نَسـَــــبُ سُــــــبَيع
وأخبــــارهـــــا

تأليف
سليمان بن محمد الحديثي

طباعة ابن جراح حفظه الله


الإهـــداء

[poet font="simplified arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
إلى من أحيا في نفسي الأمل في رؤية نجل حقيقي وصورة
واقعية لأولئك العرب الذين قرأنا الكثير ...الكثير عن
كرمهم وكرامتهم.. وعن نبلهم وشهامتهم.

إلى من تعلمت منه الشيء الكثير فعلاً لا قولاً.
إلى الأخ الكريم :

بندر بن سعد الحريول


رفعت له بيضا على رأس شاهــقٍ =
أعلل ربعي بالثــنـا من خصـــــاله
له ترفع البيضا و يُحدى بذكره =
فتى تنجلي اكدارهـــا مع فعــــاله
تســلل حــراً بين قـــومٍ أعــزةٍ =
فعـــمٌ كريمٌ مع جلالة خاله
[/poet]
كان من سوالف العصر وأقضية الزمان ، أن أتعرف على
شهم كريم من أفراد هذه القبيلة - سُـبيـع- ، حبـاني
بجوده ، وأضفى عليّ من كرمه ، ناهيك بشهامته ورجولته
وحسن أدبه وخلقه وديانته .
وقد دفعتني هذه المعرفة إلى أن أكتب هذا الكتاب عن
قبيلة هذا الشهم النبيل ، راجياً أن أرد له بذلك بعض أياديه
البيضاء ، وبعض ما طوقني به من آلائه ومننه

