إدارة الموصل في عهد اينجة بيرقدار محمد باشا
صلاح سليم علي



إدارة الموصل في عهد اينجة بيرقدار محمد باشا 13665785931.jpg


مقدمة:
التاريخ اشبه ببيت كبير متعدد النوافذ منها ماينفتح على تجارب اسيانة تفوح منها رائحة الدماء والحرائق والكوارث ومنها ماينفتح عن رياض زاهرة تتضوع باريج الشعر والإبداع والنبوة..وفي الحالتين يترتب علينا نحن أن نفتح هذه النافذة أو تلك للتعرف على التجارب الإنسانية دموية كانت أم ابداعية، كئيبة أم بهيجة، مميتة ام واهبة للحياة في مكان ما أو زمان ما..وبيت التاريخ هو اللغة ونوافذه هي رفوف المكتبات الغابرة ..واحيانا نفتح نافذة فتتفتح بدورها عن نوافذ اخرى وتفرض علينا ان نميز بين ماتقدمه لنا من عوالم وحوادث وشخصيات وبخاصة تلك التي تشكل محاور مهمة تتأسس عليها حركة الحوادث وحياة الأمم وتتحدد من خلالها كيفية نظرتنا الى العالم..ولا أدل على تاثير الشخصية في حركة التاريخ من النبوءات العظيمة فقد غير ميلاد المسيح مسار الزمن فجعل مساره على نحو خطي يتجه بأضطراد الى الأمام وهو تصور للزمن يقف على طرفي تقابل ضدي مع التصور الإسلامي للزمن أي الزمن الدوراني الذي يتجه الحاضر فيه الى المستقبل المؤسس أصلا في الماضي..كما قدم الأسلام نظرة الى العالم ربطت بين الرؤية والقلب وقرنت ارادة الأنسان وحريته ومعهما الزمان والمكان بارادة الله..ويماثل القادة بتأثيراتهم الزمنية، تأثيرات الأنبياء الأبدية..فقد عمل ملوك الحضارات الكلاسيكية على تاسيس الدولة وربطها بمفهوم الشرعية ووضعوا القوانين والتشريعات ..وغيرت إرادة الحرب المدفوعة بحب البقاء من خارطة العالم مع الغزاة بدءا بالحروب الكلاسيكية، فالأسكندر، فهانيبال، فقيصر، فالفتوحات الأسلامية الكبرى فالتوغل الآسيوي في بلاد الرافدين ووادي النيل، فالأمبراطورية العثمانية وصولا الى نابليون بونابرت ومن بعده الحروب العظمى في العصر الحديث..ومع كل قرن تتسارع عجلة التاريخ اضطرادا فكل قرن جديد يتضمن حوادثا وتحولات أكبر بما لايقاس عن القرن الذي يسبقه وهكذا دواليك..وغالبا مايكون النصف الأول من اي قرن فترة مخاض بينما يكون النصف الثاني في أوافله فترة ولادة او ولادات منها الميت ومنها مايبشر بحياة جديدة..
ومن المحاور المهمة في حركة التاريخ العلاقة بين الشرق والغرب منذ العهود القديمة وحتى العصر الراهن..وهي علاقة تتداخل في متونها مراحل الصراع والتهادن والتنافس والتعاون والهيمنة والهيمنة المضادة .. وتتعارض في سياقاتها وتتناحر ثقافة الشرق بثقافة الغرب ويواجه البطل القمري البطل الشمسي على الرغم من تبني الثقافة الغربية لأساطير الشرق وفنونه ومعارفه وتطويرها وصولا الى المدنية الغربية..وكانت ابرز المواجهات بين الشرق والغرب على عهد الأسكندر الذي تمخضت عن حروبه الثقافة الهلنستية والتقت فيها الفلسفة اليونانية بالحكمة المشرقية، ثم محاولة الفينيقيين اختراق اوربا واسقاط روما على عهد حامي الخيربركة وابنه هانيبال..فالأمبريالية الرومانية واختراق الرومان احواض الأنهار الكبرى واحتلالهم سوريا ومصر..فالأسلام الذي بسط نفوذه على صقلية واسبانيا والبرتغال وجنوبي ايطاليا على مدى 800 سنة من التمدن؛ فالأختراق الصليبي المعاكس الذي صاحبه اكتساح المغول على الرغم من كونهم مشارقة للمراكز الحضارية الكبرى في وادي الرافدين فالأمبراطورية العثمانية التي تشبه عملاق رودوس في جمعه بين ساحلين بضمها لدول البلطيق وحوض الدانوب من جهة بحوضي الرافدين والنيل والساحل الجنوبي للمتوسط والأسود مع ساحل البحرين الأحمر وبحرالعرب تحت ارادة سلاطينها وحكامها وقوة جيوشها..
ومع تراجع الأمبراطورية العثمانية وتكرر هزائمها العسكرية في مواجهاتها مع الغرب، لجأت الدولة العثمانية الى محاكاة الغرب منذ بدايات القرن التاسع عشر وتحديدا على عهدي السلطان محمود الثاني وابنه عبد المجيد الأول..وهو تطور سرعان ما اتخذ اتجاها معاكسا في العهود اللاحقة التي شهدت نهاية الأمبراطورية العثمانية ونشوء تركيا الحديثة..والمهم في هذا الأستعراض التاريخي شديد الأختصار ان فجر التمدن الغربي صاحب غروب الحضارة المشرقية وبخاصة المناطق والأمم التي كانت تحت الهيمنة العثمانية ..وان شيئا من مفاهيم الهيمنة والأستيراث لم يتغير..فقد عدت الأمم الغربية الأراضي العربية والإسلامية من العراق وحتى الجزائر أراض تابعة لها ورثتها غنائم حرب..ومنحت الأتراك دولة ربطت سياستها وارادتها بها على الرغم من البناء الإجتماعي والحضاري المشرقي لها قلبا وقالبا..كما لم يتغير اي شيء في سياسات التحالف الغربي تجاه دول وشعوب الشرق باستثناء دول الأستتباع كتركيا والأردن والسعودية ودويلات الخليج العراقي والمغرب وأخيرا العراق..وهي دول تدور في فلك الإرادة الغربية اما بسبب ضعفها او لوهن تكوينها الإجتماعي والسياسي بسبب موت الإرادة الوطنية كما في الدول العربية المذكورة او بسبب الحروب العدوانية كما هو الحال في العراق..
