مؤسسات عديدة تلك التي كان لها تأثير بالغ في نمو الحضارة الإنسانية وتطورها حتى ظهرت بصورتها الحديثة , ولكن أشهر تلك المؤسسات مكتبة بيت الحكمة ببغداد , أحد الكنوز العلمية التي أنتجها الفكر الإسلامي قديما ، كما أنتج غيرها من المكتبات العلمية في سائر الأقطار الإسلامية , والتي تناسى الناس دورها رغم أنها كانت بمثابة جامعة علمية عالمية, يقصدها الطلاب على اختلاف أجناسهم وأديانهم من الشرق والغرب لدراسة فنون العلم المختلفة ، وبلغات متعددة , وظل نورها يضيء للبشرية طريقها قرابة خمسة قرون حتى دمرت على أيدي التتار .
وقد أنشئت هذه المكتبة في القرن الثاني الهجري ( الثامن الميلادي ) حيث أسسها الخليفة العباسي هارون الرشيد ـ رحمه الله ـ وذلك بعد أن ضاقت مكتبة قصره بما فيها من كتب , وعجزت عن احتواء القراء المترددين عليها , مما جعله يفكر في إخراجها من القصر , وإفرادها بمبنى خاص بها , يصلح لاستيعاب أكبر عدد من الكتب , ويكون مفتوحا أمام كل الدارسين وطلاب العلم.
فاختار لها مكانا مناسبا , وأقام عليه مبنى مكونا من عدة قاعات , قاعة للاطلاع , وقاعة للمدارسة , وقاعة لنسخ الكتب الجديدة وتجليدها , وقاعة للترويح عن النفس وللاستراحة , ومسجدا للصلاة , ومكانا يبيت فيه الغرباء , تتوفر فيه مقومات الحياة من طعام وشراب وغيره , ومخزنا للكتب , نظمت فيه بحيث صار لكل فن من الفنون العلمية مكان خاص به , وتوضع فيه مرتبة في دواليب , يحمل كل دولاب عنوانا لما فيه من كتب , وأرقامها , ثم جعل لكل فن فهرست خاص به , يشمل عناوين وأرقام الكتب , وتعريف بكل كتاب ومؤلفه , وعدد أجزائه وصفحاته , واللغة التي كتب بها , وإشارة إلى أجزائه المفقودة إن كان فقد منه شيء .
ثم زودها بما تحتاج إليه من أثاث ومرافق , وأحبار وأوراق للدارسين , وعين لها المشرفين على إدارتها , والعمال القائمين على خدمة ورعاية زائريها .
وأحضر لها كبار العلماء في فنون العلم المختلفة , مسلمين وغير مسلمين عربا وعجما , وأجزل لهم العطاء , وفتح لهم باب المناقشات الحرة فيها , وإقامة المناظرات العلمية , وتصنيف الكتب, وشجع الطلاب على التردد عليها من شتى الأرجاء ، ورصد لهم المكافآت , وأجرى عليهم الأرزاق والعطايا .
وصار يجلب إليها كل كتاب يسمع عنه , بل وشجع التجار الذين كانوا يرحلون إلى بلاد فارس والروم والهند بشراء ما يقع تحت أيديهم من كتب أيا كان نوعها, وحض باقي الناس على المساهمة في ذلك حتى قيل : إنه كان في بعض الأوقات يقبل الجزية ممن تجب عليهم كتبا ، كما أحضر لها مئات النساخ والشراح والمترجمين من شتى اللغات ؛ لتعريب ونقل الكتب من لغتها الأصلية .
وواصل ابنه المأمون بعده الاهتمام بتلك المكتبة , حتى غدت من أعظم المكتبات في العالم , ووضع بها مرصدا ؛ ليكون تعليم الفلك فيها تعليما عمليا ، يجرب فيها الطلاب ما يدرسونه من نظريات علمية , وبنى بها مستشفى لعلاج المرضى وتعليم الطب , إذ كان يؤمن بأن العلم النظري وحده لا جدوى منه .
وكتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذ ما عنده من العلوم القديمة المخزونة المورثة عن اليونان , وكانت تقاليد الروم وقتها تمنع من مطالعتها , ثم أجابه إلى ذلك بعد امتناع , فجهز المأمون بعثة علمية , وزودها بنفر من المترجين , وجعل على رأسها المشرف على مكتبة" بيت الحكمة " , وتجولت تلك البعثة في كثير من الأماكن المختلفة التي يظن أن فيها مخازن للكتب اليونانية القديمة , وعادت إليه بطرائف الكتب , وغرائب المصنفات في الفلسفة والهندسة والموسيقى والطب والفلك ، وغير ذلك من العلوم .