المقدمه


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، واتبع نهجه واقتفاه .
وبعد
فلقبيلة سُبَيْع أثر كبير في جزيرة العرب ، وخاصة في منطقة نجد والحجاز ، فهي من أشهر القبائل النجدية ، وأشدها سطوة ، وأقواها بأساً ، و يكفي دليلاً على ذلك ما أحدثته للحملة التركية الطاغية سنة 1237 هـ من هزيمة ساحقة وخسارة جسيمة ، ذاق الأتراك وعملائهم مرارتها و وبالها ، وهذه نهاية كل مستعمرً حقود ، وعميل لئيم ، ولعل هذه الحملة لم تمر - منذ مجيئها- بهزيمة من قبيلة من القبائل مثل هذه الهزيمة .
ولقد ظهرت قبيلة سبيع على مسرح الأحداث في النصف الثاني من القرن التاسع الهجري، وكانت هذه الأحداث عبارة عن مناوشات بينها و بين بعض القبائل ،أو إغارات لها على القرى و المدن أو رحلة لها للاكتيال من بعض المدن التجارية كالأحساء مثلاً .
و في القرن الثاني عشر ، و مع نشأة الدعوة الإصلاحية ،وقيام الدولة السعودية الأولى، رأينا هذه القبيلة وقد انخرطت في سلك الدولة السعودية و اتبعت الدعوة الإصلاحية ، دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ،وهي من أوائل القبائل التي اتبعت هذه الدعوة .
ولقد لعبت هذه القبيلة دوراً هاماً خلال أطوار الحكومات السعوديه الثلاث ، وكانت ساعداً قوياً، وحارساً أميناً ، ساهم في بناء لبنات هذا الصرح العظيم الذي شمل الجزيرة العربية .
كما إن للأُسَرِ المتحضرة من هذه القبيلة دوراً كبيراً في دفع عجلة الحضارة إلى الأمام ،فلقد أنشأوا عدة مدن وقرى ،وحكموها ،ومن أشهر هذه المدن مدينة عُنَيْزَة والتي كانت في يوم من الأيام كبرى المدن النجدية ، كما أن لعلماء هذه الأسر أثراً كبير في نشر العلم و المعرفة بين الناس .
وسأتعرض في هذه الدراسة لما آلت إليه، و سأفصل القول فيه ، وقد قسمت هذه الكتابة إلى عدة فصول ، وقدمت لها بمقدمتين :
المقدمة الأولى: في أهمية علم النسب .
المقدمة الثانية : في فضل العرب .
ثم بدأتُ الكتاب بالفصول التالية :
1 ـ أصل كلمة سُبَيْع ، وقد اعتمدت في هذا الفصل على كتب النسب و اللغة.
2 ـ نسب قبيلة سُبَيْع ، وفروعها البدوية ، و أسرها المتحضرة، وقد اعتمدت على مراجع كثيرة من أهمها :
أ ـ معجم قبائل المملكة العربية السعودية .
ب ـ معجم قبائل الحجاز .
ج ـ جمهرة أنساب الأسر المتحضرة في نجد .
د ـ المنتخب في ذكر أنساب قبائل العرب
هـ ـ كنز الأنساب .
3 ـ رحلة سبيع وهجرتها من رنية والخرمة إلى أوساط نجد .
4 ـ ثناء العلماء والنسابين على هذه القبيلة ، وقصائد في مفاخر سبيع .
5 ـ أيام سبيع وتاريخها ، وعلاقتها بالقبائل والحكومات ، وهذا الفصل من أهم فصول الكتاب ، وقد اعتمدت فيه على كثير من المراجع المخطوطة والمطبوعة ، ولعل أهم هذه المخطوطات كتاب (تحفة المشتاق في أخبار نجد و الحجاز والعراق ) لابن بســام ت 1346 هـ ، وقد وجدت فيه معلومات تفرد بها عن غيره من المؤرخين النجديين ، ويظهر أنه اعتمد على مصدرٍ لا يزال حتى الآن مجهولاً لدينا ، أو نسخة أوفى من أحد المصادرالمتداولة في الوقت الحاضر ، وقد يكون هذا المصدر هو تاريخ ابن لعبون ، لأن ابن بســام سمى مراجعه ومصادره ، وليس فيها ما هو غريب علينا سوى تاريخ ابن لعبون الذي لم نطلع منه إلى على جزء صغير طبع سنة 1357 هـ في مطبعة أم القرى ، وقد ذكر الشيخ عبد الله البسـام في كتابه (علماء نجد ) أنه اطلع على نسخة مخطوطة من هذا التاريخ ، وقال عنه :
(بعد من أحسن التواريخ ،لا يزال مخطوطاً و أكثر ما فيه لم يذكره مؤرخو نجد، وكأنهم لم يطلعو عليه كما اطلعوا على تاريخ الناخري الذي سلخوه بلا ردِّ شكراً ) أ.هـ
وهذا ما يؤيد ما ذكرته .
أما المصادر المطبوعة التي اعتمدت عليها في هذا الفصل فمنها: تاريخ ابن بشـر و تاريخي ابن عيسـى و تاريخ الفاخري .
6 ـ ديار سبيع ،وعمدتي في ذلك كتب معاجم البلدان ، كمعجم ياقوت ومعجم اليمامة ومعجم المنطقة الشرقية .
كما اعتمدت على كتاب ( صفة جزيرة العرب ) للهمذاني، و كتاب ( بلاد العرب) للفدة الأصفهاني .
7 ـ علماء سبيع ،وأفراد ها في هذا الفصل هو كتاب (علماء نجد خلال ستة قرون) للشيخ عبدالله البسـام ،و عليه اعتمدت كما إنني رجعت إلى كتب أخرى ككتاب (شعراء هجر ) للدكتور عبد الفتاح الحلوه و كتاب (مشاهير علماء نجد ) لعبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ ـ رحمه الله ـ وفبل هذه الكتب زمناً كتاب ( السحب الوابلة على ضرائح الحنالية ) لابن حميد النجدي السبيعي العامري .

8 ـ فرسان القبيلة وشعراؤها ، وقد ذكرت المراجع التي رجعت إليها في مواضعها من هذا الفصل .