والملاحظ ان الدول التي تشرف على نهايتها غالبا ماتظهر فيها أرادات توحيدية تناضل لفرض نوع من المركزية تستعيد بواسطته شيئا من هيمنة الدولة وقوتها..إلا ان حجم التحديات والأخطاء المتراكمة التي ارتكبها اسلافها وتنامي القوى النقيضة غالبا ماتكون اكبر في حجمها وجسامتها فتتغلب على إرادة التوحيد وتؤدي بالدولة الى الزوال..ومن أهم المحاولات الجبارة للتصدي لحالات انهيار الدولة والمجتمع في وجه التحديات محاولة آشوراوباليت الثاني التصدي للعدوان الميدي بعيد سقوط نينوى ومحاولة مروان الثاني التصدي للقوى المناهضة لأمويي المشرق..ومحاولات عبد الرحمن الثالث تأسيس القوة الأموية في الأندلس ..وعلى مديات أصغر جهود الحمدانيين والعقيليين تدويم الدولة العربية في الهلال الخصيب..وأخيرا محاولات جمال عبد الناصر في مصر والقوميين العرب في الهلال الخصيب..والملاحظ أن الغرب ومنذ الحروب الصليبية يرتكز في سياساته المناهضة للمشارقة المسلمين عربا ام أسيويين أم افارقة على استغلال التنافس بين مراكز القوة والصراع الأقليمي في العالم الإسلامي لتعميق الأنقسامات بما يخدم مصالحه الستراتيجية والإقتصادية.. فقد استغل ثورة ابن حفصون في مواجهة عبد الرحمن الثالث في الأندلس واستغل التنافس بين الدولتين الفاطمية في مصر والأموية في الأندلس للتوغل في حروبه الصليبية ..كما استغل وجود الحشاشين في سورية وفارس للنيل من خصوم سياسيين في اوربا بل والنيل من صلاح الدين الأيوبي نفسه ودفع العرب الى ضرب العثمانيين لقاء وعود فارغة بتشكيل دولة عربية كبرى..وفي العصر الحديث شرعت الدول الغربية بالقيام بمشاريع عملاقة خدمة لمصالحها كمشروع قناة السويس الذي الحق دمارا كبيرا بالأقتصاد في العراق وسورية اللتان تعتمدان على التجارة البرية ثم مشروع ال[كاب] المعاصر اي (مشروع الأناضول الكبير) الرامي الى احكام السيطرة على منابع الأنهار الكبرى في تركيا وخنق العراق وسورية مائيا ثم دفعهما الى التحول الى دويلات استتباع للغرب وربما لقوة اقليمية تابعة هي الأخرى للغرب كتركيا أو ايران. القصد بدول الأستتباع هو اخضاع الإرادة السياسية لهذه الدول لدول غربية في الوقت الذي تمنح فيه استقلالا صوريا ييسر للزمر الحاكمة الأستمرار في الحكم.
ولعل احدى أهم حلقات الصراع بين مراكز القوة في المشرق العربي الإسلامي التنافس والإقتتال بين والي مصر محمد علي باشا والسلطان محمود الثاني..وهي حلقة تكتسب أهميتها من عوامل عديدة أهمها تدخل القوى الغربية في هذا التنافس وتوجيهه نحو غايات تخدم سياساتها وتحقق مصالحها..وهو حال يتكرر عبر تاريخ المواجهات بين الشرق والغرب على الرغم من التناحر والتنافس فيما بين الدول الغربية نفسها وهو تناحر يتلاشى عندما يواجه الغرب قوى اسلامية او مشرقية مستقلة كما تؤكد التجربة التاريخية في تحالف الغرب في الحروب الصليبية وفي اسقاط الأمبراطورية العثمانية وفي التحالف الأخير ضد العراق ثم فيما يسميه الغرب الربيع العربي الذي يستهدف الدولة العربية ذات السيادة من داخل اراضيها بينما يبقي دول الأستتباع والرجعية المعروفة متدثرة في شتاء الدم العربي..وهناك دراسات لاحصر لها تناولت تلك المرحلة اهمها دراسة ديفيد أركهارت التي ركزت على المقارنة بين شخصية السلطان محمود الثاني ومحمد علي باشا في سياق دراسة المواقف الأوربية تجاههما واحتمالات ترجيح كفة احدهما على الآخر تبعا للمصالح الغربية والتنافس بين روسيا من جهة وفرنسا وبريطانيا من جهة ثانية..وهي دراسة مهمة لمعاصرتها للصراع بين هذه القوى في الشرق السلامي والغرب المسيحي..وتتجلى في هذه المرحلة من الصراع بين قوة اقليمية ناشئة قوام جيشها من العرب وامبراطورية واسعة الأطراف حقيقة تاريخية متكررة تتمثل بميل الزعامات الأقليمية في اطراف الدول الكبرى الى الخروج على ارادة السلطة المركزية والأنفصال فالأستقلال عن الدولة الأم كما في الأمبراطورية الآشورية على عهد ادد نيراري الثالث عندما ابدى شمشي ايلو ميلا للأستقلال تكرر مع حاكم بابل شقيق آشوربانيبال شموكين الذي شق عصا الطاعة واستقل ببابل..وتكرر ذلك على عهد المنصور عندما شق ابو مسلم الخراساني عصا الطاعة على الخلافة العباسية في بغداد.. غير أن خروج محمد علي باشا على السلطان العثماني واستقلاله بمصر يعد واحدا من أخطر الأنشقاقات في التاريخ وذلك لتشاطر عوامل اقليمية وعالمية متنوعة في التمهيد له وتوظيفه في سياق السياسات الغربية طيلة العقود الثلاثة الأخيرة من النصف الأول من القرن التاسع عشر.. وقد مهدت لأنشقاق محمد علي باشا واستقلاله بمصر ثم توسيع رقعة دولته لتضم سوريا وكريت واجزاءا من الأناضول هزيمة العثمانيين في الحرب الروسية العثمانية 1828- 1829 التي تمخضت عن ضياع قرابة نصف أراضي الأمبراطورية..مما وضع السلطان العثماني في كماشة احد اطرافها قوة اسلامية والآخر القوى الغربية مجتمعة..ولم يكن الغرب في حقيقة توجهاته يعمل لصالح اي من الطرفين المسلمين المتحاربين ..ولكن التنافس بين بريطانيا وفرنسا من جهة وبين الأخيرتين وروسيا من جهة أخرى خلق وضعا سياسيا ودوليا عطل التعاون بين القوى الأوربية للأجهاز على الأمبراطورية العثمانية والحيلولة دون تحقيق محمد علي باشا لأنتصارات حاسمة بعد استيلائه على سوريا عام 1833، تؤدي الى تربعه على عرش دولة اسلامية عاصمتها القاهرة او اسطنبول..فكلاهما السلطان والباشا شر لابد منه للحد من الأطماع الروسية..وكان لمشاركة تركيا في حرب القرم الى جانب بريطانيا وفرنسا وهزيمة روسيا حقنة حياة جديدة في جسد الرجل المريض الذي أجهز عليه الغرب في آخر المطاف وتولى التحكم بميراثه الذي تضمن الأراضي العربية من المحيط الى الخليج..
