الدولةُ العثمانية إسلاميةٌ في نشأتِها وتوجهاتها وغايتها، وفي قاعدتِها الشعبية المحكومة، وقد استمرت ستةَ قرون، وظلَّتْ مسيطرةً على سياسة العالم عدة قرون، ويرجع إليها الفضلُ في نشر الإسلام في كثير من مناطق أوربا، وبخاصة بلدان أوربا الشَّرقيةِ، وحافظتْ على تراث الإسلامِ الدِّيني والثقافي، والتزمت في قوانينِها تشريعاتِه ومبادئه، وعمَّرت مؤسساتِه ومساجده، واهتمَّتْ بشعائره من صلواتٍ وحجٍّ ومقدسات، وحافظت على وحدةِ المسلمين، وحمتهم من التيارات الصَّليبيةِ والمذاهب الهدَّامة.

وكانت للدولةِ العثمانية أيضًا مثالبُ وعيوب شأن أيِّ نظامٍ أو دولة، وبخاصةٍ في عصورِ ضعفها، وأهمها: أنَّها كانت دولة عسكرية دكتاتورية إلى حدٍّ كبير، ووقع كثيرٌ من الظُّلمِ على رعاياها.

وقد تعرَّضتْ هذه الدولةُ - نظرًا لطبيعتها الإسلامية - لكثيرٍ من المؤامراتِ، وتكالبتْ عليها القوى المعاديةُ للإسلام من صليبيين واستعماريين وصهاينة واتحاديين وعلمانيين، فسقطتْ في النهايةِ، وترتَّبَ على سقوطِها نتائجُ خطيرة أهمها:

انفراط الوحدةِ السياسية للعالم الإسلامي، وفقدانه للقوةِ التي تدافعُ عنه، ووقوعه فريسةً سهلة في أيدي القوى الاستعمارية الغربية، ونجاح الصِّهيونية في مواصلةِ مخططاتِها، حتى أقامتْ لها دولةً في فلسطين، وسعار الغزو الفكري والحضاري، وحملات الاستشراقِ والتشكيك ضدَّ الإسلام عقيدةً وفكرًا وحضارة.

ومن أجلِ ذلك وجب على كلِّ مسلمٍ أن يدرسَ تلك الحقبة الهامة من تاريخِه؛ ليعرف إلى أين ينتمي وإلى أين يُقاد.

ظهور العثمانيين:
ينتمي العثمانيون إلى الجنسِ التركي الذي يعيشُ في تركستان بأواسط آسيا؛ حيثُ مناطق الاستبس الرعوية، وهم جنسٌ يتَّسمون بقوةِ الأجسام وبراعةِ القتال والأنفة، ويفتقرون إلى الثقافةِ والحضارة، ويعيشون حياةً قبلية ويتبعون زعماءَهم، وهؤلاء التركُ عدَّةُ طوائف؛ أهمهم الغز أو الأوغز الذين ينتمي إليهم السَّلاجقةُ والعثمانيون.

وارتبط ظهورُ العثمانيين في التاريخِ بالغزو المغولي الذي اجتاحَ بلادَ الشَّرقِ الإسلامي؛ ومنها تركستان، واضطرت بعضُ قبائل الترك إلى الرحيل أمام هجماتِ المغول الوحشية، ومذابحهم الجماعية لشعوبِ هذه المناطق، ووصلتْ إحدى قبائل الغز إلى هضبةِ الأناضول التي تُعرف أيضًا بآسيا الصغرى (وهي تمثِّلُ الآن الجانبَ الأكبر من الشطرِ الآسيوي لدولةِ تركيا الحالية)، وكان زعيمُهم يُدعى "أرطغرل".

وتذكرُ الرِّوايات العثمانية القديمة أنَّ هذه القبيلة التقت في طريقِها مصادفةً بجيشين يقتتلان، دون أن يعرفوا هويتَهما، فأحسُّوا بتعاطفٍ نحو الجيش الضعيف قليلِ العدد الذي كان يقاتلُ ببسالة، ولكنَّه لا يستطيعُ الصمود أمام أعدائه الأكثر عددًا ويكادُ أن ينهزم، فانضمُّوا إليه وقاتلوا معه، دون أن تكون لهم في هذه الحربِ ناقةٌ ولا جمل، وهذا يدلُّ على روحهم القتالية وطبيعتهم الحربية، واستطاعوا أن ينتزعوا النَّصرَ، وكانت سعادتُهم غامرة عندما اكتشفوا أنَّ الجانبَ الذي انحازوا إليه هم بقايا السلاجفة الأتراك من بني جلدتهم، وأنَّ الجانب الذي هزموه هم جحافل التتارِ من جيش أوكطاي بن جنكيز خان.

