مقتطفات من ملحمة الاوديسا calypso.jpg

كانت الآلهة القديمة تخشى كاليبسو وما يمكن أن تفعله بالبشر إذا هم تاهوا في البحر وحلّوا على شطآن جزيرتها. معظم الرجال الذين قابلوها لم يعودوا إلى زوجاتهم أبدا. وآخرون هجروا زوجاتهم وذهبوا باحثين عن نساء مثاليات دون أن يعرف احد إلامَ انتهى مصيرهم.
يذكر هوميروس أن كاليبسو كانت حورية خالدة وبارعة الجمال. وكانت تشتهي أن يكون اوديسيوس من نصيبها. ولا بدّ وأن مرآها كان يروق لرجل في أواسط العمر. هي لم تتلاعب بأعصابه مثلما فعلت الساحرة سيرسي قبل ذلك بعام. كما أنها لم تكبر ثم تتغيّر ثم تنضج كما حدث للأميرة الشابّة نوسيكا. ولم تحاول أن تسيطر عليه كما كانت تفعل زوجته بينيلوب. هل كان اوديسيوس يبحث عن الرفقة الكاملة؟ هل يبحث رجل حكيم عن امرأة مثالية؟ وإذا فعل، هل يكون ذلك "أمرا حكيما"؟ وهل الأغبياء فقط هم من يؤمنون بفكرة الرفيق المثالي؟
مضت سبع سنوات على وجود اوديسيوس في جزيرة كاليبسو. وفي احد الأيّام، توسّلت الإلهة أثينا، حامية اوديسيوس، إلى زيوس وغيره من الآلهة أن يبادروا إلى إنقاذ اوديسيوس من براثن كاليبسو. في عالم الإغريق القديم، مثل هذه القرارات كان يلزمها الإجماع. وافق زيوس والآلهة على أن شيئا ما ينبغي أن يُفعل. واُرسل هيرمِس فعلا لإعلام كاليبسو أن عليها أن تطلق سراح اوديسيوس على الفور. ترى، هل توسّل اوديسيوس فعلا إلى الآلهة كي تسمح له بالهرب من كاليبسو، أم أن تلك كانت رواية أثينا عن القصّة؟ الأجزاء اللاحقة من الاوديسّا يرويها اوديسيوس نفسه. لذا فإنها تخلو من إجابة واضحة على هذا السؤال.
عندما يذهب هيرمس إلى كاليبسو ليطلب منها إطلاق اوديسيوس تحتجّ على طلبه قائلة: انتم الآلهة لا يمكن تحمّلكم. شعوركم بالغيرة يجعلكم تقفون مذعورين من إلهة تنام علنا مع الرجال". قوّة كاليبسو واستقلاليّتها كانا يهزّان أركان العالم القديم ويحرجان الأوصياء على شئونه. إلهة فقط يمكنها أن تقول مثل هذه الأشياء. غير أن قرار كبار الآلهة يُعتبر نهائيا وملزما.
كاليبسو تجلس في حديقتها على طرف الكهف الذي تعتبره بيتها. الهواء العليل في المكان يضوع بروائح أزهار الربيع الشذيّة. الطيور تغنّي، وهناك نار تشتعل. كاليبسو تتحرّك وتلوّح بيديها وتغنّي على أمل أن يقرّر اوديسيوس أن يبقى معها باختياره. إنها تنسج خيوط أحلامها بالحياة العائلية والرضا والاستقرار ورفض الصراعات والتوقّف عن ملاحقة الرجال. بل إنها تعده بالشباب الأبدي والخلود، مثلها تماما، إن هو قرّر البقاء. غير انه يجد كلّ هذه الوعود خانقة ولا تناسب الرجال. يتجوّل بعيدا بين الأشجار إلى أن يصل إلى المقعد الحجري في أعلى الجرف مستطلعا الأفق العاري للبحر.
عندما أزفت النهاية، كانا على وشك أن يتعاركا. منذ زمن طويل لم يعد بمقدور الحوريات أن يمتّعن الرجال. كان اوديسيوس قد بدأ يتجنّب كاليبسو مفضّلا الجلوس أمام البحر والتحديق في الأمواج. هذا ما كان يفعله دائما عندما يستبدّ به الحنين إلى ارض الوطن. وهذا ما يفعله العشّاق غالبا عندما يتفرّقون: يحدّقون في البحر، ولا يعود الجنس الكامل والطعام الشهيّ يكفيان في النهاية.