والمهم في هذه المقدمة الطويلة بعض الشيء الربط بين الأوضاع الدولية العامة والحوادث التي عاشتها الموصل في تلك الفترة والمتمثلة بحكم الوالي العثماني اينجة بيرقدار محمد باشا الذي عاصر جانبا من حكم السلطان محمود الثاني وجانبا من حكم ابنه السلطان عبد المجيد الأول..وهي فترة غاية في الأهمية حيث تم خلالها اكتشاف الحواضر الآشورية نينوى وكالخو (النمرود) ومدينة سرجون وتنوعت في الموصل البعثات التبشيرية في وقت تنامت فيه الضغوط على الولاة المحليين لتطبيق الأصلاحات والأعداد للأخطار التي تهدد الأمبراطورية بأسرها..مما جعل الموصل بؤرة نشاط منقطع النظير انعكس في ادبيات الرحالة والمنقبين والأطباء الأجانب المصاحبين للبعثات التبشيرية في ذلك العهد..وبينما كانت القرارات الكبرى تتخذ في لندن وباريس وموسكو للضغط على القوى الأقليمية وفي واجهتها تركيا العثمانية ومصر، وتوجيه سياساتها ..كانت الضحية على الدوام الفقراء من بين الناس ممن لاناقة لهم ولاجمل بالحروب التي لم يتردد الطغاة في دفعهم وقودا في إذكاء نيرانها..
وتكتسب الصورة، على الرغم من البؤس الذي ترسمه، ألوانا زاهية واسيانة في الوقت نفسه بأقلام الرحالة الأجانب الذين لا بد من دراسة تقاريرهم بعمق أكبر نعتمد فيه الدلالة الحضارية والمنهج المقارن لفرز الصدق عن الأنحياز؛ ولاسيما لأن الأنطباعات السائدة في الغرب عن الأسلام عامة والعثمانيين خاصة لاتخلو من أبعاد سلبية تمليها معتقداتهم من جهة، وممارسات جماعات اثنية (لاعلاقة لها من قريب أو بعيد بالأسلام وتعاليمه السمحاء)؛ للأضطهاد الديني والتصفيات الجسدية للأيزيدية والنصارى التي تكررت في أثناء الهيمنة العثمانية على بلاد الرافدين ثم عادت في الآونة الأخيرة ولكن بدوافع مختلفة ولإهداف مختلفة ..والأرجح ان الأطراف الأثنية التي رمت الأكتساب سابقا في الأموال والأمتيازات هي التي تقف وراء الجرائم قديمها وحديثها بهدف مايسميه قادتها (مكتسبات) اسقطتها في سلالهم القوى الغربية نفسها (وبصورة مباشرة هذه المرة) بعد قرابة قرنين من الزمن..وهذا لايعني ان العثمانيين كانوا حملانا وديعة سواء من خلال ممارسات ولاتهم وباشواتهم او من خلال حملات التجنيد القسري او جباية الضرائب أومن خلال ضريبة الدم (دفشرمة) أو غيرها من الممارسات التترية التي صبغت العرب والمسلمين بألوان ألتواورالية قرمزية اتخذت الوانها من الحروب والدماء النازفة من جراء المواجهات بين العثمانيين والقوى الغربية، ولم تنصف العرب على الرغم من اشراكهم وقودا في الحروب الأوربية والأقليمية التي خاضها العثمانيون على مدى 400 سنة؛ مما يدعونا الى وضعهم في قفص الأتهام التاريخي نفسه الذي يقف فيه الغرب العدواني الذي لم يسمح بأستقلال العرب ابدا لا في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الأولى، ولا في المرحلة التي تلت حركات التحرر العربي والنهوض القومي في مصر عبد الناصر او في سورية والعراق القوميين بل عمل على احتلال المنطقة فكريا وسياسيا من جديد..بما يؤكد ان شيئا من أهداف الغرب وسياساته لم يتغير منذ معركة بواتية والحروب الصليبية وحتى الوقت الحاضر..وكما ذكرت في استهلالي؛ فنحن في تصفحنا للتاريخ نفتح نوافذ أسيانة وأخرى بهيجة..وأخرى مثيرة بما تحتظنه من الوان وتفاصيل غريبة بما لايقاس ..ومن تلك النوافذ نافذة الموصل على عهد اينجة بيرقدار محمد باشا..