وما هذه إلا محاولة أولى لتأليف هذا الكتاب ، بذلت فيها ما أمكنني بذله لجمع تاريخ هذه القبيلة من بطون الكتب والمخطوطات ،ومن أفواه الرواة ، وسأقوم ـ إن ساعدتني الأقدارـ بمحاولة أخرى أجوب خلالها ديار هذه القبيلة ،وألتقي بشـيوخها ، أسـائلهم عمّا أشغل علي من أنسابهم وأخبارهم ، وأناقشهم فيما أراه يحتاج إلى نقاش ،لنخرج سوياً بمعلومات على أكبر قدر من الصحة ،ومن ثم بدراسة متكاملة الجوانب .
وأنا بعد هذا كله لا أدعي الإبداع و الإتقان ، حا وحسبي أنني قدمت عملاً آمل أن يرضاه العلماء العارفون ،ويعجب به المنصفون ، أما غيرهم فـ (عليّ نحتُ القوافي من معادنها .. .. .. ) .
و أرجو أن أكون قد سددت ثغرة في تاريخ بلادنا بدراستي لتاريخ هذه القبيلة ،و أسهمت في بناء لبنة من لبنات العلم و المعرفة .
وأخيراً أتوجه بالشكر الجزيل إلى علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر ، الذي ساعدني في بعض جوانب هذا البحث ، وفتح لي مكتبته أطلع على كتبها و مخطوطاتها وأستعير ما أشاء منها ، كما أشكر الشيخ عبدالله بن خميس الذي ساعدني في تصحيح بعض الأشعار الواردة في الفصل الخاص بشعراء سبيع ، وأشكر أيضاً الأستاذ العلامة الدكتور عبد الرحمن العثيمين الذي قرأ جلَّ فصول هذا الكتاب ، وكتب ملاحظاته على مسوداته الأصلية ، فجزاهم الله خير الجزاء ، كما أشكر فضيلة الدكتور عبد الله الصالح العثيمين على ما أبداه من ملاحظات .
هذا وأسـأل الله العلي العظيم ألا يحرمني الأجر و المثوبة ، و أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم ، إنه وليُّ ذلك و القادر عليه ، و الله أعلم و صلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله وصحبه وسلم .



كتبه العبد الفقير إلى عفو ربه تعالى


سليمان بن محمد الحديثي

الرياض ـ الربوة
5 / 5 / 1414 هـ




مقدمةٌ في أَهَمْيَّةِ عِلْمِ النَّسَب
علم النسب علم أصيل شريف جليل القدر رفيع المنزلة ، وهو علم تفوقت به الأمة العربية على سـائر الأمم ، وتفردت به ، و افتخرت به عليهم رغم حرص تلك الأمم على تقييد أنسـابهم ، و لقد ألف علمائهم في أنسـابهم ، فهناك من ألف في أنسـاب الفرس ، و آخر في الترك ، وثالث في اليونان و في الأكراد و الصابئة وغيرهم (1) .
و مع ذلك لم تستطع هذه الأمم أن تتقن أنسـابها كما أتقنه العرب ، ولعل من أسباب ذلك كون الأمة العربية أمة شاعرة ، فحفظ لها الشعر أنسـابها و منذلك أيضاً : بقاء قسم كبير منها على بداوته الأصلية ، و البادية أكثر عناية بالأنسـاب من الحاضرة .
و لازالت هذه الأمة منذ جاهليتها و إلى يومها هذا حريصة أشد الحرص على العناية بأنسـابها و تسجيلها ، إلى أن نبغت نابغة من أدعياء الثقافة في العهود الأخيرة ، تحاول إسقاط هذا العلم وتقليل أهميته ، بل إلغائها بالكلية . و وجدت هذه النابغة تكأة لها في حديث يروى عن أكرم الخلق: (علم النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر ) .
و نقول لهؤلاء القوم : رويداً ، ار على أنفسكم ، فتكأتكم منهارة و جداركم منقض ، وحديثكم كردود معلول ، أعله الإمام الذي رواه أبو عمر بن عبد البر ـ طيب الله ثراه ـ
( تـ 463 هـ ) ، فقد قال بعد أن ساق الحديث بإسـناده :
( في إسناد هذا الحديث رجلان لا يحتج بهما ،و هما سـليمان و البقية (2) ) .
ــــــــــــــــ
(1) :انظر,, مروج الذهب,, للمسعودي جـ1 ، و انظر تعليقات الأمير شكيب أرسلان على تاريخ ابن خلدون2 / 3 ـ 30
(2) : ,, جامع بيان العلم وفضله ,,