وقد كافأهم أميرُ السلاجقة علاء الدِّين كيقباذ (ت 634هـ) صاحب "قونية"، وهي مدينةٌ في قلبِ الأناضول على بعد (260كم) جنوب أنقرة - فأقطع أميرَهم أرطغرل إقليمَ "سكودا" ذا السُّهولِ الخصبة الواسعة المتاخم للدَّولةِ البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية، واتخذ أرطغرل الهلالَ شعارًا له، ولا يزالُ هذا الرمز موجودًا على العلم التركي، وعلى كثيرٍ من شعاراتِ المسلمين في مختلف البلدان.

وكان هدفُ الأمير السلجوقي أن يجعلَ هذه القبيلة حاجزًا بشريًّا يحميه من خطرِ اليبزنطيين، وفي نفسِ الوقت يشغلها عن التفكيرِ في الاستيلاء على مملكته.

وقد اختلف موقفُ المؤرِّخين المحدثين من هذه الرِّوايةِ بين مصدِّقٍ ومكذِّب، فمنهم من يراها حقيقةً؛ لأنَّها مأخوذة عن رواةٍ معاصرين للحدث، ومنهم من يعدها من قبيلِ الأساطير.

وكان أرطغرل طموحًا فبدأ غزواتِه من أجلِ التوسع على حساب الدولة البيزنطية، معلنًا أنَّ فتوحاته باسم الأمير علاء الدين كيقباذ السلجوقي، وضمَّ إليه بعضَ مقاطعاتهم وأهمها مقاطعة.

وتُوفي أرطغرل بعد أن عمَّر ثلاثةً وتسعين عامًا سنة (699هـ/ 1299م)، وخلفه ابنُه عثمان الذي تنسبُ الدولةُ إليه، وكان في الثالثةِ والأربعين من عمره؛ إذ إنَّه ولد سنة (656هـ/ 1258م) وهي السنة التي غزا فيها التتارُ العراق، وأسقطوا فيها بغدادَ والخلافة العباسية، فكان قيام الدَّولة العثمانية تجديدًا لدماءِ الإسلام والمسلمين، واستئنافًا لعهدِ الجهاد والفتوحات العظيمة.

ويرى بعضُ المؤرِّخين أنَّ هذه القبيلة كانت مسلمة قبل أن تأتيَ إلى الأناضول إبان حياتها الأولى في تركستان، ويرى بعضٌ آخر أنَّها أسلمتْ في عهد أميرِها عثمان بن أرطغول، أو كانت قبل ذلك في مرحلةِ تحوُّلٍ من الوثنيةِ إلى الإسلام، ثم اكتمل إسلامُها في عهده.

وكان عثمان في شبابِه المبكِّر يتردَّدُ على بيتِ أحد الفقهاء المقيمين في قريةٍ قرب مدينة "آسكى شهر" يُدعى الشيخ "أده باللي"، ويذكرُ في المصادر العربية "الشيخ أدب عال" فتلقَّى العلمَ على يديه، وتزوَّج من ابنتِه "مال خاتون".

ومما يذكره الرُّواةُ أنَّ عثمان قبل أن يصاهر الشيخ كان في بيتِه، أخذته غفوة فرأى قمرًا ينبثقُ من صدر هذا الفقيه ثم يصير بدرًا، وتخرجُ من صدره شجرةٌ ضخمة وارفة تغطِّي فروعُها البلدان، وتنسابُ من جذورها الأنهارُ، ثم هبت عليها ريحٌ فحوَّلتْها إلى سيف له مقبضٌ مرصَّعٌ بالأحجارِ الكريمة، فأمسك به عثمان، فلمَّا قصَّ رؤياه على الشيخِ بشَّره بعلوِّ شأنه واتساعِ ملكِه وزوَّجه من ابنتِه.

ومهما يكن من أمرِ هذه الرِّواية وأمثالها، فإنَّ هذه القبيلة اعتنقت الإسلامَ عن يقين وتحمَّستْ له وجاهدت لنشرِه وإعلاء كلمته، وكان لمعيشتِهم داخل دولةِ سلاجقة الروم أثرٌ في تعمق إسلامِهم، فقد كان السلاجقةُ قبلهم مسلمين متحمِّسين، لهم باعٌ طويل وتاريخٌ حافل في نصرةِ الإسلام، وجهادِ الروم والتتار.

ولم تستطعْ دولةُ سلاجقة الروم أن تصمدَ أمام هجمات المغول طويلاً، فسقطت سنة (699هـ/ 1300م)، ثم تُوفي سلطانُها علاء الدين كيقباذ الثالث سنة (707هـ/ 1307م)، وانفرط عقدُ دولتِه، واستقلَّ كلُّ أميرٍ بما تحت يدِه، وأصبح عثمانُ بن أرطغرل منذ ذلك الحين أميرًا لدولةٍ مستقلة.