الموصل في ثلاثة عقود:
تناول مؤرخون موصليون وعراقيون وعرب اوضاع الموصل ابان النصف الأول من القرن التاسع عشر وفترة حكم الولاة العثمانيين الذين اعقبوا فترة الحكم الجليلي بأسهاب..ومن هؤلاء الكتاب على سبيل المثال وليس الحصر عباس العزاوي وصديق الدملوجي وسليمان صائغ وأنستانس ماري الكرملي ورفائيل بطي وعبد المنعم الغلامي وسعيد الديوه جي..فتحدثوا عما تعرضت له الموصل من حوادث ابرزها الأوبئة والمجاعات وعن ادارة الولاة العثمانيين في الفترة الموافقة لحكم السلطانين العثمانيين محمود الثاني ومجيد الأول..وفي مراجعة هذه المدونات نلاحظ تماثلا في الوقائع التي جاءوا على ذكرها من جهة وعدم ربط هذه الحوادث على الصعيد المحلي في الموصل بالأوضاع السياسية الدولية والأقليمية التي كانت تعصف بالأمبراطورية العثمانية في ذلك العصر بتفاصيلها..كما لم يتطرق المؤرخون الى تفاصيل كثيرة جاء الرحالة والمنقبون والمبشرون من الآباء الدومنيكان وغيرهم على ذكرها..إلا أن المؤرخين العراقيين ممن أرخو للمرحلة يتفقون مع المؤرخين الأجانب في الخطوط العامة المميزة للنصف الأول من القرن التاسع عشر وحتى انتهاء فترة ولاية طاهر باشا على الموصل..فالموصل بحكم كونها تابعة للأمبراطورية فلابد ان تكون في واجهة الصراع ضد اعداء الأمبراطورية ولاسيما بعد نجاح ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا في ضم سورية الى مصر والتقدم في الأناضول القريبة جدا من الموصل..مما جعل الموصل تحت اليد العثمانية مباشرة ليس لتزويد الأمبراطورية بالدماء والأموال الضرورية للدفاع عنها مما يفسر فرض التجنيد الألزامي وزيادة الضرائب المفروضة على الناس على مختلف فئاتهم ومذاهبهم وتكرار حملات التنكيل بأعداء الأمبراطورية الحقيقيين منهم والأفتراضيين..ولم يكن الضغط العثماني محصورا على الموصل فقط، بل شمل الولايات العثمانية كافة ..فكلما لحقت بالباب العالي هزيمة جديدة، ازداد الولاة ضراوة وشدة وتعسفا في حملاتهم الضريبية والسوقية.. ومما زاد الطين بلة ان الهزائم العسكرية صاحبتها كوارث واوبئة ومجاعات تضاف الى مثلث الفقر والجهل والمرض شبه الدائمي المميز للطبقات الفقيرة وهي الأكثرية في المجتمعات العثمانية..وكانت الموصل مسرحا للويلات من كل نوع ولون فقد شهدت الموصل مجاعات مهلكة عديدة تنوعت اسبابها بين اشتعال النار بالمحاصيل بسبب ارتفاع درجات الحرارة في الصيف أو بالتعمد بأحراقها .. فضلا عن غزو الجراد وموجات البرد في الأعوام 1794 و1795 وتكرر غزو الجراد الأصفرالمهاجر للموصل اضطرادا في 1824 و 1825 ..وكانت اسراب الجراد تفد من هضاب آسيا وصحراء ايران تحملها الرياح بمالايحصى من الملائين لكل دونم من الأرض المزروعة فتأكل الجرادة الواحدة مايعادل ضعفي وزنها كل يوم بما يتلف محاصيل الحبوب من القمح والشعير والقطن فتسلب الأرض نباتها وخضرتها وتأتي على علف الحيوان وغذاء البشر تاركة الأرض (حصيدا كأن لم تغن بالأمس)..والنتيجة الحتمية لخراب الحرث خراب النسل إذ يصبح رغيف الخبز قرصا للشمس ينأى حتى في كوابيس الفقراء عن ايدي اطفالهم.. مما جعل الأوبئة لازمة من متلازمات المجاعة فكان الجدري يأتي يدا بيد مع الطاعون إذ يخبرنا المؤرخ سعيد الديوه جي في هذا الصدد:
(وفي عام 1799م ظهر الجدري في مدينة الموصل وظهرت أول اصابات بالمرض في محلة خزرج ، ثم أخذ يسري نحو المحلات الاخرى ، واستمر هذا المرض الخطير يفتك بأرواح الناس حتى منتصف شهر صفر سنة (1215هـ/1800م) وبلغ عدد المصابين الذين لقوا حتفهم في اليوم مائة وثمانين نسمة ثم انتقل الى كركوك والسليمانية..وفي عام (1215هـ/1800م) سرى الطاعون في اكثر احياء الموصل ، وبلغ عدد الذين لاقوا حتفهم في اليوم "مائة وثمانون او اقل خمسة" . وغلت الاسعار وكان اغلب الضحايا الذين يموتون من النساء والاطفال وهرب العدد الكثير من اهالي المدينة الى القرى المجاورة . ويذكر العمري في غرائب الاثر ان والي الموصل محمد باشا الجليلي قد ذهب الى سنجار لمحاصرة المتمردين من اليزيدية وخلال عودته الى الموصل علم بوجود المرض فخشي على جيشه فأبقاه خارج المدينة . وقد علق العمري قائلا :"انه رأى رجلا من العساكر بعيدا عن الناس خوفا من المرض ولم ينفعه ذلك)..
وتكررت موجة الطاعون المصحوبة بوباء الكوليرا (الهيضة) سنة 1821 ..ثم عادت الى الظهور مجددا وسط مجاعة استمرت اكثر من سنتين 1825 و 1828 لتتبعها مباشرة موجة قاسية من الطاعون في 1829، ثم اعقبت الطاعون موجة جديدة من الكوليرا التي يطلق عليها العراقيون تسميات مختلفة كالهيضة وابو زوعة والريح الصفراء..وقد استمرت هذه المرة سنتين فتكت خلالها بأهل الموصل في وقت لاتوجد في المدينة كلها مستشفى واحدة هذا بالأضافة الى انتشار حبة بغداد كما ورد في تقرير احد الرحالة في الموصل آنذاك..وكان الناس يموتون بالمئات كل يوم ولم يفلت من الموت اعضاء من البعثات التبشيرية ومن الآثاريين ..