ـ 7 ـ



وقال أيضاً من مقدمة ,, الأنباه على قبائل الرواه ,, بعد أن ذكر بعض الآثار والأحاديث في فضل علم النسـب :
,, ولعمري ما أنصف القائل : إن علم النسـب علم لا ينفع ،وجهالة لا تضر لأنه بين نفعه لما قدمنا ذكره ,,(1) .

وقد علل هذا الحديث أيضاً الأمام أبو محمد بن حزم ( تـ 456 هـ ) .
فقد ذكر في مقدمة ,, جمهرة أنسـاب العرب ,, فضيلة علم النسـب وفوائده وأهميته ، ثم قال :
,, فوضح بما ذكر بطلان قول من قال : إن علم النسـب لاينفع وجهالة لا تضر ، وصحَّ أنه بخلاف ما قال ، وأنه علم ينفع و جهل يضر ، و قد أقدم قوم فنسـبوا هذا القول إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم . قال علي : و هذا باطل ببرهانين :
أحدهما : انه لا يصح من جهة النقل ، و ما كان هكذا فحرام على كل ذي دين أن ينسـبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم خوف أن يتبوأ مقعده من النار إذ نقول عليه ما لم يقل .
والثاني : أن البرهان قام بما ذكرناه آنفاً على أن علم النسـب علم ينفع وجهل يضر في الدنيا والآخرة (2) .
ونقل العلامة لابن خلدون ( تـ 808 هـ ) في تاريخه(3) تضعيف هذا الحديث عن الأئمة الجرجاني و ابن حزم و ابن عبد البر .

و فضيلة هذا العلم و أهميته باديةً لكل ذي عينين ، بل إن منه ما لا يسـع الإنسـان جهله ، و منه ما كان فضيلة تعلمه ، و يكون من جهله ناقص الدرجة في الفضل ، قال ابن حزم: ,, و كل علم هذه صفته فهو علم فاضل ، لا ينكر حقه إلا جاهل أو معان (4).
ـــــــــــــــ
(1): صـ44ــ (3): 1/4
(2): صـ3ــ (4): صـ2ــ
ـ 8 ـ

