سلطان الموحدين الناصر "محمد بن يعقوب" الذي خلف والده المنصور بد من التجهيز والإعداد، لأخذ ملك قشتالة على يده، فاستنفر المسلمين للغزو والجهاد، فجاءته الجيوش من سائر أقطار المغرب الإسلامي، وعبر البحر إلى الأندلس في (19 من ذي القعدة 607هـ= 4 من مايو 1211م) ووصل إلى إشبيلية، وأقام بها لإعداد جيشه وتنظيم قوته، ثم تحرك في مطلع سنة (608 هـ= 1211 م) صوب مملكة قشتالة، واستولى على قلعة "شلطبرة" إحدى قلاع مملكة قشتالة بعد حصار دام ثمانية أشهر، ثم عاد بجيشه إلى إشبيلية بعد دخول فصل الشتاء، ورغبة منه في إراحة جيشه.
المعسكر القشتالي
ترك ألفونسو الثامن قلعة شلطبرة تقع في قبضة المسلمين دون أن يتحرك لنجدتها وإنقاذها، وصرف همه إلى استنفار أوروبا كلها ضد المسلمين في الأندلس، وبعث الأساقفة إلى البابا "أنوسنت الثالث" بروما يناشده إعلان الحرب الصليبية في أوروبا، وحث بأهلها وشعوبها على السير إلى إسبانيا لقتال المسلمين، وعقد مؤتمرًا لتوحيد جهود الإمارات المسيحية في أسبانيا لقتال الموحدين، وأطلق صيحته المشهورة: "كلنا صليبيون"، فتوافدت على طليطلة، جموع النصارى المتطوعين من كافة أنحاء المدن الأسبانية، يقودهم القساوسة والأساقفة. وقد أثمرت جهود "ألفونسو الثامن" في استنفار أوروبا كلها ضد المسلمين، فأنذرهم البابا بتوقيع عقوبة الحرمان الكنسي على كل ملك أو أمير يتأخر عن مساعدة ملك قشتالة، كما أعلن الحرب الصليبية، وتوافدت جحافل الصليبيين من كل أنحاء أوروبا، استجابة لدعوة البابا، واجتمع منهم نحو سبعين ألف مقاتل، حتى إن طليطلة لم تتسع لهذه الجموع الجرارة، فأقام معظمهم خارج المدينة.
استيلاء الصليبيين على قلعة رباح
تحركت هذه الجيوش الجرارة التي تجاوزت مائة ألف مقاتل تحت قيادة "ألفونسو الثامن" من مدينة طليطلة في (17 من المحرم سنة 609هـ= 2 من يونيو 1212م)، فاخترقت حدود الأندلس، وضربت حصارًا حول قلعة رباح، وكانت حاميتها صغيرة نحو سبعين فارسًا، دافعوا عن موقعهم بكل شجاعة وبسالة، واستنجد قائد الحامية "أبو الحجاج يوسف بن فارس" بالخليفة الناصر الموحدي، لكن رسائله لم تكن تصل إلى الخليفة، فلما طال الحصار، ورأى "ابن قادس" استحالة المقاومة مع فناء الأقوات وقلة السلاح، ويئس من انتظار وصول المدد، صالح ألفونسو على تسليم الحصن له، على أن يخرج المسلمون آمنين على أنفسهم، واستمر زحف القوات الصليبية؛ فاستولت على حصن الأرك، وبعض الحصون الأخرى.
الجبهة الإسلامية
ولما علم الناصر بخروج الجيوش المسيحية المجتمعة، خرج للقائهم، واستنفر الناس من أقاصي البلاد، فاجتمعت إليه جيوش كثيفة من القبائل المغربية والمتطوعة وجند الموحدين النظاميين، وجند الأندلس، وتألف من تلك الجموع الجرارة جيش عظيم بلغ نحو ثلاثمائة ألف مقاتل، وكان ممن وفد عليه بإشبيلية "أبو الحجاج يوسف بن قادس" قائد حامية رباح، فأمر الناصر بقتله دون أن يسمع حجته أو يحاط علمًا بملابسات التسليم، وأثار قتله غضب الكتائب الأندلسية على الخليفة الناصر الموحدي.