ومن لم يمت منهم في الموصل حمل معه المرض ليموت بحلب أو اماكن أخرى مثل جورج سميث والدكتور جرانت اما من مات منهم في الموصل مبكرا فالآثاري بيلينو والتبشيريين كولبي ميشيل الذي دفن في تل بيلا المقابل لقرية بحزاني في ظهيرة صيف ساخنة بعد نقله مشدودا على ظهر حصان لأكثر من سبعين ميل..ثم اشتد المرض بزوجته أليزا ميشيل فحملت على تختروان حتى الموصل حيث توفيت ودفنت في مقبرة الكنيسة السريانية الأرثدوكسية في الموصل وكان ذلك عام 1841 وبعد سنة توفي التبشيري ابيل هنزديل ايضا..وكان ذلك في اثناء ولاية اينجة بيرقدار محمد باشا..ويعود الفضل للدكتور أساهيل جرانت الذي دأب على التنقل من اوروميا الى دير الزعفران الى ارض روم فالموصل لمعالجة المرضى حتى توفي هو الآخر في الموصل في السنة نفسها التي توفي فيها اينجة بيرقدار محمد باشا سنة 1844..ويعتقد أهل الموصل ان الوباء يعود كل 31 سنة في موجة جديدة؛ اما غزو الجراد وهو الطاعون الثامن في التوراة والأبتلاء الثالث في القرآن الكريم، فيعزونه الى غضب الله على الناس لظلمهم انفسهم او لسكوتهم على الظالم.. وذلك لذكر الجراد في القرآن في آيتين ثانيتهما تربط بين الجراد والنقمة الإلهية: (فارسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين)، الأمرالذي يجعل الناس يشعرون بالأضافة الى ابتلاء الأوبئة، بالذنب..وكان علماء الناس يرون في طغيان الحكام واهمالهم فتنة لاتصيب الظالمين وحدهم بل تأخذ البريء بذنب الظالم..حتى وصلت الأوضاع في المدينة حالا بائسة قبل ارسال اينجة بيرقدار محمد باشا الى الموصل؛ إذ يخبرنا طبيب البعثة التبشيرية الأميركية د. جرانت الذي عاش متنقلا وراء المرضى بين ارومية وارض روم والموصل مستعرضا التاريخ القريب للمدينة:
(بالأضافة الى الأضطهاد، جاءت موجة الطاعون عام 1829 لتفتك بالمدينة ..وكان الناس يموتون بالمئات في كل يوم فيحملون وترمى جثثهم في حفرة هائلة في السور الشمالي حيث تبدو للعيان أكوام العظام والجماجم لمن ينظر من الفتحة الضيقة في السور..وكان الناس يرون ان الوالي (الجليلي) هو السبب فيما يلحقهم من ظلم فقرروا تحرير المدينة من العائلة الحاكمة ومن الباشا فقتلوا العديد من الولاة الجليليين ممن حاول استرداد النظام، بين عامي 1822 و 1834 "وقد توالى على الموصل خلال هذه المدة خمسة ولاة جليليين اثنان منهم تولاها مرتين"؛ أما المدينة فقد اصبحت خلال هذه الحواداث..مشهدا للفوضى المطلقة..فقد انقسم الناس الى جماعات تعادي إحداها الأخرى وادت المشاجرات والأغتيالات الى ضياع الأمن مما جعل الناس تبني جدرانا في الطرقات للفصل بين الأحياء المتخاصمة..اما التجارة فقد دمرت بالكامل تقريبا ..وبدت المدينة في اوقات بدون حاكم..وكان الرعية يتوصلون الى سلامتهم بالتجمع في ثلاثة او اربعة اشخاص وراء احد المتنفذين، يقوم بالمقابل بحمايتهم..وكانت الثياب تمزق من على اجسام العابرين في الشوارع..اما الأغتيالات فكانت متكررة..وكان مرتكبيها يفلتون من العقاب..ولايقدر السكان مغادرة المدينة لأكثر من نصف ساعة خوفا من العيارين الوافدين من الصحراء الذين يقدمون الى المدينة وينهبون كل من يرونه خارج اسوارها..وكان بيك راوندوز قد اقتحم الموصل ووصل حتى النبي يونس حيث استلب من الناس ممتلكاتهم كلها قبل ان يرحل الى حيث اتى) ..
فالموصل كانت في وضع لاتحسد عليه مدينة في العقود الأولى من القرن التاسع عشر..وهو وضع لايمكن باي حال من ألأحوال فصله عن الأوضاع المتردية للأمبراطورية العثمانية التي كانت على الرغم من إرادة ادارتها في اسطنبول الإصلاحية في حالة انهيار سريع استحقت في طور تفاقمه لقب رجل أوربا المريض..وهو مع توظيف هذا المجاز اي [رجل مريض] فهو مريض لاتخلو يديه من مخالب وفمه من انياب..غير ان ضحيته في الحالات كلها وعند كل ازمة اقتصادية تعصف بالعاصمة او هزيمة تهتز لها البلاد وتزعزع ثقة السلطان شبه المطلقة بموارده وقوته هو الرعية التي تشمل بوجه خاص العرب الذين وقع عليهم الجهد العسكري من الطرفين المتحاربين مصر واسطنبول فضلا عن وضعهم في خط المواجهة مع الدول الأوربية الثائرة للمطالبة بأستقلالها..وكان استقلالا ناجزا او يكاد باكمله على عهد السلطان محمود الثاني الذي لم يجد بدا من المضي بالإصلاحات وكانت نتيجة الأصلاحات واضحة ومأساوية على الكثير من الولايات الإسلامية وبخاصة العراقية ومنها الموصل:
اينجة بيرقدار محمد باشا:
في هذه الظروف جاء تعيين اينجة بيرقدار محمد باشا (او بيرقداري - كما يسميه الموصليون) في محاولة من اسطنبول فرض ضرب من المركزية بطريق استرجاع الولايات العثمانية من الأسر شبه المستقلة، وربطها بالحكومة العثمانية مباشرة وتطبيقا للأصلاحات التي تمثل أهمها ببناء جيش يحل محل الأنكشارية التي كان السلطان محمود قد حلّها، كتطبيق التجنيد الألزامي الذي شمل على عهد مجيد الأول النصارى، ثم تنفيذ نظام ضريبي صارم لتغطية المجهود الحربي ومشتريات الأسلحة في مواجهة الخطر المصري والأبقاء على البقية المتبقية من الأمبراطورية..اي ان الأمبراطورية تحركت وفق ماتفرضه عليها الضرورة التاريخية اي [المركزية] أزاء التفكك والأنفصال وبكل وسائل القوة.