لذلك، ومثل العشيقة التي تراقب حبيبها وهو يعود إلى بلاده وزوجته، كانت كاليبسو تتابعه وهو ذاهب مع حركة المدّ في الصباح. إنها حتّى لا تساعده في بناء الطوف الذي سيبحر به. هو لا يقول وداعا، وهي لا تسعى لحمله على قولها. سبع سنوات معا تُعتبر فترة طويلة. وبعض الأشياء من الأفضل أن لا تقال.
أدرك اوديسيوس انه يجب أن يرحل. هذه مجرّد مرحلة في عملية التطوّر الطبيعي من الميلاد إلى الموت، حيث نصبح جميعا لوحدنا ويتعيّن عندها أن يختار كلّ مصيره بنفسه. يختار هو أن يغادر أخيرا. هذا هو السبب في أن الآلهة تساعده وفي أن كاليبسو أذعنت لمشيئته في النهاية. ورغم أنها إلهة، إلا أنها فعلت ذلك وهي تحسّ بغضب عميق. لكنها تفهّمت رغبته في أن يكبر وأن يجرّب الصراع وألم الفراق مرّة أخرى وأن يخرج من حياة الركود إلى أمواج المحيط المظلم التي ستأخذه مجدّدا إلى وطنه.
دورة الحياة لا يجب أن تتعطّل لفترة أطول مما ينبغي. والقصيدة نفسها يجب أن تأخذ مداها بلا توقّف. لو أن اوديسيوس مكث مع كاليبسو هناك، لما كان ثمّة شعر. ربّما لهذا السبب لم تكسب كاليبسو أبدا قلوب من ترجموا الاوديسّا من الرجال. كانت لديهم أفكار محدّدة حول عودة اوديسيوس إلى بينيلوب. بعضهم تحدّثوا عن القصّة من منظور التحليل النفسي. هل كانت جزيرة كاليبسو تذكّره بالرحم الذي كان يهرب منه طوال حياته؟ اوديسيوس كان يشتكي من آلام الولادة الجديدة التي تأجّلت عندما كان يعيش معها. والكثيرون زعموا أن اسم كاليبسو محمّل بالاستعارات الجنسية الرائجة في التحليل النفسي.
هل كانت أسطورة العلاقة الكاملة والمرأة المثالية تعني انه سيفقد كلّ شيء آخر جعل منه رجلا؟
هناك حزن أساسي يرتبط بشخصية كاليبسو. فهي لم تُدع مرّة ثانية كي تعود إلى الأساطير. يمكن للمرء أن يقول إنها ستظهر ثانية في المستقبل البعيد على هيئة امرأة فاتنة وغامضة ووحيدة في "سيّدة البحيرة" وأساطير الملك آرثر. كما ستظهر من جديد في شخصية "سيّدة جزيرة شالوت" الأكثر هشاشة.
الإلهات اللاتي يتحدّين الزمان والمكان نادرات في الثقافة الغربية. وهن لا يتزوّجن ولا ينجبن أطفالا. لكنهنّ على الأرجح يتُقنَ لذلك. سيّدة البحيرة، مثلا، تخطف لانسيلوت وهو طفل. وهنّ يظهرن في القصص من حين لآخر ثم يختفين فجأة. وهذا أمر غير منصف تماما.
اوديسيوس كان لديه طفل وقد أوفى بدينه للمجتمع، فلماذا لم يستطع أن يبقى مع كاليبسو وينجب طفلا آخر أو اثنين؟ النقّاد يريدوننا أن نصدّق أن جاذبيّتها الخطيرة تكمن في خلودها وفي نكرانها لذاتها، وهو أمر يلقى صدى طيّبا في القرن الحادي والعشرين، مع وجود رجال غربيين كثر لم يعودوا يعرفون ما يريدون. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يجادل في أن الزواج الثاني يمكن أن يكون شيئا حسنا وفي أن اوديسويس ربّما سيكون اسعد حالا معها لو أن الراوي منحه حرّية الاختيار في المسألة.