فأما الفرض فيعلم النسـب فهو أن يعلم المرء أن محمداً صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله إلى الجن و الإنس بدين الإسـلام ، هو محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي الذي كان بمكة و رحل منها إلى المدينة .
قال ابن حزم :
,, فمن شك في محمد صلى الله عليه وسلم أهو قرشي أم يماني أم تميمي أم أعجمي ، فهو كافر غير عارف بدينه ، إلا أن يجوز بشدة ظلمة الجهل ،و يلزمه أن يتعلم ذلك ، و يلزم من صحبه تعليمه (1) ,,
والتفكير مبالغة من مبالغات ابن حزم لا يوافق عليه .
ومن الغرض في علم النسـب : أن يعلم المرء أن الخلافة لا تجوز إلا في قريش ، وهذه من عقيدة أهل السنة و الجماعة ،لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الأئمة من قريش ) (2) ولذلك لما اجتمع الأنصار يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم احتج عليهم الصديق ـ رضي الله عنه ـ بهذا الحديث فرجعوا إليه و بايعوه .
و من الفرض أن يعرف الإنسان أباه وأمه وكل من يلقاه بنسـب في رحم محرمة ليجتنب ما يحرم الله عليه من النكاح فيهم ، وأن يعرف كل من يتصل به برحم توجب ميراثاً ، أو لازماً له من دينه . يقول الرسول عليه الصلاة و السلام :
( تعلموا من أنسـابكم ما تصلون به أرحامكم ، فإذا صلة الرحم محبة من الأهل مثراة من المال ، منسأة في الأجل ، مرضاة للرب )(3) . تلزمه صلة أو نفقة أو معاقدة أو حكماً ما ، فمن جهل هذا فقد أضاع فرضاً واجباً عليه ،
ـــــــــــــــــ
(1): صـ2ــ
(2): هذه الرواية مشهورة بين المؤرخين ،ولكني وجدت ابن حجر العقلاني يقول عنها: ( وليس هذا اللفظ موجود فيكتب الحديث ،عن أبي بكر-رضي الله عنه- ، وإنما في الصحيحين و غيرهما من قصة السقيفة قول أبي بكر :إن العرب لاتعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ) انظر موافقة الخُبر الخَبَر : 1/480 ،وحديث: (الأئمة من قريش) رواه أحمد 3/ 129 ، 183 ، وقال الهثيمي :رجالة مجمع الروائد : 5/192 ، وحمد الألباني ، رواه القليل :
(3): رواه أحمد 2/374 والترمذي 4/ 351 رقم (1979)و الحاكم :4/161 ومحمد ،والهمذاني : 1/5 ، و الأصفهاني ، انظر السلسلة الصحبية رقم (276)

ـ 9 ـ

و أما الذي تكون معرفته فضلاً على الجميع ، وفرض كفاية فمثل معرفة أسماء أمهات المؤمنين المفترض حقهن على جميع المسلمين ، و نكاحهن عليهم حرام ، و معرفة أسماء أكابر الصحابة من المهاجرين و الأنصار _رضي الله عنهم_ وقد صح عن رسول الله أنه قال :
( آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار) (1) فهم الذين أقام الله بهم الإسلام، وأظهر الدين ، و صح عنه أيضاً (2) أنه أمر كل من ولي من أمور المسلمين شيئاً أن يستوصي بالأنصار خيراً ،وأن يحسن إلى محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم ، فإذا لم نعرف أنسـاب الأنصار ، لم نعرف إلى من نحسن و لا عمن نتجاوز .
ومن ذلك أيضاً معرفة من يحق لهم حق في الخمس من ذوي القربى ، ومعرفة من تحرك عليهم الصدقة من آل محمد عليه السلام ، فمن لاحق له من الخمس ، ولا تحرم عليه الصدقة .
ثم إن هناك مسائل من الفقه تعتمد على معرفة النسب كالجزية والاسترقاق وأحكام الوقف ، إذا خص المواقف بعض الأقارب و الطبقات دون بعض ، وأحكام الوراثة، و أحكام الأولياء في النكاح فيقدم بعضهم على بعض ، وأحكام العائلة (3) من الدية، وبعض الفقهاء يعتبر كفاءة النسب بين الزوجين في النكاح ، وبعضهم أيضاً يفرق في أخذ الجزية ومن الاسترقاق بين العرب و العجم ، ويفرق بين حكم نصارى بني تغلب ، وبين سائر أهل الكتاب في الجزية .
ـــــــــــــــــ
(1): البخاري : 5 / 40 ، مسلم : 2 / 63
(2): البخاري : 5 / 43 ، مسلم : 16 /68
(3): العائلة : القرابة من قبل الأب الذين يعطون دية قتل الخطأ .