استلم الوالي العثماني اينجة بيرقدار محمد باشا الموصل مدينة خرائب..وتتضح من متابعة فترة ولايته طبيعة المهمة التي انيطت به : فرض الأمن، جباية الضرائب لتمويل الجيش وحركة الأعمار في المدينة، فرض هيبة السلطان ومركزية الدولة، القضاء على حركات التمرد والعصيان في راوندوز والعمادية وتلعفر ومناطق اليزيدية والشمر، فرض عملية التجنيد الإلزامي، فرض الأمن في المدن والقصبات في شمالي بلاد مابين النهرين وانهاء كافة اشكال السلطات المحلية في المناطق التي تتواجد فيها الجماعات الأثنية والدينية..والعمل للحد من المجاعات والأوبئة والعصابات التي خربت الحرث والنسل ودمرت التجارة والأسواق في الموصل..كما تم خلال فترة حكمه الممتدة قرابة 9 سنوات من 1835 وحتى عام 1844 اكتشاف الأوابد الآشورية القديمة: فقد اكتشف بوتا بمساعدة معلومات نقلها اليه احد سكان باريما القريبة من مدينة سرجون هذه المدينة عاصمة سرجون الثاني واكتشف لايرد نينوى ونقب في كالخو (النمرود) و قلعة الشرقاط (آشور) وشريخان ..وكان أكتشاف هذه المدن الدفينة في مشارف الموصل وفي جانبها الأيسر ثورة هائلة في علوم الآثار والحضارات القديمة والأديان وتأسيسا لعلم المسماريات والدراسات الآشورية..ومن الطبيعي ان تنطلق الحملات الأستكشافية من الموصل ويحصل المنقبون على ترخيصاتهم (تذكرة) من الباشا بعد ان يحصل سفراء دولهم على أمر(فرمان) من السلطان العثماني يحملونه معهم الى الموصل..وكان الأنكليز والفرنسيين يشتكون من صعوبات تعسرعليهم المضي في تنقيباتهم بأمان..ولعل السبب وقوف فرنسا وبريطانيا الى جانب محمد علي باشا وابنه ابراهيم في حروبهما ضد السلطان..كما شهدت الموصل نشاطا هائلا للبعثات التبشيرية الأميركية والجزويتية الفرنسية والأيطالية وغيرها وكان بين اعضاء البعثات التبشيرية أطباء متنقلين كانت الموصل بأمس الحاجة لخدماتهم..وعلى الرغم من تأسيس اينجة بيرقدار محمد باشا لمستشفى القشلة، فان نقص الأطباء وتخصيص المستشفى لمعالجة جنده ومن يرى في علاجه فائدة للموصل، قلص كثيرا من خدماتها العامة..ويبدو ان جل اهتمام الباشا، كما يروي الرحالة، انصب على قمع الأعداء المحتملين والفعليين للأمبراطورية العثمانية وفرض التجنيد الألزامي وجباية الضرائب..بينما تناول المؤرخون العراقيون والأتراك الجهود العمرانية والإصلاحية الى جانب الحرب والقسوة المفرطة في السعي لفرض الأمن وأحترام السلطة. ويقينا فثمة أختلاف كبير بين رواية الرحالة الأجانب ورواية المؤرخين العرب حول اينجة بيرقدار محمد باشا. وأرجح أن منشأ هذا الأختلاف يعود الى المنظور الذي تم بموجبه تصور الباشا وتصويره من قبل الرحالة الأجانب وطريقة تعامله معهم مما جعلهم يركزون على سلبياته دون ايجابياته بينما تناول المؤرخون العرب سلبياته وايجابياته فكانوا أكثر موضوعية من الأجانب..ورأيي أن الحكام الذين سبقوا الباشا محمد اينجة بيرقدار (كما يسميه المؤرخون المعاصرون) لم تعوزهم الإرادة الطيبة والبنائة، غير انهم لم يلجأوا الى القوة المفرطة في فرض هيبة السلطة وضرب خصومها من عصاة الصحراء والجبل مما جعلهم ضحية لهؤلاء الخصوم وللأوضاع المزرية التي صيرتها واشتركت فيها عصابات السراق والغزاة والجراد من كل نوع في الفترة التي سبقت مجيء اينجة بيرقدار محمد باشا وخلقت بيئتها الحال الذي وصلت اليها الأمبراطورية العثمانية بسبب الأطماع الغربية في اراضيها.. وفيما يأتي نتناول تقارير الرحالة ممن عاش في الموصل او زارها ومكث فيها حينا في اثناء حكم اينجة بيرقدار محمد باشا..ولكننا نبدأ بتمهيد للمنظور العربي لهذا الوالي معتمدين فيه على مؤرخين عرب كالأستاذ عباس عزاوي وسليمان صائغ وصديق الدملوجي الذي اعتمد بدوره على تقويم الموصل او سالنامة الموصل لعام 1308- 1891 الذي دونه توفيق فكرت..وهو مصدر ثبته سليمان صائغ ايضا في مسرد مراجعه..ويقينا ان مكتبات الموصل وبخاصة مكتبة الأوقاف والمتحف والمركزية في المدينة والجامعة تحتضن مصادر غنية بالمعلومات عن تلك الفترة المهمة من تاريخ الموصل..وهي خارج متناولي للأسف مما يجعل الدراسة منقوصة بعض الشيء تواقة الى المصادر العربية الأخرى غير تلك التي اسلفنا ذكرها..مع ذلك ففي المصادر الأجنبية الألكترونية وغيرها مادة تفتقر اليها مكتباتنا ببساطة لأن معظمها لم يترجم الى العربية على الرغم من اهميتها الكبيرة لتدوين تاريخ الموصل في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الأمبراطورية وتاريخ الموصل وللتعرف على تفاصيل يفضل، من تتمثل حصته من التاريخ بالنهب والقتل والأغتصاب، حجبها وابقاءها دفينة في رفوف المكتبات..
تتوزع منجزات اينجة بيرقدار محمد باشا (1835 - 1843) في الموصل وشمالي العراق الى منجزات عسكرية وادارية وعمرانية واقتصادية..ففي فترة حكمه لم تحدث اوبئة او مجاعات كالتي حدثت قبل توليه ادارة المدينة او بعدها بأكثر من عقدين..وكان استلم الموصل والمنطقة في حالة فوضى تحف بها المخاطر ويتحكم باقدارها اللصوص والعيارين والقتلة ليسلمها مدينة مستقرة آمنة مزدهرة بعمارتها واسواقها..وبدهي ان تكون البداية بفرض الأمن في الداخل فالأنتقال للقضاء على حركات العصيان في القصبات والجبال ثم في مناطق تلعفر وسنجار وربيعة وفرض احترام القوانين على الجماعات الخارجة على القانون فيها تمهيدا لفرض نظام التجنيد الإلزامي وجباية الضرائب الضرورية لتمويل الجهد العسكري من جانب وحركة الأعمار من جانب آخر.. ولم يكن اهالي الموصل بسبب تكتلاتهم حول عدد من المتنفذين وخشيتهم من التيه في ارجاء الأمبراطورية او موتهم في الحروب الكثيرة التي تخوضها يستجيبون في البداية لدعوته الى العسكرية، وقتلوا رسوله الذي انفذه اليهم..فاعد 20 مدفعا قصف بها المدينة واغار على اسواقها ثم اعقب ذلك بحملة اعتقالات عشوائية وبذلك تمكن من فرض التجنيد الإلزامي الضروري لتشكيل الجيش الجديد..والتحرك به وبما لديه من قوات نظامية وخيالة لأخماد حركات العصيان في العمادية وراوندوز والشيخان وتلعفر وسنجار..والملاحظ في مقارنة النصوص العربية والتركية بكتابات الرحالة ان المؤرخين العرب والأتراك لم يذكروا تفاصيل النفير العام وتأثيره على الأهالي بينما توسع الرحالة في ذلك كما سنرى لاحقا..