كما راسل المأمون باقي الملوك في عصره يسألهم أن يسمحوا لبعثاته بالبحث والتنقيب عن الكتب في المخازن القديمة , ومن أطرف ما حكي في ذلك أن إحدى هذه البعثات العلمية وجدت تحت حصن قديم ببلاد فارس صناديق , بها كتب كثيرة قد تعفنت حتى فاحت منها رائحة نتنة , فأخذتها رجال البعثة, وحملوها إلى بغداد وبقيت حولا كاملا حتى جفت وتغيرت ، وزالت الرائحة عنها , ثم أقبلوا بعد ذلك على دراسة ما فيها ـ وللقارئ أن يتخيل إلى أي مدى وصل هؤلاء من الحرص على العلم , والفرق بينهم وبين أجيال المسلمين المعاصرة ، وما هم عليه من زهد في القراءة وإعراض عنها ـ .
واجتمع لدى المأمون بذلك ثروة هائلة من الكتب القديمة , فشكل لها هيئة من المترجمين المهرة والشراح والوراقين, للإشراف على ترميمها ونقلها إلى العربية , وعين مسئولا لكل لغة يشرف على من يترجمون تراثها , وأجرى عليهم الرواتب العظيمة , حيث جعل لبعضهم خمسمائة دينار في الشهر, أي ما يساوي 2كيلو جرام ذهبا تقريبا , بالإضافة إلى الأعطيات الأخرى , إذ أعطى على بعض الكتب المترجمة وزنها ذهبا.
وقد ذكر ابن النديم في كتابه الفهرست أسماء لعشرات ممن كانوا يقومون بالترجمة من اللغات الهندية واليونانية والفارسية والسريانية والنبطية,وهؤلاء لم يقوموا بترجمة الكتب إلى العربية فقط , وإنما إلى سائر اللغات الحية المنتشرة داخل المجتمع الإسلامي ؛ كي ينتفع بها جميع من يعيش داخل البلاد الإسلامية على اختلاف جنسياتهم , وبعضهم كان يقوم بترجمة الأصل إلى لغته هو , ثم يقوم مترجم آخر بنقله إلى العربية وغيرها , كما كان يفعل يوحنا بن ماسويه الذي كان ينقل الكتاب إلى السريانية , ثم يكلف غيره بنقله إلى العربية ، مع الاحتفاظ بالأصل بعد صيانته وتجليده .
ومن يراجع كتب الفهارس التي نقلت عن هذه المكتبة يجد إشارات كثيرة تدل على أن الكثير من الكتب كان يوجد منها نسخ نبطية وقبطية وسريانية وفارسية وهندية ويونانية , وقدم علماء المسلمين بذلك خدمة جليلة للبشرية جمعاء , بنقلهم لهذا التراث الذي كان مهددا بالزوال , ولولاهم ما عرف الناس في العصر الحديث شيئا عن المصنفات اليونانية والهندية الثمينة القديمة, حيث كان يحرم الاطلاع عليها في كثير من البلدان التي جلب منها , وكان يحرق منها ما يعثر عليه, كما فعل بكتب أرشميدس العالم الشهير, إذ أحرق الروم منها خمسة عشر حملا.
وبالطبع لم يقتصر دور هؤلاء العلماء على الترجمة , وإنما قاموا بالتعليق على هذه الكتب ، وتفسير ما فيها من نظريات , ونقلها إلى حيز التطبيق , وإكمال ما فيها من نقص , وتصويب ما فيها من خطأ , حيث كان عملهم يشبه ما يسمى بالتحقيق الآن , كما يفهم من تعليقات ابن النديم على بعض تلك الكتب.
وما إن انتهى عصر المأمون حتى كانت معظم الكتب اليونانية والهندية والفارسية وغيرها من الكتب القديمة في علوم الرياضة والفلك والطب والكيمياء والهندسة موجودة بصورتها العربية الجديدة بمكتبة " بيت الحكمة " وفي ذلك يقول ول ديورانت صاحب كتاب " قصة الحضارة " :لقد ورث المسلمون عن اليونان معظم ما ورثوه من علوم الأقدمين , وتأتي الهند في المرتبة الثانية بعد بلاد اليونان .
ورغم أن هذه المكتبة قد جمع فيها كما قال القلقشندي من الكتب ما لا يحصى كثرة , ولا يقوم عليه نفاسة إلا أنها لم تكن الوحيدة في العالم الإسلامي , وإنما كان ثمة الكثير من المكتبات التي لم تقل شأنا عن عنها ؛ لأن الأمراء المسلمين كانوا يتنافسون في جمع الكتاب , حتى إن أمير الأندلس كان يبعث رجالا إلى جميع بلاد المشرق ليشتروا له الكتب عند أول ظهورها , وكان الخليفة الفاطمي ( العزيز ) بمصر لا يسمع عن كتاب إلا جلبه إلى مكتبته بالقاهرة .
وقد لعبت هذه المكتبة مع كثير من المكتبات الإسلامية الأخرى دورا كبيرا في حدوث نهضة علمية في سائر المجالات عند المسلمين الأوائل , ومن تتلمذ على أيديهم من أبناء الأمم الأخرى , نهضة لم بشهد لها التاريخ مثيلا قبل العصر الحديث , هذا في الوقت الذي كانت أوربا (كما يقول سارتون أحد علمائها ) في حال مزرية من البداوة والتخلف .
منقوول