ـ 10 ـ

و لما أقنع المشركون من هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تصدى لهم حسان بن ثابت رضى الله عنه ، فخشي الرسول أن يتعرض لنسبه وقال لحسان : ,, إن لي فيهم نسباً فائت أبا بكر فإنه أعلم قريش بأنسابها فيخلص لك نسبي ,, فقال حسان : والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم و نسبك سل الشعرة من العجين ، فهجاهم فقال له رسول الله :
,, لقد شفيت و اشتفيت ,, (1)
ومن ذلك أيضاً أن تعرف الفاضل من الفضول ، والشريف من الوضيع ، فهناك قبائل كريمة رفيعة المنزلة ، وهناك قبائل منحطة و ضيعة القدر . وهناك قبائل كريمة دون أخرى من المنزلة . فهل نساوي بالعرب سائر الأمم ؟
أم هل يساوي بقريش سائر العرب ؟ و ببني هاشم سائر العرب ؟
لا والله فالعرب خير من العجم ، وقريش خير من العرب و بنو هاشم خير من قريش .
وقد ثبت عنه أنه فضل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، وثبت عنه أنه فضل بعض قبائل العرب على بعض ، وأثنى على بعضها ، نفى الصحيحين عن أبي هريرة
-رضي الله عنه - أنه قال: ,, لازلت أحب تميماً لثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال :هم أشدُّ الناس على الرجال ، و لما جاءت صدقاتهم قال: هذه صدقات قومي ،وكانت منهم سبية عند عائشة فقال : اعتقيها فإنها من ملة إسماعيل ,,(2) أ الأنصار ، فقدم بني عبد ا ثم بني عبد الأشعل ثم بني الحارث بن الخزرج ثم بني ساعدة ، ثم قال: ,, في كل دور الأنصار خير ,, (3) .
وذكر بني تميم و بني عامر بن صعصعة وغطفان ، ثم أخبر أن مزينة و جهينة و أسلم وغفاراً خير منهم يوم القيامة .
ــــــــــــــــــ
(1): رواه مسلم(2490) والطبراني ( 3582) ، و علوم النبلاء : 2 /515
(2): البخاري : 3 / 194 ، ومسلم 16 / 78
(3): جمهرة العرب : 4 .
(4):مسلم : 16 /75 , والبخاري :4 / 221
ـ 11 ـ


ولو لم يكن في علم النسب منفعة لما اشتغل به الصحابة و التابعون وأكابر العلماء ، فهذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أعلم الناس بنسب قريش و سائر العرب ، و كذلك جبير بن مطعم و عقيل بن أبي طالب و ابن عباس ، وكانت الصديقة بنت الصديق كذلك ، رضي الله عنهم أجمعين .
ومن الأئمة : ابن شهاب الزهري و الشافعي و أبوعبيد القاسم بن سلام و الدارقطني وابن حزم وابن عبد البر وابن قدامة و السمعاني و الذهبي و ابن حجر العسقلاني و ابن ناصر الدين و جمهرة أخرى غيرهم (1).
وكما ترى فإن أكثر الناس اشتغالاً بهذا الفن هم أهل الحديث ، وهم الفرقة الناحية ، و الطائفة المنصورة ، وهم زبدة وعصارة الفكر الإسلامي الخالي من شوائب البدع و الضلالات ، ومن هذا وحده ردًّ على من يطغى في هذا العلم الشريف .
ولما فرض عمر بن الخطاب و عثمان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم الديوان ديوان العطاء ، جعلوه على القبائل ، ولو لا علمهم بالنسب لما أمكنهم ذلك .
ولو أخذنا في ذكر فوائد هذا العلم لطال بنا المقام ، و لم نقصد من ذلك سوى الرد على من قلل أهميته و أسقط قيمته : وكل ذلك يحث على دراسة هذا العلم و العناية به ، مع الحذر مما يقع به البعض من الطعن في الأنساب ، و التنافر في الأحساب فهي بلية عظمى ، وطآمة كبرى ، توفر الصدور وتولد الأحقاد و تجلب الإحن و المحن وتسبب الفتن ، وقد حذرنا من لاينطقه عن الهوى عن هذه الأمور ، وبيّن أنها من مسائل الجاهلية .
ــــــــــــــ
(1): انظرهم وغيرهم مفصلين من كتاب ,, طبقات النسابين ,, للشيخ بكر و زيد , و ,,المستدرك على طبقات النسابين ,, لكاتب هذه الأسطر ، نشر بعضه في مجلة العرب ، ولا يزال أكثره مخطوطاً .
وانظر ,, منية الراغبين في طبقات النسابين ,, لكمونة .