وتمثلت حركات العصيان بخمس بؤر رئيسة هي العمادية وراوندوز وتلعفر ومناطق تواجد قبائل الشمر الحرونة وجماعات من ايزيدية سنجارالتي لم تكتف بالأمتناع عن التجنيد ودفع الضرائب بل تجاوزت ذلك الى الأغارة على القوافل ونهب المسافرين وتعريض الأمن للخطر، مما جعل امر اخضاعها ضرورة تماما كالجبال حيث قام عدد من الأغوات بتعيين انفسهم بانفسهم باشوات..وهي حال شاذة لأن الباشا الذي يعادل لقب (لورد) لايمنحه الا السلطان العثماني وربما عمد باشا بغداد في وقت مبكر الى منحه لمحمد ميركور (الأعور) او محمد الراوندوزي (المتخصص بقلع عيون خصومه من اليزيدية والنصارى والعرب)، فحاكاه اسماعيل البهديناني الذي اعلن عصيانه في العمادية على السلطة مستفيدا من لقب باشا الذي كان والي بغداد قد منحه اياه في السابق.
ونحن ان استخدمنا اسلوب الأحصاء التاريخي بالتقابل والمقارنة كما وضعه الدكتور احمد عبدالله الحسو سنجد ان الجغرافيا (منطقة الجبال) كانت دائما تشكل نتوءا في التاريخ وان حركات العصيان في الجبال تتكرر عبر التاريخ منذ العصر الآشوري نتيجة ضعف السلطة المركزية وتراجعها أو لتعرضها لعدوان خارجي، في واحد من ثلاثة مراكز فارس أوالعراق أوتركيا..يؤيد ذلك قيام بدرخان في بوطان على نحو متزامن مع عصيان الراوندوزي والعمادي..وتكرار ذلك في الفترة السابقة على الغزو الصفوي للعراق فقد اشار الدكتور عباس العزاوي على علاقة تنظيمية بين محمد بن فلاح المشعشع في اهوار الحويزة وحيدر جد اسماعيل شاه صفوي..بمعنى ان قوى الأطراف والأقليات الأثنية غالبا ماتميل الى العصيان والتمرد على السلطة المركزية عندما تتراجع هذه السلطة عن قوتها ومنعتها أو عندما تتعرض اراضيها لغزو واسع كالغزوالمغولي والصليبي والعدوان المغولي الثاني على عهد تيمورلنك ثم العدوان الأخير على العراق..وليس عبد الله أوجلان سوى الوريث التاريخي لبدرخان..والقرين بالقرين يذكر..ونحن في مراجعتنا للدراسات التي تناولت هذه المرحلة من وجهات نظر مختلفة تعكس القناعات الآيديولوجية أو العنصرية لكتابها، نجد أن هناك محاولة لعد القتلة ابطالا أو عزو جريمة ما بحق اناس عزل لشخص ما بينما تذهب الوثائق التاريخية الى تأكيد رواية مغايرة تماما كأن يعزى قتل علي بك أمير الأيزيدية الى اينجة بيرقدار محمد باشا بينما يؤكد الرحالة ان قاتل شيخ الأيزيدية هو محمد ميركور الذي كان لأسباب دينية وغير ذلك يناصب الأيزيدية والنصارى عداءا لدا راح ضحيته الآلاف بدون رحمة..وهنا لابد من توجيه اللوم على العثمانيين لأنهم ولأسباب دينية رجحوا كفة الأكراد على النصارى في قصبات ومدن الجبال لتنافسهم الأبدي مع الفرس الشيعة وللحيلولة دون امتداد النفوذ الفارسي وسط الأكراد من جهة ولعدم ارتياحهم للنصارى وبخاصة الأرمن منهم..