اللقاء المرتقب
استعد كل من الطرفين للقاء، والتقيا في أحد الوديان بين جبال سير مورينا، وهضبة لينارس، بالقرب من بلدة "تولوسا"، ويطلق الأسبان على هذه الوديان اسم نافاس؛ ولذا عرفت الموقعة عندهم باسم "لاس نافاس دي تولوسا"، ويسمي المؤرخون المسلمون هذا الموضع بالعقاب، نسبة إلى حصن أموي قائم بالقرب من المكان الذي دارت فيه المعركة. وفي (15 من صفر 609 هـ= 17 من يوليو 1212م) نشبت المعركة بين الفريقين، وأقبلت مقدمة جموع الصليبيين الضخمة، فاجتاحوا الجند المتطوعة وكانوا في مقدمة الجيش، فأبادوهم عن آخرهم، وتمكنوا من الوصول إلى قلب الجيش الموحدي واشتبكوا معه، لكن القلب صمد لهذا الهجوم الجامح، ولاح النصر للمسلمين. فلما رأى ذلك ملك قشتالة اندفع بقواته وقوات مملكتي ليون والبرتغال وكانت تمثل قلب الجيش الصليبي، واندفع وراءه ملكا "أرغونة" ونبرة بقواتهما وكانا يمثلان جناحي الجيش، فأطبقا على الجيش الموحدي، من كل جانب، فاضطربت صفوفهم، ولاذ الجند بالفرار، مما أربك أوضاع الجيش الذي استسلم للهزيمة القاسية. وفر الناصر من ساحة القتال مع مجموعة من رجاله، وخسر المسلمون الألوف من المجاهدين في الأندلس، وعددا كبيرا من خيرة العلماء والفقهاء والقضاء، واستولى النصارى على معسكر الموحدين بجميع محتوياته من العتاد والسلاح والخيام والبسط والأقمشة والدواب، ولا تزال بعض أعلام الموحدين وخيمهم في معركة العقاب محفوظة في إسبانيا.
علم الموحدين
وقد فجع الموحدون بهذه الهزيمة القاسية التي راح ضحيتها الألوف من زهرة جنود المسلمين؛ مما أضعف دولة الموحدين، وأفقدهم هيبتهم وقوتهم، وبعد وفاة الناصر سنة (610 هـ : 1213 م) بدأ الضعف يتسلل إلى الدولة، ويتطرق إليها الخلاف والفرقة، مما أضعف الأندلس، وشجع النصارى على تصفية ما بقي للمسلمين من أرض، واختزلت دولتهم في مملكة غرناطة في جنوب الأندلس.
أهم مراجع الدراسة:
ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون – دار الكتاب اللبناني – بيروت – 1981م.
محمد عبد الله عنان: عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس – مكتبة الخانجي – القاهرة 1411هـ = 1990م.
حسين مؤنس: تاريخ المغرب وحضارته – العصر الحديث للنشر والتوزيع – بيروت – 1412 هـ = 1992م.
السيد عبد العزيز سالم: المغرب الكبير (العصر الإسلامي)- الدار القومية للطباعة والنسر – القاهرة – 1966م.
عبد الله علي علام: الدولة الموحدية بالمغرب في عهد عبد المؤمن بن علي – دار المعارف – القاهرة – 1971م.
إبراهيم علي حسن: عبد المؤمن بن علي الكومي – دار الثقافة – الغرب – 1406هـ 1986م.
أحمد بن خالد السلاوي: الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى ـ دار الكتاب ـ الدار البيضاء ـ المغرب ـ 1954م.
محمد عبد الله عنان ـ دولة الإسلام في الأندلس ـ عصر المرابطين والموحدين ـ القاهرة ـ (1384هـ = 1964م).
السيد عبد العزيز سالم ـ المغرب الكبير (العصر الإسلامي) ـ الدار القومية للطباعة والنشر ـ القاهرة ـ 1966م.
هشام أبو رميلة ـ علاقات الموحدين بالممالك النصرانية والدول الإسلامية في الأندلس ـ دار الفرقان ـ عمان ـ (1404هـ = 1984م)
عبد الله جمال الدين ـ تاريخ المسلمين في الأندلس ـ دار سفير ـ القاهرة ـ 1996 م