ـ 12 ـ


فقال عليه الصلاة و السلام : ,,أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر بالأحساب ، و الطعن في الأنساب ، و الاستسقاء بالنجوم ، و النياحة ,,(1) .


وهذا الحديث خرج منه كخرج الإخبار و الذم ، أيّ أن الأمة ستفعلها مع العلم بتحريمها أو مع الجهل بذلك ، مع كونها من أعمال الجاهلية المذمومة المكروهة المحرمة .







ـــــــــــــــ
(1): رواه مسلم 2/644
والفخر بالأحساب : أي التشرف بالآباء و التعاظم بعد مناقبهم ومآثرهم وفضائلهم ، على سبيل التنافر لا الإخبار، ,, وما أموالكم ولا أولادكم باللتي تقربكم عند زلفى ,, لأبي دأودٍ: ,,إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء ، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي ، الناس بنو آدم ، وآدم من تراب، ليدعن رجالهم فخرهم بأقوام إنما هم فحم نار جهنم ، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنها النتن ,, ، وفخر الإنسان بعمله مذموم، فكيف بعمل غيره .
رواه أبو داود (5116) والترمذي (3955) و محمد شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم 1/216
أما إذا كان ذكر المآثر و المناقب على سبيل الإخبار فلا بأس به .
و الطعن في الأنساب: أي الوقوع فيها بالعيب و النقص وقصد الذم و الحط من الرتبة ، ولما عيّر أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ بأمه بسوادها ، وقال له: يابن السوداء ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية ,, متفق عليه .
وانظر : ,, تيسير العزيز الحميد ,, 452 ، فتح الحميد لابن منصور مخطوط
,, فتح المجيد ,, 320 ، حاشية كتاب التوحيد 230
,, مسائل الجاهلية ,, وزوائدها للآلوسي وللدرويش .





ـ 13 ـ



ومن هذا التفاخر المذموم المنهي عنه ، ماوقع بين العدنانية و القحطانية من تفاخر أدى إلى صراع إذكى فتيلته الشعراء قرون عديدة ، وسأروي لك خبر قصيدة واحدة ،و ما جرته من ويلات و شرور :


ذكروا (1) أن الكميت بن زيد الأسدي قال قصيدته الزينة المذهبة في مفاخر عدنان ، لما قض بها أشعار حكيم بن عياش الكلبي الذي أولع بهجاء مضر ، و مطلع هذه القصيدة :


[poet font="simplified arabic,4,blue,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
ألا حـُيِّيـتَ عَنَّـا يا مَـد ينـا = و هـل بـأسٌ بـقول مسـلمينـا
لـنا قـمر السـماء وكل نـجم = تـشـير إليـه أيـدي المهتدينـا
وجـدت الله إذ سـمى نـزاراً = و أسـكـنهم بـمكـة قـاطنينـا
لنـا جـعل الكـارم خـالصات = و للنـاس القفـا، ولنـا الجـبينـا

[/poet]


وهي طويلة و رائعة ،ذكر(2) أبو الفرج الأصفهاني أنها تبلغ ثلاثمائة بيت ولم يترك فيها حياً من أحياء اليمن إلا هجاهم ، فانفجر الشر وأفرخ ، وثار اليمانيون ومن يتعصب لعرقهم و قال دعبل الخزاعي قصيدة من نفس القافية و الوزن بالغ فيها في الهجاء و أولها :