والمهم في هذا الأستطراد أن اينجة بيرقدار محمد باشا تمكن بمفرده احيانا وبمساعدة والي بغداد علي رضا باشا ووالي سيفاس مصطفى رشيد باشا مرة اخرى من بسط نفوذ الدولة العثمانية على قلاع المتمردين في الجبال على الرغم من تحصيناتها الدفاعية ووعورة الطرقات التي تقود اليها..وكانت اولى عملياته العسكرية في العمادية الآشورية التي شق فيها اسماعيل باشا عصا الطاعة فاتجه اليها بجيشه وفرض عليها حصارا ادى الى فرار اسماعيل باشا، فدخلها واصلح احوالها وعين عليها ضابطا من خاصته وعاد الى الموصل..وكان ذلك عام 1835 ..وبعد عام على هرب اسماعيل باشا الى [نيره وا] في الجبال، تحركت قوة كبيرة بقيادة الدبلوماسي العثماني الشهير مصطفى رشيد باشا وبأمر من السلطان محمود الثاني نفسه لقمع عصيان محمد ميركورالراوندوزي الذي قويت شوكته ووسع اراضيه حتى ماردين واطراف الموصل، وقتل الكثير من النصارى والأيزيدية بلا رحمة..بل قام بالأتصال بمحمد علي باشا وتقديم المساعدة لأبراهيم باشا في حربه مع العثمانيين في سورية..وقد اصطحب مصطفى رشيد باشا معه اينجة بيرقدار محمد باشا والي الموصل وعلي رضا باشا والي بغداد والتقت قواتهم في دشت حرير قبل تحركها الى راوندوز التي تحصن فيها ميركور وبعد مناوشات ومداخلات تضمنت اصدار امر بالأمان لميركور وفتاوي اطلقها مقربون منه كفتوى الملا محمد الخطي القاضية بتحريم قتال جيش الخليفة، استسلم ميركور واقتيد الى اسطنبول حيث حصل على العفو من السلطان ..إلا انه قتل في طريق عودته في سيفاس..مما وضع نهاية لعصيانه ووجه جهد اينجة بيرقدار محمد باشا الى اسماعيل باشا في العمادية كما أسلفنا.. وكان اسماعيل باشا قد تمكن من الرجوع الى العمادية والتحصن فيها مستفيدا من تحصيناتها الدفاعية ومتخذا اياها قاعدة للأغارة على قرى النصارى والأيزيدية عام 1842 فسير اينجة بيرقدار محمد باشا جيشا الى العمادية وجابهت قواته عسكر اسماعيل باشا بالقرب من [عين توثا]، فيما ذكر الصائغ، حيث انهزمت قوات اسماعيل باشا باتجاه القرية المذكورة وأحرقوها بينما عادت قوات اينجة بيرقدارالى الموصل..اما اسماعيل باشا فلملم شتات قواته وقادها الى القوش فقتل غالبية اهلها وانتقل الى روبان هرمز حيث اخرج الرهبان من صياصيهم وشرع بضربهم وتعذيبهم ولما سمع بقدوم قوات الموصل، هرب الى العمادية مصطحبا الرهبان المكبلين بالأغلال رهينة معه..إلا أنه لم يدم له المقام في العمادية اذ سرعان ماداهمته قوات اينجة بيرقدار محمد باشا معززة بقوات عثمانية وحاصرته وتمكنت من الإمساك به واقتياده مكبلا بالأغلال الى الموصل ومنها أخفر الى بغداد حيث انقطعت اخباره مرة والى الأبد..وبذلك يكون اينجة بيرقدار محمد باشا قد طهر الجبل من العصاة ..وكان خلال حملاته على الجبل قد مر بمدن عاصية اخرى كتلعفر وسنجار اللتان امتنعت السلطة المحلية فيهما عن تطبيق أوامر الأنخراط بالجندية ودفع الخراج عن الأرض المزروعة والمواشي فأجتاح المدينتين وعاقب اكابر سكانها واثريائهم ..ثم اتجه الى قبائل شمر فكسر شوكتهم وأسر أحد شيوخهم..واقتاده الى الموصل..وبذلك أمن الجبل والبادية ..بعد ان طهر المدن ومدينة الموصل بوجه خاص من اللصوص والعيارين والخارجين على القانون..وهنا يعود له الفضل بتأسيس جهازين مهمين اولهما امتداد للحسبة وظيفته ضبط النظام العام والحد من ظاهرة شرب المسكرات وارتكاب المحرمات، وثانيهما جهاز مخابرات او تعقيبات الهدف منه تتبع الهاربين من خدمة العلم ورصد المتآمرين للنيل منه او الأخلال بالأمن العام..وكانت العقوبة ضد مستحقيها من الخارجين على القانون صارمة لاتعرف الرحمة..مما أدى الى استتباب الأمن وانتعاش الأسواق والشروع بعمارة المدينة..
ولابد قبل الأنتقال الى المنجزات المدنية والعمرانية لأينجة بيرقدار محمد باشا من الإشارة الى التناقض القائم بين رواية السالنامة التي اعتمدها عدد من المؤرخين حديثي العهد من الأكراد كمحمد امين زكي الذي اعتمد مصدرا سليمان صائغ وصديق الدملوجي الذي نقل بدوره عن السالنامة، ورواية عدد من الرحالة كهنري اوستن لايرد وبخاصة فيما يخص التعامل مع الطائفة الأيزيدية وقتل زعاماتها..إذ ورد في المصادر الكردية والتركية ان اينجة بيرقدار محمد باشا قام بقتل امير الشيخان علي بيك وانه قام بعد عودته من العمادية بذبح زعماء الأيزيدية في قرية كرمحمد عرب..بينما ورد في نص واضح صريح للايرد صديق الشيخ ناصر الأسياني ومعاصر باشوات الموصل خلال زيارتين قام بهما للموصل وللمناطق الأيزيدية الآتي:
(كان بيك رواندوز القوي "ميركور" الذي وحد القبائل الكردية في الجبال المحيطة تحت زعامته وتحدى الفرس والترك معا لسنوات قد قرر سحق الطائفة الأيزيدية، وكانت قوات علي بيك [شيخ الأيزيدية] قليلة جدا في عددها مقارنة بقوات ظالمهم [ميركور].. فانهزم من بقى على قيد الحياة وسقط علي بيك اسيرا بيد زعيم راوندوز الذي قتله فورا..وبالنتيجة هرب سكان الشيخان سيرا الى الموصل؛ وكان ذلك في موسم الربيع عندما ارتفعت مياه دجلة وغطت الضفاف.. وقام اهل الموصل بازالة الجزء المصنوع من الزوارق من الجسر..مع ذلك تمكن عدد من الأيزيدية من عبور النهر بينما بقي من لم يقدر منهم على السباحة من النساء والأطفال والشيوخ على الجانب الأيسر ثم تحركوا للأختباء في تلقوينجق..إلا أن الراوندوزي داهم الأيزيدية المعتصمين بالتل وقام بذبحهم بدون رحمة وهم يصرخون ويستغيثون في الوقت الذي ينظر اليهم اهل الموصل من فوق سطوح منازلهم عاجزين عن تقديم العون لهم وهم يستغيثون من غيرما جدوى......وبينما كان مصير الرجال والنساء اليزيدية الذبح من غير رحمة..كان قدر الأطفال من الجنسين البيع في المدن الرئيسة..وكان هذا واحداا من مصادر دخل بدرخان " زعيم الأكراد في الأناضول" في الوقت الذي جرت العادة على قيام باشوات الموصل وبغداد بأطلاق العنان لقواتهم غير النظامية للأغارة على القرى اليزيدية لتعويض تدني مرتباتهم..مما دفع الأيزيدية على تنظيم انفسهم بعصابات من قطاع الطرق بهدف الأنتقام من ظالميهم..فكانوا يقتلون اي مسلم يقع بين ايديهم ويغيرون على القوافل ويقتلون التجار بدونما رحمة غير أنهم لم يهاجموا المسيحيين لشعورهم انهم ضحية مثلهم لظلم الترك والمسلمين)..