سياسة عثمان لتوطيد أركان دولته:
تحوَّل العثمانيون في وقتٍ قصير من قبيلةٍ متنقلة إلى دولةٍ مستقرة، واستطاعوا أن يجدوا لأنفسِهم مكانًا وسط الإمبراطورياتِ القديمة، والإمبراطوريةِ البيزنطية المتداعية، والإمبراطوريةِ السُّلجوقية المتهالكة، وإمبراطوريةِ المغول الواسعة، ودولةِ المماليك الفتية في أَوْج مجدِها، واستطاعت الدولةُ العثمانية بجهودِ أبنائها وقادتها أن ترثَ ما بقي من دولتي السلاجقةِ والبيزنطيين، ثم نجحتْ في فترةٍ تالية في القضاءِ على دولة المماليك، وضمِّ ممتلكاتهم.

واستطاع عثمانُ منذ بداية عهده أن يحقِّقَ انتصاراتٍ كبيرة على البيزنطيين، واهتمَّ بالنواحي السياسية والإدارية إلى جانبِ اهتمامِه الكبير بتنميةِ إدارته العسكرية.

وكانت المشكلةُ التي تواجهه هي قلة عشيرتِه وعدد أفراد قبيلته بالنسبةِ لآمالِه وطموحاته التي يرمي إليها، فعملَ على الاستكثارِ من الجندِ بشراء الرَّقيق، والاستزادةِ من الأنصار بالزَّواج السياسي من كِتابيات من البلدانِ المجاورة ليكسبَ ودَّهم، ويقوي عَلاقتِه بهم، فتزوَّج من سيدةٍ من "قليقيا" (أرمينيا الصغرى)، وزوَّج ابنَه "أورخان" من يونانية.

وضمَّ عثمان إليه بعضَ المغامرين والمتمرِّدين على الدولةِ البيزنطية؛ مثل: ميخائيل ذي اللحية المفرجنة البيزنطي المنشق، وجعله قائدًا في جيشِه ونائبًا عنه في الحروب.

واستَكمَل عثمانُ سيطرتَه على الأناضول، ووصل إلى مدخل البسفور والجزر الواقعة في بحرِ مرمرة، واستولى على عدةِ قِلاعٍ بيزنطية، وكان ابنُه أورخان يتولَّى مهمةَ هذه الفتوحات، وتوَّج انتصاراتِه بالاستيلاء على مدينة "بروسة" التي تبعدُ عن بحرِ مرمرة بنحو (25كم) بعد أن قاومتْ لمدة عشرِ سنوات، حتَّى سقطت سنة (726هـ/ 1325م)، وكان السُّلطانُ عثمان على فراشِ الموت، فأسعدتْه هذه الأنباء.

وكانت بروسة حصينةً منيعة؛ لأنَّها تقعد في الانحدار الشَّمالي لجبل "أوليموس"، ويمكنُ عن طريقِها مهاجمة شواطئ بحر مرمرة وغزو القسطنطينية التي كانت هدفًا أسمى للعثمانيين؛ ولذا اتخذها أورخانُ بنُ عثمان عاصمةً للدولة منذ سنة (728هـ/ 1327م)، واستمرَّت كذلك حتى سنة (763هـ/ 1361م)؛ حيثُ نُقلت العاصمةُ إلى أدرنة، ثم تحوَّلتْ إلى القسطنطينية (أسلامبول) بعد فتحِها على يد السُّلطان محمد الثاني الفاتح سنة (857هـ/ 1453م)، ثم أصبحتْ في العصور التالية من أهمِّ المراكز لتجارة الحريرِ في العالم.

وعقب فتحِ بروسة أُضفيَ عليها الطَّابعُ الإسلامي، وعمِّرت فيها المساجد، ونُقل إليها رفاتُ السلطانِ وهو "الدولة العلية"، ثم "السلطنة السنية"، ثم أُطلقَ عليها بعد اتساعِها وامتداد فتوحاتها "الإمبراطورية العثمانية" و"الدولة العثمانية"، ولم يطلق عليها اسمُ "تركيا" إلاَّ في عهدِ الكماليين، عندما أسقطوا الخلافةَ وأعلنوا الجمهوريةَ سنة (1923م)، وكان هدفُهم من ذلك الابتعاد عن المسارِ الإسلامي، وطمسِ الهوية الإسلامية للدولة، وبترِها عن تاريخِها وتقاليدها، وإضفاء الصفة القومية العرقية عليها

د. محمد عبدالحميد الرفاعي

منقول