[poet font="simplified arabic,4,blue,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
أفـيقي من مـلامك يـاظعيـا = كـفاك اللـوم مـرّ الأربـعينـا
فإن يـك آل إسـرائـيل مـنكم = و كـنتم بـالأعـاجم فـاخرينـا
فلا تنـس الخـنازيـر اللواتـي = مسـخـن مع القرودر انجاسئينـا
بأيلة و الخليـج لـهم رسـوم = و آثـار قـدُمـْنَ و مـا بـلينـا
وما طلب الكمـيت طلـوب وتر = ولـكننـا لـنصرتنـا هـجينـا
لقد عـلمت نـزار أن قـومـي = إلى نـصر الـنبـوة فـاخرينـا


[/poet]

ــــــــــ
(1): ذكر أبو الفرج في الأغاني 17/9 أن الكميت كان يقول لشعراء مضر حين يهجون حكيم بن عياش ويجيبهم : هو و الله أشعر منكم . قالوا :فأحب الرجل ، فقال : إن خالد بن عبد الله القسري محسن إلي فلا أقدر أرد عليه ، قالوا: فاسمع بأذنك ما يقول في بنات خالك من الهجاء ، وايشدوه ذلك فحمي وقال المذهبة : ,, ألا حييت عنا يامدينا ,, ويقول الرواة إنها أكثر من300 بيت .
ـ 14 ـ

[poet font="simplified arabic,4,blue,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]

هـم كتبـوا الكتـاب ببـاب مرو = وبـاب الصـين كـانوأ الكـاتبينـا
قتلنا بـالفتـى القســري منـهم = وليـدهـم أمـيـر المـؤمـنينـا
ومروا فـاقـتلنـا عـن يـزيـد = كـذاك قـضـاؤنـا مـن المعتدينا
ويـا بن السـمط منـاقـد قتلنـا = محمـداً بـن هـارون الأمـينـا
و مـن يـك قتلـه سـوقـاً فإنـا = جعـلنـا مقـتل الخـلـفاء دينـا (2)


[/poet]

ويقال إن قصيدة دعبل تبلغ 600 بيت ، وقد حمل ذلك أبو سعيد المخزومي أن يقول :

[poet font="simplified arabic,4,blue,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
وأعجـب مـا سمعنـا أو رأينـا = هجـاء قالـه حـي لـميـت
وهذا دعبـل كـلـفٌ مـعـنى = بتـسـطير الأهاجـي في الكـميت
و مـا يـهجو الـكميت وقد طواه = الـروى إلا ابن فـاعلـة بـزيـت
[/poet]

ولأبي سعيد أيضاً نونية نا قض بها دعبل (3) .
ثم جاء الحسن بن زيد أبو الذلفاء ، فنقض قصيدة دعبل وقصيدة ابن أبي عينية(4) بقصيدة يهجو بها قبائل اليمن ويذكر مثالبهم ، ولم يكتف بل فسرها وذكر الأيام و الأحوال و سماها ,, الدافعة ,, ولعله أول من اتبع هذا الاسم ، ومطلع قصيدته :

[poet font="simplified arabic,4,blue,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
أمـا تـنفك مـتبولاً حـزينـا = بحـب البـيض تعصـى العـاذلينـا


[/poet]








ــــــــــــ
(1): القسري : هو خالد بن عبد الله القسري قتل سنة 126هـ بأمر الوليد بي يزيد .
ووليدهم : هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك قتل سنة 126هـ في قصة مشهورة، انظرفي ,, البداية و النهاية ,, 10/10 ، 23
(2): ديوان دعبل الخزاعي 148 ، الأغاني 20/120
(3): تطاول الشر بين أبي سعيد المخزومي ودعبل الخزاعي ، مما دفع بني مخزوم إلى أن ينكروا نسب أبي سعيد ، وينفونه عن نسبهم ، وأشهدوا بذلك على أنفسهم، خوفاً من لسان دعبل و‘ن يعمهم باللعنات .
(4):ذكر أبو الفرج الأصفهاني في ,, الأغاني ,, 20/120 أن عبد الله بن أبي عينية هجا نزاراً بقصيدة مشهورة وفضل عليها قحطان،وقد ناقض مذهبة الكميت . ,, الأغاني ,, 17/1

ـ 15 ـيتبع