الما يزوره السلمان عمره حسافة وخسران do.php?imgf=14152971
الما يزوره السلمان عمره حسافة وخسران
بارك السعدون وسيد ادريس وسلمان باك .. من معالم بغداد الترفيهية
بالرغم من بساطة الحياة البغدادية خلال عقد الخمسينيات وما تلاها فإن أهالي بغداد كانوا يغتنمون الفرص للترفيه عن أنفسهم وعوائلهم ، وكانوا يبتكرون أفراحهم بإيجاد الأمكنة الخاصة بالسفرات الترويحية ، كانت بغداد تتسع بإتساع مساحة قلبها المحب لأهاليها حيث يلتقي الناس على موائد السفرات وهي تجمع بين الطوائف والملل العراقية كافة ، فلا ضير أن تدعو عائلة مسيحية عائلة مسلمة على مائدتها يتبادلون أحاديث الألفة والمحبة ، لذلك كنت تجد متنزه "بارك السعدون" أحد معالم بغداد الترفيهية وهو الذي يقع مقابل القصر الأبيض حاليا، فتراه كما يذكر المصور الفوتوغرافي الراحل أمري سليم أن العوائل كانت تتجمع في هذا المكان المزروع بالخضرة ، فيزدان بتلك الوجوه النضرة من الشابات والشباب (الحلوين) ، بملابسهم الأنيقة.
ويضيف الفوتوغرافي (أمري سليم) رحمه الله ، أنه يمتلك أرشيفا خاصا بهذه التجمعات التي تأتي إلى بارك السعدون.
ويؤكد أن هناك أغان شعبية كانت تتردد على حناجر الحاضرين ، يؤديها الشباب والشابات ، منها على سبيل المثال حين كانت المناسبة عيدا من أعياد العراقيين : (عيدك مبارك يجمار الكلب... فرحة وتهاني على طول الدرب) وهي واحدة من الأغاني الشعبية كما كان يذكر الحاج أمري سليم تحلق بالجموع الشابة الى قمم الأفراح وتداني من خلالها قلوب العاشقين المحبين للحياة يوم لم يكن هناك أية شكوك بنوايا العراقيين تجاه بعضهم البعض .
كذلك وجدت أمكنة أخرى يقصدها الباحثون عن المتعة البريئة وسط تعلقهم بالأمل والتفاؤل بالحياة ومحبة البعض للبعض الآخر ، كان مرقد السيد إدريس في الكرادة أيضا مقصدا للزوار حين كانت المساحة المحيطة بالمرقد فضاءً كبيرا ، وليست هناك منازل أو شوارع تحيط بالمرقد الشريف. لذلك كانت السيارات الناقلة للزوار تسير بحريّة، كما كانت المساحة التي تحيط بمرقد السيد إدريس (عليه السلام) مكانا لتجمع الناس والأطفال، ويقضون فيها أجمل وأمتع الأوقات، ويطلق على هذه الزيارات للأمكنة بـ"الكسلات " ولا أعرف مصدر الكلمة أو معناها، إلا أنها كانت شائعة أيام زمان ، فعندما يروم أحدهم اصطحاب عائلته إلى بارك السعدون او السيد محمد (ع) يقول "والله رايح (للكسلة)، وهي كلمة لاتعني مكانا ولا موقفا بل تسمية ربما أخذت على ما اعتقد من فسحة راحة النفس ، أو مأخوذة من كلمة"الكسل" بعيدا عن العمل أو الانشغال بأمور الحياة.
وقد عرفت بغداد بهذه (الكسلات) الأربع في عقود ماضية وتوزعت بين معالم آثارية ومراقد الأئمة والأولياء الصالحين ، وأبرزها كما ذكرت : بارك السعدون، ومرقد السيد محمد (ع) ، وفي سلمان باك المدائن كان الناس يهرعون إليه في المناسبات الدينية والأعياد. وكان هناك طقس دأب الناس على تأديته في صحن (الصحابي الجليل سلمان باك) وهو اصطحاب الأطفال حتى من المولودين حديثا لقص شعورهم تباركاً بهذا الصحابي ، ومنزلته عند الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فتجد بكاء الأطفال تحت يد الحلاق ممتزجا بدموع فرح الأمهات وهن يعتقدن أن أبناءهن قد أصبحوا رجالا بعد قص شعرهم .. وتلاحظ وأنت تزور المدائن ، وتتبارك بزيارة مرقد سلمان باك مساحات مزروعة بـ (الخس) ، وتتنقل بنظرك على مشاهد الشباب وهم يحملون باقات الخس ويقضمون أوراقها بنهم وشهية تبدو على عيونهم المحدقة بوجوه الفتيات الطالعات بابتساماتهن . وكان البغداديون يخترعون المناسبات المفرحة وإشباعها بالفعاليات المختلفة ، كرقصة الساس الاستعراضية بالسيوف اللامعة والتروس البهية إظهاراً لقوة وبأس البغادة.
أما مناسبات الاعراس فحدث ولا حرج ، فهم يعبرون عن هذه المناسبات بأبرز فعاليتين الاولى : المقام العراقي بأطيافه والحانه السبعة الرئيسة من (رست، وبيات، وصبا، وحجاز ديوان ، وحسيني، والنهاوند) وغيرها.
أما الفعالية الثانية فهي المربعات التي تمثل المباهلة القديمة عند العرب في جاهليتهم وإسلامهم . وعندما تلوح تباشير الربيع ، ويعتدل الهواء بعد شتاء قارس ، وتتفتح الزهور يشمر أهل بغداد عن سواعدهم للمشاركة بالهلاي ، وهي تميز رؤوساء محلات بغداد وأهلها من الرجال خاصة ، حيث لكل محلة أعلامها الخاصة.
والاحتفال الهلايي هذا لايكون في بغداد وإنما هي نقطة تجمع للمحتفلين وزوار الصحابي الجليل سلمان الفارسي أو سلمان المحمدي، حسب تصحيح الاسم من قبل الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلى أصحابه أفضل السلام) في منطقة سلمان باك أو سلمان النظيف التي تبعد عن بغداد عدة فراسخ (الفرسخ ثماني كيلومترات) . وكان تجمع القوم في منطقة باب الشيخ أو محلة فضوة عرب ، وتراهم فرحين مسرورين يحملون الأعلام بألوانها
الزاهية الأحمر والأبيض والأسود والأخضر ، ومعهم قدور الطبخ وأدواته ، وكذلك الخيام حيث يضربونها بالقرب من الطاق "طاق كسرى" أو تحته. ويحضر الكثيرون من مطربي ومطربات ذلك الزمن، منهم المرحومان عباس جميل وزهور حسين ، والمربعاتي محمد الحداد ، ومحمود بن الحمامجية ، ومحمد العاشق ، وداود الأسود ، والمقامي عبدالرحمن خضر، وعبد الرحمن العزاوي، وحمزة السعداوي وغيرهم . مرددين شعاراً لايزال يرن في ذاكرة الاحداث : (الما يزوره السلمان عمره خسارة) .
الاحتفالات تقام طوال الليل وبعض النهارات ، وتمتد لأسابيع عديدة ، كما تشترك نساء محلات بغداد بسيارات نقل خاصة بهن ، ويقمن بمهمات الطبخ ، وتهيئة وجبات الطعام لجميع المحتفلين . مؤكدين أن (الما يزوره السلمان عمره في خسران)! .. بل السر في عشق الحياة.
جريدة المشرق